نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول النبي: الدين النصيحة لله ولرسوله

          ░42▒ (باب) بالإضافة إلى (قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم : الدِّينُ) أي: عماد الدِّين وقوامه، أو معظم أركان الدِّين (النَّصِيحَةُ) كما يقال: «الحج عرفة»؛ أي: عماد الحج وقوامه أو معظم أركانه وقوف عرفة، ويحتمل أن يحمل على ظاهره؛ لأن كل عمل لم يرد به عامله الإخلاص فليس من الدِّين، والنصيحة مأخوذة من نَصَحَ الرجل ثوبه إذا خاطه بالمنصحة وهي الإبرة، والمعنى: أنه يلم شعث أخيه بالنصح كما تلم المنصحة، ومنه التوبة النصوح كأن الذنب يمزق الدِّين والتوبة تخيطه، وقيل: إنها مشتقة من نصحت العسل إذا صفيته من الشمع، شبَّه تخليص القول من الغش بتخليط العسل من الخلط، وفي كتاب ابن طريف: (نصح قلب الإنسان خلص من الغش)، وفي ((الصِّحاح)): (هو بالَّلام أفصح، وقيل: نصحته؛ أي: صدقته)، وقال الخطابي: (النصيحة كلمة جامعة معناها حيازة الحظ للمنصوح له وهي من وجيز الأسماء ومختصر الكلام، / وليس في كلام العرب كلمة يستوفى بها لعلها العبارة عن معنى هذه الكلمة كما قالوا في الفلاح: ليس في كلام العرب كلمة مفردة يستوفي بها العبارة عن معنى ما جمعت من خير الدنيا والآخرة).
          (لِلَّهِ)؛ تعالى، وفي رواية مسلم: ((قلنا: لمن؟ قال: لله))، وفي رواية إمام الأئمة مالك: ((فقال رجل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله)) ومعنى النصيحة لله يرجع إلى الإيمان به، ونفي الشريك عنه، وترك الإلحاد في صفاته، ووصفه بصفات الجلال والجمال، وتنزيهه عن النقائص والقيام بطاعته واجتناب معصيته وموالاة من أطاعه ومعاداة من عصاه، والاعتراف بنعمته، والشكر عليها، والإخلاص في جميع الأمور.
          وروى الثوري عن عبد العزيز بن رُفَيع، عن أبي ثمامة صاحب علي ☺ قال: قال الحواريون لعيسى ╕: يا روح الله من الناصح لله؟ قال: ((الذي يُقدِّم حق الله على حق الناس))، وحقيقة هذه الإضافة راجعة إلى العبد في نصيحة نفسه، فإن الله تعالى غني عن نصح الناصح وعن العالمين.
          وفي رواية مسلم وكذا في رواية مالك ((ولكتابه)) ومعنى النصيحة لكتابه سبحانه وتعالى الإيمان بأنه كلام الله تعالى وتنزيله، ولا يشبهه شيء من كلام المخلوقين، ولا يقدر على مثله أحد منهم، ثم تعظيمه وتعلُّمه وتعليمه وتلاوته حق تلاوته، وإقامة حروفه في التلاوة، والتصديق بما فيه وتفهم علومه، والعمل بمحكمه، والتسليم لمتشابهه، والبحث عن ناسخه ومنسوخه وعمومه وخصوصه وسائر وجوهه ونشر علومه والدعاء إليه.
          (وَلِرَسُولِهِ)؛ ومعنى النصيحة تصديقه على الرسالة والإيمان بجميع ما جاء به، وطاعته في أوامره ونواهيه، ونصرته حياً وميتاً، وإعظام حقه، وإحياء سنته، والتلطف في تعلُّمها وتعليمها، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، ومحبة أهل بيته، وأصحابه، وأتباعه.
          (وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ)؛ من الخلفاء والولاة، والنصيحة لهم بمعاونتهم على الحق وطاعتهم فيه وتذكيرهم برفق، وترك الخروج عليهم بالسيف ونحوه، والصلاة خلفهم، والجهاد معهم، وأداء الصدقات إليهم، ومن أعظم النصيحة لهم دفعهم عن الظلم بالتي هي أحسن، ومن جملة أئمة المسلمين علماء الدين، وأئمة الاجتهاد ونصيحتهم قَبول ما رووه، وتقليدهم في الأحكام، وإحسان الظن بهم، وبث علومهم ونشر مناقبهم.
          (وَعَامَّتِهِمْ)؛ بإرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم، والشفقة عليهم، والسعي فيما يعود نفعه إليهم، وكف الأذى عنهم، وتعليم ما جهلوا، وإعانتهم على البر والتقوى، / وستر عوراتهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير، وفي الحديث فوائد: منها: ما قيل إن الدِّين يطلق على العمل؛ لأنه سمَّي النصيحة ديناً، وعلى هذا المعنى بنى المؤلف أكثر كتاب الإيمان. ومنها: أن النصيحة فرض على الكفاية لازم على قدر الطاقة إذا علم الناصح أنه يقبل نصحه ويطاع آمره وأمن على نفسه المكروه فإن خشي فهو في سعة فيجب على من علم بالمبيع عيباً أن يُبيِّنه بائعاً كان أو أجنبياً ويجب على الوكيل والشريك والخازن النصح. ومنها: أن النصيحة كما هو فرض للمذكورين فكذلك هي فرض لنفسه بأن ينصحها بامتثال الأوامر واجتناب المناهي، ثم إن هذا الحديث حديث عظيم جليل عليه مدار الإسلام كما قيل: إنه أحد الأحاديث الأربعة التي عليها مدار الإسلام فيكون هذا ربع الإسلام.
          وقال النووي: (بل هو وحده محصِّل لغرض الدِّين كله؛ لأنه منحصر في الأمور التي ذكرت فيه).
          وإنما ذكره المؤلف معلَّقاً ولم يخرجه مسنداً في هذا الكتاب؛ لأن رواية تميم الداري وأشهر طرقه سُهيل بن أبي صالح وليس من شرطه، ولم يخرج له في ((صحيحه))، وقد أخرج له مسلم والأربعة، وروى عنه مالك، ويحيى الأنصاري، والثوري، وابن عيينة، وحماد بن سلمة، وخلق كثير، وقال المؤلف: (سمعت علياً _يعني ابن المديني_ يقول: كان سُهيل بن أبي صالح مات له أخ فوجد عليه فنسي كثيراً من الأحاديث)، وقال يحيى بن معين: لا يحتج به، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، وقال ابن عدي: وهو عندي ثبت لا بأس به مقبول الأخبار، وقد روى عنه الأئمة، فلمَّا لم يكن عند البخاري من شرطه لم يأتِ فيه بصيغة الجزم ولا ذكره في معرض الاستدلال، بل أدخله في التبويب؛ تنبيهاً على صلاحيته في الجملة، وما أورده من الآية والحديث يشتمل على ما تضمنه، وقد أخرجه مسلم في «الإيمان»، وأبو داود في «الأدب»، والنسائي في «البيعة».
          (وَقَوْلِ)؛ بالجر عطفاً على قول النبي صلعم ، (الله تَعَالَى)؛ وفي رواية: <╡> بدل «قوله تعالى»، وفي رواية <وقول الله> أي: في سورة التوبة {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ} الهرمى {وَلَا عَلَى الْمَرْضَى} أي: الزمنى {وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ} لفقرهم كجهينة ومزينة وبني عذرة {حَرَجٌ} [التوبة:91].
          ({إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ})؛ بالإيمان / والطاعة في السر والعلانية كما يفعل الموالي الناصح، أو بما قدروا عليه فعلاً أو قولاً يعود على الإسلام والمسلمين بالصلاح، ({مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}) أي: ليس عليهم جناح ولا إلى معاتبتهم سبيل، وإنما وضع المحسنين موضع الضمير؛ للدلالة على أنهم منخرطون في سلك المحسنين غير معاتبين لذلك، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:91] لهم أو للمسيء فكيف المحسن؟
          ثم وجه المناسبة بين البابين: أن المذكور في الباب الأول أن الأعمال بالنيات وأنها لا تقبل إلا إذا كانت ابتغاء لوجه الله تعالى مع ترك الرياء والعمل على هذا الوجه من جملة النصيحة لله تعالى ولرسوله حيث أتى بعمله على وفق ما أمر الله به ورسوله مجتنباً عما نهاه عنه ورسوله.