نجاح القاري لصحيح البخاري

باب إفشاء السلام من الإسلام

          ░20▒ (بابٌ) بالتنوين رواية، ويجوز عدم التنوين إمَّا على طريقة التِّعداد، وإمَّا على طريقة الإضافة إلى قوله: (السَّلاَمِ) بالرفع على أنَّه مبتدأ خبره (مِنَ) شعب (الإِسْلاَمِ) / وفي رواية كريمة: <باب إفشاء السلام>؛ أي: إذاعته ونشره من الإسلام، وهو موافقٌ للحديث المرفوع، أعني قوله ◙: ((وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)).
          ووجه المناسبة بين البابين: أنَّ من جملة المذكور في الباب السَّابق أن الدِّين هو الإسلام، والإسلام لا يكملُ إلا باستعمال خِلاله، ومن جملة خِلاله إفشاء السَّلام.
          وفي هذا الباب بيان هذه الخلَّة مع زيادة خلَّتين: هي إطعام الطَّعام، والإنصاف من نفسه.
          (وَقَالَ) بالواو الابتدائية (عَمَّارٌ) هو أبو اليقظان _بالمعجمة_، عمَّار بن ياسر بن عامر المخزومي العنسي _بالنون_ التَّميمي، ثمَّ الشَّامي.
          وعنس: هو رهط الأسود العنسي الكذَّاب، أسلم قديماً هو وأبوه ياسر، وأمُّه سميَّة بصيغة التَّصغير من السمو، وكانت بنت خياط، وقيل: كانت أمه لأبي حذيفة المغيرة زوجها ياسراً لما قدم من اليمن إلى مكة فولدت له عماراً فأعتقها أبو حذيفة، وكان ياسر حالف أبا حذيفة، وكان عمار وأبواه ♥ يعذبون في الله تعالى بمكة فيمر بهم النَّبي صلعم وهم يعذَّبون فيقول: ((صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)) وكانوا من المستضعفين وهم قوم لا عشائر لهم بمكة، ولا منعة، ولا قوَّة، كانت قريش تعذبهم في الرمضاء، فكان عمَّار يعذَّب حتى لا يدري ما يقول، وصهيب وفكيهة وبلال ♥ كذلك، وفيهم نزل قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا} [النحل:110].
          وعن عَمرو بن ميمون قال: أَحرق المشركون عمَّار بن ياسر بالنَّار، فكان عليه [السلام] يمر به، ويمر بيديه على رأسه فيقول: ((يا نار كوني برداً وسلاماً على عمَّار، كما كنتِ على إبراهيم، تقتُلك الفئة الباغية)). وعن ابن ابنه قال: أخذَ المشركون عمَّاراً فلم يتركوه حتَّى نال من رسولِ الله صلعم وذكر آلهتهم بخيرٍ، فلمَّا أتى رسول الله صلعم قال: ((ما وراءك؟)) قال: شرٌّ يا رسول الله، والله ما تُركت حتى نلتُ منك وذكرت آلهتهم بخيرٍ، قال: ((فكيف تجد قلبك؟)) قال: مطمئناً بالإيمان، قال: ((فإن عادوا فعدْ))، وفيه نزل: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل:106].
          وهاجر إلى الحبشة، ثم إلى المدينة وصلَّى إلى القبلتين، وشهد بدراً والمشاهد كلها، وهو أول من بنى مسجداً لله في الله، بنى مسجد قباء، وقال له رسول الله صلعم : / ((ملئ عمَّار إيماناً إلى أخمصِ قدميه)). وقال له أيضاً: ((مرحباً بالطيِّب المُطيَّب))، وقال أيضاً: ((اهتدوا بهدي عمار)). وشهد صفِّين يذب عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ☺، وكانت الصَّحابة يومئذ يتبعونه حيث توجَّه؛ لعلمهم أنَّه مع الفئة العادلة؛ لِما قال له رسول الله صلعم : ((تقتلك الفئة الباغية)) وقتل بصفِّين، ودفنه علي ☺ بثيابه حسبما أوصاه به ثمَّة ولم يغسله.
          وقال صاحب ((الاستيعاب)): وروى أهل الكوفة: أنَّه صلَّى عليه وهو مذهبهم في الشُّهداء أنهم لا يغسلونهم، ولكن يُصلَّى عليهم، وذلك في صفر سنة سبع وثلاثين، وهو ابن ثلاث أو أربع وتسعين.
          وكان رجلاً آدم طويلاً أشهل العينين بعيد ما بين المنكبين لا يغير شيبه، وكان إسلامه بعد بضعة وثلاثين رجلاً وهو أحد السَّابقين الأولين، وآخى النَّبي صلعم بينه وبين حذيفة، رَوَى عن: عليٍّ ☺ وعن غيره من الصَّحابة ♥ .
          روي له اثنان وستون حديثاً اتَّفقا منها على حديثين، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بحديث واحدٍ.
          هذا وأمَّا أمه سميَّة فقتلها أبو جهل، وكانت أوَّل شهيدةٍ في الإسلام، ثمَّ هذا الأثر من تعليقات البخاري، وقد أخرجه أحمد بن حنبل في كتاب الأيمان من طريق سفيان الثَّوري، ورواه يعقوبُ بن شيبة في ((مسنده)) من طريق شعبة، وزهير ابن معاوية وغيرهما كلهم عن أبي إسحاق السَّبيعي، عن صلة بن زُفَر، عن عمَّار. ولفظ شعبة: ((ثلاث من كنَّ فيه فقد استكملَ الإيمان)) وهو بالمعنى، وهكذا روي في جامع مَعمَر عن أبي إسحاق، وكذا حدث به عبد الرزاق في ((مصنفه)) عن معمر، وكذا روى غيره.
          (ثَلاَثٌ) أي: ثلاث خصال، وقد مرَّ إعراب نظيره في قوله: ثلاث من كنَّ فيه فقد وجدَ حلاوة الإيمان (مَنْ) موصولة متضمِّنة لمعنى الشرط، فلذا دخل الفاء في خبرها (جَمَعَهُنَّ) صلة من الموصولة (فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَانَ) أي: حاز كماله، تدلُّ عليه رواية شعبة: ((فقد استكمل الإيمان)).
          (الإِنْصَافُ) أي: العدل (مِنْ نَفْسِكَ) يقال: أنصفَه من نفسه، وانتصفتُ أنا منه، فإنك إذا أنصفتَ من نفسك بأن لم تترك لمولاك حقًّا واجباً عليك إلَّا أديته، ولا شيئاً ممَّا نُهيت عنه إلَّا اجتنبته فقد بلغت الغاية بينك وبين ربِّك، وبينك وبين النَّاس، ولم تضيِّع شيئاً ممَّا لله وللنَّاس عليك إذ الأول يستلزم / الثاني.
          (وَبَذْلُ السَّلاَمِ) أي: إعطاؤه والجود به (لِلْعَالَمِ) بفتح اللام، وأراد به كلَّ النَّاس من عرفت ومن لم تعرف، ويخرج الكافر بدليلٍ آخر، كما سبق تحقيقه، وهذا حضٌّ على مكارم الأخلاق والتَّواضع واستئلاف النُّفوس.
          (وَالإِنْفَاقُ مِنَ الإِقْتَارِ) بكسر الهمزة؛ أي: الافتقار وكلمة ((مِن)) يجوز أن تكون بمعنى في، والمعنى في حالة الافتقار، ويجوز أن تكون بمعنى عند، كما في قوله تعالى: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [المجادلة:17].
          والإنفاق في هذه الحالة هي الغاية في الكرم؛ لأنه إذا أنفق وهو محتاجٌ كان مع التوسع أكثر إنفاقاً، وقد مدحَ الله تعالى من هذه صفته بقوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] وهذا عام في نفقة الرَّجل على عياله وأضيافه، وكل نفقة في طاعة الله تعالى.
          وقيل: إنَّ نفقة المعسر على أهله أعظم أجراً من نفقة الموسر، ثمَّ إنَّ هذه الكلمات جامعة لخصال الإيمان كلها؛ لأنها إما مالية، أو بدنية، والإنفاق إشارةٌ إلى المالية المتضمنة للوثوق بالله تعالى، والزهد في الدنيا، وقصر الأمل ونحو ذلك من مهمات الآخرة.
          والبدنية: إما مع الله؛ أي: التعظيم لأمر الله تعالى وهو الإنصاف، أو مع الناس؛ أي: الشَّفقة على خلق الله تعالى، وهو بذل السَّلام الذي يتضمَّن مكارم الأخلاق، والتَّواضع، وعدم الاحتقار، ويحصل به التَّآلف والتَّحابب، وهذا التَّقرير يقوي أن يكون الحديث مرفوعاً؛ لأنَّه يشبه أن يكون كلام من أوتي جوامعَ الكلم، والله تعالى أعلم.