نجاح القاري لصحيح البخاري

باب من قال: إن الإيمان هو العمل

          ░18▒ (باب) بغير تنوين لإضافته إلى قوله: (مَنْ قَالَ: إِنَّ الإِيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ) ولا يجوز غيره قطعاً وإنما قال: باب من قال إنَّ الإيمان هو العمل، ولم يقل باب إنَّ الإيمان هو العمل، كما هو الأنسب بنظائره؛ لأنَّ ظاهره يُوهِم أن يكون الإسلام العمل الظَّاهري مقبولاً، وإن لم يقارن بالتَّصديق القلبي فلم ينسبْه إلى نفسه صريحاً.
          ووجه المناسبة بين البابين هو أنَّ عقد الباب السَّابق للتَّنبيه على أنَّ الأعمال من الإيمان ردًّا على المرجئة، وهذا الباب أيضاً معقود للردِّ عليهم في قولهم إنَّ الإيمان قول بلا عمل.
          قال القاضي عياض: قال غُلاتُهم: / إنَّ مُظِهرَ الشَّهادتين يَدخُل الجنَّة وإن لم يعتقدْه بقلبه.
          (لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) وفي رواية: <╡> ({وَتِلْكَ}) إشارة إلى الجنَّة المذكورة في قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:70] وهي مبتدأ وخبره ({الْجَنَّةُ}) وقوله: ({الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا}) أي: صُيِّرتم وارثين لها صفتها أو الجنَّة صفة تلك والتي خبرها أو صفة الجنة، والخبر قوله تعالى: ({بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}) وعلى هذا يتعلَّق الباء بمحذوفٍ، كما في الظُّروف التي تقع إخباراً، وعلى الوجه الأوَّل تتعلَّق بأورثتموها، والإيراث: إبقاء المال بعد الموت لمن يستحقه، وحقيقته ممتنعة على الله تعالى، فهو من باب التَّشبيه شُبِّهت في بقائها على أهلها بالميراث الباقي على الورثة.
          قال البيضاوي: شَبَّه جزاء العمل بالميراث؛ لأنه يخلفه عليه العامل، أو يقال: المُورِّث هنا الكافر، وكأن له نصيب منها، ولكن كفرهُ منَعه فانتقل منه إلى المؤمن، وهذا هو معنى الإيراث، أو يقال: المُورِّث هو الله تعالى فهو مجاز عن الإعطاء على سبيل التَّشبيه لهذا الإعطاء بالإيراث؛ لتحقق الاستحقاق بحسب الوعد، أو عن مجرَّد الإبقاء على طريقةِ إطلاق الكلِّ وإرادة الجزء.
          ثمَّ الباء في قوله تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ} إمَّا للملابسة أو للمقابلة، وكلمة ((ما)) إمَّا مصدرية أو موصولة؛ أي: أورثتموها ملابسة لأعمالكم؛ أي: لثواب أعمالكم، أو بمقابلة أعمالكم، كما في قولك: اشتريت بألف.
          فإن قلت: كيف الجمع بين الآية وحديث: ((لن يدخل أحدكم الجنة بعمله))؟
          فالجواب: أن المنفي بالحديث دخولها بالعمل المجرد عن القَبول، والمثبت في الآية دخولها بالعمل المتقبَّل، والقَبول إنما يحصل برحمة الله تعالى فلم يحصل الدُّخول إلَّا برحمة الله تعالى.
          قال الكرماني: أو أنَّ الجنة في {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ} جنة خاصَّة؛ أي: تلك الخاصَّة الرفيعة العالية بسبب الأعمال، وأمَّا أصل الدُّخول فبرحمة الله ╡ لا بالعمل.
          وتُعقِّب بأنَّه أُشير بتلك الجنَّة إلى الجنَّة المعهودة المذكورة فيما قبلها، والإشارة تمنع ما ذكره هذا، فتأمل.
          وقد عرفت أنَّ الباء للملابسة أو للمقابلة لا الباء السببيَّة، كما قالت المعتزلة في هذه الآية، وأمثالها، وكما قال الجميع في الحديث المذكور.
          والفرق بين المقابلة والسَّببية أنَّ المُعطى بعوض قد يُعطى مجاناً، وأمَّا المسبَّب فلا يوجد بدون السبب.
          وقال النَّووي في الجواب: إنَّ دخول الجنة بسبب العمل، والعمل برحمة الله تعالى، واعترض عليه الكرماني، وتبعه محمود العيني: بأنَّ المقدِّمة / الأولى تُخالف صريح الحديث فلا يلتفت إليها.
          ويمكن أن يقال: مراد النووي بهذه المقدِّمة: أنَّ الأعمال سبب مُقرِّب لدخول الجنَّة لا علَّة مُوجِبة لها، والنفي المستفاد من الحديث هو النَّفي بطريق العلِّية لا السببية.
          وأمَّا وجه مطابقة الآية للترجمة على ما قيل: هو أنَّ الإيمان لمَّا كان هو السَّبب لدخول العبد الجنَّة، والله ╡ أخبر: بأنَّ الجنَّة هي التي أُورِثوها بأعمالهم حيث قال: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور:19] دلَّ ذلك على أنَّ الإيمان هو العمل؛ أي: عمل القلب، معنى قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} بما كنتُم تؤمنون على ما ذهب إليه المؤلِّف. وعلى ما نقل عن جماعة من المفسِّرين، ولكن اللَّفظ عام ودعوى التَّخصيص بلا برهان لا تُقبل.
          ولذا قال النَّووي: هو تخصيصٌ بلا دليل على أنَّه لا يطابقه الاستشهاد بقول العِدَّة؛ لأنه قول أو عمل اللسان، وكذا الاستشهاد بالحديث، إذ فيه ذِكرُ الجهاد والحج.
          فالصَّواب أن يقال: إنَّ المراد من الإيمان والعمل: هو مجموع عمل القلب، وعمل اللِّسان، وعمل الجوارح، والاستدلال بالمجموع على المجموع، إذ كلُّ واحد من الآيات والسنَّة يدلُّ على بعض الدعوى، فالكلُّ من حيث هو الكل يدلُّ على الكلِّ كذلك، فيتم مقصود المؤلِّف ⌂.
          لا يقال الحديث يدلُّ على أنَّ الجهاد والحجَّ ليسا من الإيمان لِما يقتضيه، ثمَّ من المغايرة والتَّرتيب؛ لأنَّ المراد بالإيمان هنا هو التَّصديق، وهذه حقيقته، والإيمان كما تقدَّم يُطلَق على الأعمال أيضاً؛ لكونها من مكمِّلاته، فافهم.
          (وَقَالَ عِدَّةٌ) بكسر العين وتشديد الدال، هي الجماعة، قلَّت أو كثرت (مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ) منهم: أنس بن مالك فيما رواه الترمذيُّ بإسناد فيه ضعف وابن عمر فيما رواه الطبري في ((تفسيره)) والطبراني في ((الدعاء)) له، ومجاهد فيما رواه عبد الرَّزاق في ((تفسيره)).
          (فِي قَوْلِهِ تَعَالَى) وفي رواية: <╡> ({فَوَرَبِّكَ}) يا محمد ({لَنَسْأَلَنَّهُمْ}) أي: المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين (1) ؛ أي: أجزاء حيث قالوا عناداً: بعضه حق موافق للتَّوراة والإنجيل، وبعضه باطل مخالف لهما، أو قسموه إلى شعر وسحر وكهانة وأساطير الأوَّلين أو أسحاراً ({أَجْمَعِينَ}) تأكيد للضَّمير تنبيهاً على شمولِ أفراده ({عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:93]) قالوا: (عَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) وفي رواية: <عن قول: لا إله إلا الله>، وفي رواية: <قال: عن لا إله إلا الله> أي: عن كلمة الشهادة التي هي عنوان الإيمان.
          وقال البيضاوي: من التَّقسيم أو النسبة / إلى السحر فنجازيهم عليه، وقيل: عام في كلِّ ما فعلوا من الكفر والمعاصي. انتهى.
          وقال النوويُّ: في الآية وجه آخر وهو المختار، والمعنى: لنسألنَّهم عن أعمالهم كلها الَّتي يتعلَّق بها التَّكليف، وقول من خصَّ بلفظ التَّوحيد دعوى بلا دليلٍ قلا تُقبَل، والحديث لا يصلح دليلاً عليها؛ لأنَّ في إسناده اللَّيث بن سليم، وهو ضعيف.
          وقد تكلَّف لبيان وجه التَّخصيص ابن حجر العسقلاني بما لا ثقة به، ولا تنافي بين هذه الآية، وبين قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ (2) لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن:39]، فإنَّ في القيامة مواقف مختلفة، وأزمنة مُتطاولة، ففي موقف أو زمان يسألون، وفي آخر لا يسألون، لعلّها متصلة فحينما يخرجون من قبورهم ويُحشرون إلى الموقف ذوداً على اختلاف مراتبهم فلا يُسألون، وأمَّا حين يحاسبون في المجمع والمحشر، فيسألون أو لا يسألون سؤال استخبار، بل سؤال توبيخ.
          (وَقَالَ) الله تعالى، وفي رواية سقط: <وقال> ({لِمِثْلِ هَذَا}) أي: لنيل مثل هذا الفور العظيم، وهو دخول الجنَّة، والنَّجاة من النَّار ({فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61]) في الدنيا؛ أي: فليؤمن المؤمنون، لا للحظوظ الدُّنيوية المشوبة بالآلام السَّريعة الانصرام، وهذا يدلُّ على أنَّ الإيمان هو العمل، كما ذهب إليه المصنِّف، ولكن اللَّفظ عام، ودعوى التَّخصيص بلا برهان لا تُقبل، كما تقدَّم، كذا قيل.
          وقد تقدَّم ما هو الصَّواب من أنَّ المراد هو العموم والاستدلال بالمجموع على المجموع، فتدبَّر.
          اعلم أنَّ المفسِّرين ذكروا في قائل هذا ثلاثة أقوال:
          الأوَّل: هو أنَّ القائل ذلك المؤمن الذي رأى قرينه في وسط الجحيم، وقال: {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات:56] لَتُهْلكني بالإغواء والتَّوبيخ على التَّصديق بالبعث حيث كنت تقول لي في الدُّنيا: {أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ. أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:52-53]، لمجزيُّون {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57] من الذين أُحضِروا العذاب فيها معك، لكن أخذ بيدي عناية الله تعالى وتوفيقه، فدخلتُ الجنَّة وزُحزحتُ عن النَّار، إنَّ هذا لهو الفوز العظيم.
          والثاني: أنَّه هو الله ╡.
          والثَّالث: أنَّه هو بعض الملائكة.
          ولعلَّه لهذا أبهم المصنِّف القائل، ولم يقل: وقال الله تعالى، وإن كان هذا قوله تعالى، ولو حكاية عن ذلك المؤمن، أو عن بعض الملائكة، فافهم.


[1] في هامش الأصل: عضين: جمع عضة وأصلها عضوة فعلة من عضى الشاة إذا جعلها أعضاء قال رؤبة:
~نشذت عن خندفٍ حتَّى ترضَى                     وليسَ دينُ الله بالمُعضَّى
وقيل: هي فعلة، من عضيته إذا بهته. وعن عكرمة: العَضْه: السِّحر بلسان قريش، يقولون للسَّاحرة: عاضهة. منه.
[2] في هامش الأصل: أي: يوم تنشق السماء. منه.