نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قيام ليلة القدر من الإيمان

          ░25▒ (باب) بالتنوين وعدمه على ما مرَّ (قِيَامُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ الإِيمَانِ) أي: من شُعَبه مبتدأ وخبر لمَّا ذكر باب السَّلام من الإسلام، وأردفه بخمسةِ أبواب استطراداً لمَّا ذكر من وجوه المناسبة بين الأبوابِ المذكورة عاد إلى بيانِ بقيِّة الأبواب المشتملة على أمور الإيمان.
          وقدَّم بيان أنَّ قيام ليلة القدر من الإيمان على ما عداه؛ لمناسبة بينه وبين إفشاء السلام؛ لِمَا في تلك الليلة من إفشاء السلام من الملائكة على المؤمنين، وليلة القدر سمِّيت بذلك لِمَا يَكتُبُ فيها الملائكة من الأقدار والأرزاق، والآجال الَّتي تكون في تلك السنة؛ أي: يظهرهم الله عليه ويأمرهم بفعل ما هو من وظيفتهم.
          وقيل: لعظم قدرها وشرفها، وقيل: لأنَّ من أتى فيها بالطَّاعات صار ذا قدر، وقيل: لأنَّ الطَّاعات لها قدر زائد فيها. وقد اختلف العلماء في وقتها فقال جماعة: هي منتقلة تكون سنة في ليلة وسنة في ليلة أُخرى وهكذا، وبهذا يجمع الأحاديث الدَّالة على اختلاف أوقاتها وبه قال مالك وأحمد، وقيل: إنَّما تنتقل من العشر الأواخر من رمضان، وقيل: بل في كلِّه، وقيل: إنها لا تنتقل بل هي ليلة معيَّنة في جميع السنين لا تفارقها، فقيل: هي في السنة كلها، وقيل: في شهر رمضان كله، وهو قول ابن عمر ☻ ، وبه أخذ أبو حنيفة ⌂.
          وقيل: بل في العشر الأوسط والأواخر، وقيل: بل هي في الأواخر، وقيل: تختصُّ بأوتار العشر، وقيل: بإشفاعه، وقيل: بل في ثلاث وعشرين أو سبع وعشرين، وهو قول ابن عباس ☻ ، وقيل: في ليلة سبع عشرة، أو إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين، وقيل: ليلة ثلاث وعشرين. وقيل: ليلة أربع وعشرين، وهو محكيٌّ عن بلال ☺، وقيل: ليلة سبع وعشرين، وهو قول جماعة من الصَّحابة ♥ ، وبه قال أبو يوسف ومحمد ►. وقال زيد بن أرقم: سبع عشرة، وقيل: تسع عشرة. وحُكي عن علي ☺، وقيل: آخر ليلة في الشَّهر، ومَيْلُ الشَّافعي إلى أنها ليلة الحادي والعشرين / أو الثالث والعشرين، ذكره الرَّافعي وهو خارجٌ عن الأقوال المذكورة.
          وأمَّا ما قاله قومٌ من أنها رُفعَت؛ لقوله ◙: ((حين تلاحى الرَّجلان)) فهذا غلطٌ؛ لأن آخر الحديث يرد عليه وهو: ((عسى أن يكون خيراً لكم التمسوها في السَّبع والتِّسع)). وفيه تصريحٌ بأنَّ المراد برفعها رفع بيان علم عينها لا رفع وجودها.
          وقال الإمام النَّووي: أجمعَ من يعتد به على وجودها ودوامها إلى آخر الدَّهر، وهي موجودة يَرى ويحقِّقها من شاء الله تعالى من بني آدم كل سنة في رمضان، وأخبار الصَّالحين بها ورؤيتهم لها أكثر من أن تحصى. وأمَّا قول المهلَّب: لا يمكن رؤيتها حقيقة فغلط.
          وقال الزمخشريُّ: ولعل الحكمة في إخفائها أن يحيي من يريدها اللَّيالي الكثيرة؛ طلباً لموافقتها فكثر عبادته، وأن لا يتَّكل الناس عند إظهارها على إصابةِ الفضل فيها، فيفُرِّطوا في غيرها.