نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول النبي: بني الإسلام على خمس

          ░1▒ (باب قَوْلِ النَّبيِّ صلعم ) اعلم أنَّ المؤلِّف ⌂ ميَّز الأجناس بالكتب، والأنواع بالأبواب؛ إشعاراً بما به الاشتراك، وما به الامتياز بين الأحاديث، وأصل الباب المَدخل، ثمَّ استعمل في المعاني مجازاً.
          (بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ) أي: هذا باب في ذكر قول النبي صلعم : ((بني الإسلام على خمسٍ)) وفي بعض النسخ: <باب الإيمان وقول النبي صلعم >، والأُولى أصح؛ لأنَّ ذِكرَ الإيمان بعد ذِكرِ كتاب الإيمان لا طائلَ تحته.
          وفي رواية الأَصيليِّ: سقط لفظ باب، ووقع هكذا: <كتاب الإيمان، قول النبي صلعم : بني الإسلام على خمس>.
          قال العسقلانيُّ: واقتصاره على طرفِ الحديث من تسمية الشيءِ باسم بعضهِ كتسميةِ سورة الإخلاص بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1].
          وقال محمود العيني: لا تسمية هنا ولا إطلاق اسم بعض الشيء على الشيء، وإنما البخاري لمَّا أراد أن يبوِّب على هذا الحديث باباً ذكر أوَّلاً بعضه؛ لأجل التَّبويب، واكتفى عن ذكر كله عند الباب بذكره إيَّاه مسنداً فيما بعد، فافهم.
          (وَهُوَ) أي: الإيمان المُعَنْوَنُ به الكتاب (قَوْلٌ) باللِّسان، وهو النُّطق بالشَّهادتين (وَفِعْلٌ) وفي نسخة: <وعمل> بدل: فعل. قيل: والمراد ما هو أعمُّ من عمل القلبِ والجوارح؛ ليدخل الاعتقادات والعبادات، فيوافق قول السلف: اعتقادٌ بالقلب، ونطقٌ باللِّسان، وعملٌ بالأركان.
          ويمكن أن يُقال: لمَّا لم يمكن نزاع في أنَّ الاعتقاد لا بدَّ منه في حقيقةِ الإيمان، وإنَّما النزاع في أن القول باللِّسان، والفعل بالجوارح، هل هما داخلان في حقيقة الإيمان أم لا؟ ذَكَرَهُما ولم يذكر ما لا نزاعَ فيه، فتأمل.
          وتحقيق المقام يحتاج إلى نوع تفصيلٍ في الكلام فاعلمْ: أنَّ العلماء اختلفوا في مسمَّى الإيمان في عرف الشَّرع، فكانوا أربع فرق:
          أمَّا الفرقة الأولى فقالوا: هو اعتقادٌ بالقلب، ونطقٌ باللِّسان، وعملٌ بالأركان، وهم أصحاب الحديث، ومالك والشافعي، وأحمد والأوزاعي، / وقال الإمام: وهو مذهب المعتزلة والخوارج والزَّيدية.
          أما أصحابُ الحديث فلهم أقوال ثلاثة:
          الأول: أنَّ المعرفة إيمانٌ كامل وهو الأصل، ثمَّ بعد ذلك كل طاعةٍ إيمان على حِدة، وزعموا أنَّ الجحود وإنكار القلب كفرٌ، ثمَّ كلُّ معصيةٍ بعده كفرٌ على حدة، ولم يجعلوا شيئاً من الطَّاعات إيماناً لم توجد المعرفة والإقرار، ولا شيئاً من المعاصي كفراً ما لم يُوجد الجحود والإنكار؛ لأنَّ أصل الطَّاعات الإيمان، وأصلَ المعاصي الكفر، والفرع لا يحصل بدون ما هو أصله، وهو قول عبد الله بن سعيد.
          الثَّاني: أنَّ الإيمان اسم للطَّاعات كلها فرائضها ونوافلها، وهو بجملها إيمانٌ واحد، وأن من ترك شيئاً من الفرائض فقد انتقص إيمانه، ومن ترك النَّوافل لا ينتقص إيمانه.
          الثَّالث: أنَّ الإيمان اسم للفرائض دون النوافل، وأما المعتزلة فقد اتَّفقوا على أنَّ الإيمان إذا عدِّي بالباء؛ فالمراد به في الشَّرع التَّصديق يقال: آمن بالله؛ أي: صدق، فإن الإيمان بمعنى أداء الواجبات لا يمكن فيه هذه التَّعدية، لا يقال: فلان آمن بكذا إذا صلى أو صام، بل يقال: آمن لله، كما يقال صلى لله، فالإيمان المعدَّى بالباء يجري على طريق اللَّغة أمَّا إذا ذُكر مطلقاً غير معدَّى فقد اتَّفقوا على أنه منقول نقلاً ثانياً من معنى التَّصديق إلى معنى آخر.
          ثمَّ اختلفوا فيه على وجوه:
          أحدها: أنَّه عبارة عن فعل كلِّ الطاعات سواء كانت واجبة أو مندوبةٌ، وسواء كانت من باب الاعتقادات، أو الأقوال، أو الأفعال، وهو قول واصل بن عطاء، وأبي الهُذيل، والقاضي عبد الجبار.
          والثاني: أنَّه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النوافل، وهو قول أبي علي الجبَّائي، وأبي هاشم.
          والثالث: أنَّ الإيمان عبارة عن اجتناب كلِّ ما جاء فيه الوعيد، وهو قول النَّظَّام، ومن أصحابه مَن شَرَط كونه مؤمناً عندنا، وعند الله اجتناب كلِّ الكبائر.
          وأمَّا الخوارجُ فقد اتَّفقوا على أنَّ الإيمان بالله يتناول معرفة الله تعالى، ومعرفة كلِّ ما نصب الله عليه دليلاً عقلياً أو نقلياً، ويتناول طاعة الله في جميعِ ما أمر به ونهى، صغيراً كان أو كبيراً، وقالوا: مجموعُ هذه الأشياء هو الإيمان.
          والفرقُ بين ما ذهبَ إليه أصحابُ الحديث، وبين مذهب المعتزلة، ومذهب الخوارج: هو أنَّ من ترك شيئاً من الطَّاعات سواء كان من الأفعال أو الأقوال، خرج من الإيمان عند المعتزلة، ولم يدخل في الكفر، بل وقع في منزلة بينهما، وعند / الخوارج دخل في الكفر؛ لأنَّ تركَ كلِّ واحدة من الطاعات كفرٌ عندهم، وعند السلف لم يخرج من الإيمان.
          ونُقل عن الشَّافعي أنه قال: الإيمان: هو التَّصديق والإقرار والعمل، والمخل بالأول وحده: منافق، وبالثاني وحده: كافر، وبالثالث وحده: فاسق، ينجو من الخلود في النار، ويدخل الجنة.
          قال الإمام: هذا في غاية الصُّعوبة؛ لأنَّ العمل إذا كان ركناً لا يتحقق الإيمان بدونه، فغير المؤمن كيف يخرج من النار ويدخل الجنة؟.
          وأُجيب عن هذا الإشكال: بأنَّ الإيمان في كلام الشَّارع قد جاء بمعنى أصل الإيمان، وهو الَّذي لا يعتبر فيه كونه مقروناً بالعمل، كما في قوله ◙: ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبكتابه ورسله وتؤمن بالبعث)). وقد جاء بمعنى الإيمان الكامل، وهو المقرونُ بالعمل، كما في حديث وفد عبد القيس: ((أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس)). فالشَّافعي، وكذا السلف ▓، إنما جعلوا العمل ركناً من الإيمان بالمعنى الثاني دون الأول، وحكموا مع فوات العمل ببقاء الإيمان بالمعنى الأول، وبأنه ينجو من النار باعتبار وجوده، وإن فات الثاني.
          ومن هذا ظهر فرق آخر بين مذهب السلف، وبين مذهب المعتزلة والخوارج، فإنهم جعلوا الأعمال شرطاً في كمال الإيمان، وأما المعتزلة والخوارج؛ فجعلوها شرطاً في صحَّته.
          وأمَّا الفرقة الثانية فقالوا: إنَّ الإيمان عملٌ بالقلب واللِّسان معاً، ثم اختلفوا في أنَّ الإقرار باللِّسان هل هو ركن الإيمان أم شرطٌ له في حق / إجراء الأحكام؛ لما أن التَّصديق أمر باطنيٌّ لا بدَّ له من علامة. فقال بعضهم: هو شرط لذلك حتى أن من صدَّق الرَّسول ◙ في جميع ما جاء به من عند الله تعالى فهو مؤمنٌ فيما بينه وبين الله تعالى وإن لم يقرَّ بلسانه. وقال حافظ الدين النَّسفي: هو المرويُّ عن أبي حنيفة ⌂، وإليه ذهب الأشعري في أصحِّ الرِّوايتين، وهو قول أبي منصور الماتريدي. وقال بعضهم: هو ركنٌ لكنَّه ليس بأصلي كالتَّصديق، بل هو ركن زائد يحتمل السقوط عند الإكراه والعجز.
          فإن قلت: قد لا يبقى التَّصديق، كما في حالة النوم والغفلة. أُجيب: بأن التَّصديق باقٍ في القلب، والذُّهول إنما هو عن حصوله. وقال فخر الإسلام: إنَّ كونه ركناً زائداً مذهب الفقهاء، وكونه شرطاً لإجراء الأحكام مذهبُ المتكلمين.
          وأما الفرقة الثالثة فقالوا: هو فعلُ القلب فقط. ثمَّ اختلفوا على قولين:
          أحدهما: وهو مذهب المحقِّقِين، وإليه ذهب الأشعري، وأكثر الأئمة كالأستاذ أبي إسحاق الإسفرائني أنَّه مجرد التصديق بالقلب؛ أي: تصديق الرَّسول ◙ في كلِّ ما عُلم مجيئه به ضرورة تفصيلاً فيما عُلِم، تفصيلاً وإجمالاً فيما عُلِم إجمالاً (1)، تصديقاً جازماً مطلقاً؛ أي: سواء كان لدليل أو لا.
          فقولهم: مجرَّد التَّصديق، إشارة إلى أنه لا يعتبر فيه كونه مقروناً بعمل الجوارح، وقد خرج بقيد الضَّرورة ما لا يعلم بالضَّرورة أنَّ الرسول جاء به كالاجتهاديات؛ كالتَّصديق بأن الله تعالى عالم بعلمه، أو عالم بذاته، والتَّصديق بكونه مرئياً أو غير مرئي، فإن هذين التَّصديقين وأمثالهما غير داخلة في مسمى الإيمان، فلهذا لا يكفر منكر الاجتهاديات بالإجماع، وبقيد الجازم خرج التَّصديق الظَّني، فإنه غير كاف في حصول الإيمان، والتَّقييد بالإطلاق؛ لدفع وهم خروج المقلِّد، فإن إيمانه صحيحٌ عند الأكثرين، وهو الصَّحيح.
          والقول الثاني: أنه معرفة الله تعالى وحدَه بالقلب، والإقرار باللِّسان ليس بركنٍ فيه، ولا شرط، حتى أنَّ من عرف الله بقلبه، ثمَّ جحد بلسانه، ومات قبل أن يُقِرَّ به فهو مؤمن كامل الإيمان، وهو قول جهم بن صفوان.
          وأمَّا معرفة الكتب والرسل واليوم الآخر؛ فقد زعم أنَّها غير داخلة في حدِّ الإيمان، وهذا بعيدٌ من الصَّواب؛ لمخالفته لظاهر الحديث. والصَّواب ما حكاه الكعبيُّ عن جهم أن الإيمان معرفة الله تعالى مع معرفة كلِّ ما علم بالضرورة كونه من دين محمد ◙، وأما الفرقة الرَّابعة فقالوا: إنَّ الإيمان عمل باللِّسان فقط، وهم أيضاً فريقان:
          الفريق الأول قالوا: إنَّ الإقرار باللِّسان هو الإيمان فقط، ولكن شرط كونه إيماناً حصول / المعرفة في القلبِ، فالمعرفة شرط؛ لكون الإقرار باللِّسان إيماناً، لا أنَّها داخلة في مسمَّى الإيمان، ومن هذا الفريق غَيلان بن مسلم الدِّمشقي، والمفضَّل الرَّقاشي.
          والفريق الثاني قالوا: إنَّ الإيمان مجرَّد الإقرار باللِّسان، وهو قولُ الكرَّاميَّة، وزعموا أنَّ المنافق مؤمن الظاهر كافر السريرة، فيثبت له حكم المؤمنين في الدنيا، وحكم الكافرين في الآخرة.
          (يَزِيدُ وَيَنْقُصُ) وفي رواية: <ويزيد وينقص> بالواو؛ أي: الإيمان الذي هو قول وفعل يقبل الزيادة والنُّقصان هذا على تقدير دخول القول والفعل فيه ظاهر، فإنَّه يزيد بالطَّاعة، وينقصُ بالمعصية.
          وأمَّا على تقدير أن يكون نفس التَّصديق؛ فإنه أيضاً يقبل الزِّيادة والنقصان؛ أي: قوة وضعفاً بكثرة النظر، ووضوح الأدلَّة، ولهذا كان إيمان الصِّدِّيقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريه الشُّبهة. ويؤيده: أنَّ كلَّ أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاوت حتى إنه يكون في بعض الأحيان أعظم يقيناً وإخلاصاً، وتوكلاً منه في بعضها، أو إجمالاً وتفصيلاً، أو تعدداً بحسب تعدُّد المؤمن به، وهذا القول منقولٌ عن الشَّافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وأبي عُبيد وغيرهم من الأئمة.
          بل قال به من الصَّحابة: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود ومعاذ وأبو الدرداء وابن عباس وابن عمر وعُمارة وأبو هريرة وحذيفة وعائشة وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين. ومن التابعين: كعب الأحبار وعروة وطاوس وعمر بن عبد العزيز وغيرهم ⌠على ما نقله اللالكائي في كتاب ((السنة)).
          وكذا روى اللالكائي أيضاً بسند صحيحٍ عن البخاري قال: لقيت أكثر من ألف رجلٍ من العلماء بالأمصار، فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص.
          وأما توقُّف مالك ☼ عن القول بالنُّقصان؛ فخشيته أن يتأوَّل عليه موافقة الخوارج.
          ونُقل عن سفيان بن عيينة أنَّه قال: الإيمان قول وفعل ويزيد وينقص، فقال له أخوه إبراهيم: لا تقل ينقص، فغضب وقال: اسكت يا صبي، بل ينقص حتى لا يبقى منه شيءٌ.
          وأنكر ذلك أكثر المتكلِّمين والحنفية، وقالوا: متى قُبِلَ ذلك كان شكًّا لا يقيناً. وأجابوا عن الآيات الآتية ونحوها بما نقلوه عن الإمام: أنها محمولة على أنهم كانوا آمنوا في الجملة، ثمَّ يأتي فرض بعد فرض، فكانوا يؤمنون بكلِّ فرض خاص، وحاصله: أنَّه كان يزيد بزيادة ما يجب الإيمان به. وهذا لا يتصور في غير عصره صلعم ، وفيه نظر؛ لأنَّ الاطلاع على تفاصيل الفرائض يمكن في غيرِ عصره صلعم ، والإيمان واجب إجمالاً فيما علم إجمالاً، وتفصيلاً فيما عُلِم تفصيلاً، ولا خفاء في أن التَّفصيلي أَزْيَد. هذا وقد عرفت الحق فاتَّبعه، فإن الحقَّ أحقُّ أن يُتَّبَع. ثمَّ إن المؤلَّف ☼ شرع يستدل لذلك بثمان آيات من القرآن مصرَّحة بالزِّيادة، وبثبوتها يثبت المقابل، فإن كلَّ قابلٍ للزَّيادة قابلٌ للنقصان ضرورة فقال:
          (قَالَ) وفي رواية: <وقال> بالواو (اللَّهُ تَعَالَى) في سورة الفتح: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ} أي: السكون والطُّمأنينة {فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ}؛ بسبب الصُّلح والأمن ({لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ}) [الفتح:4] أي: ليعرفوا فضل الله عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف، والهدنة بعد القتال، فيزدادوا يقيناً / إلى يقينهم، أو أنزل في قلوبهم السكون إلى ما جاء به محمد صلعم من الشرائع؛ ليزدادوا إيماناً بالشرائع مقروناً إلى إيمانهم، وهو التوحيد.
          وعن ابن عبَّاس ☻ : ((أوَّل ما أتاهم به النَّبي صلعم التَّوحيد، فلما آمنوا به وحده أنزل الصَّلاة والزَّكاة، ثمَّ الحجَّ، ثمَّ الجهاد، فازدادوا إيماناً إلى إيمانهم)). وقيل: أنزل فيها الرَّحمة؛ ليتراحموا فيزداد إيمانهم.
          وقال تعالى في سورة الكهف: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} يا محمد صلعم ، {نَبَأَهُمْ} أي: خبرهم، {بِالْحَقِّ} أي: بالصِّدق {إِنَّهُمْ} أي: أصحاب الكهف {فِتْيَةٌ} جمع فتى كصبي وصبية؛ أي: شبَّان {آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ (وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]) أي: بالتوفيق والتَّثبت، وهذه الآية ساقطةٌ في رواية ابن عساكر.
          وقال تعالى في سورة مريم: ({وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76]) أي: يزيد المهتدين هداية بتوفيقه (وَقَالَ) أي: في سورة محمد، وفي رواية: <وقوله>، وفي رواية: بإسقاطهما والابتداء بقوله: ({وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى}) بالتَّوفيق ({وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17]) أي: إيمانهم عليها، أو أعطاهم جزاءها. وعن السُّدي: بيَّن لهم ما يتقون.
          وقال تعالى في سورة المدثر: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ} [المدثر:31] أي: عدَّة الملائكة الذي يلُون أمر جهنم {إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [المدثر:31] أي: إلا عدة من شأنها أن يفتتن بها، وهي التسعة عشر، فعبر بالأثر عن المؤثِّر؛ تنبيهاً على أنَّه لا ينفك منه، وافتتان الذين كفروا بتلك العدة استقلالهم بها، واستهزاؤهم بها، واستبعادهم أن يتولى هذا العدد القليل تعذيب أكثر الثَّقلين.
          روي: أنَّ أبا جهل لمَّا سمع قوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] قال لقريش: أيعجز كلُّ عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم؟ فنزلت هذه الآية: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المدثر:31] أي: ليكتسبوا اليقين بنبوَّة محمد صلعم وصدق القرآن؛ لأن عدَّتهم في الكتابين تسعة عشر، فإذا سمعوا بمثلها في القرآن أيقنوا أنه منزل من الله ({وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَاناً} [المدثر:31]) بالإيمان به أو بتصديق أهل الكتاب له.
          (وَقَوْلُهُ) تعالى في سورة التوبة {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ} أي: فمن المنافقين {مَنْ يَقُولُ} بعضهم لبعض إنكاراً واستهزاءً بالمؤمنين {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ} السورة ({إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً}) بزيادة العلم الحاصل / من تدبُّرها، وبانضمام الإيمان بها وبما فيها إلى إيمانهم {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124] بنزولها؛ لأنه سبب لزيادةِ كمالهم وارتفاع درجاتهم.
          (وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ) في سورة آل عمران: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} المراد من الناس على قولٍ نُعيم بن مسعود الأشجعي وأُطلق عليه الناس؛ لأنَّه من جنسه، كما يقال: فلان يركب الخيل وما له إلا فرسٌ واحد، أو لأنَّه انضمَّ إليه ناس من المعيشةِ وأذاعوا كلامه. {إِنَّ النَّاسَ} أي: أهل مكَّة أبا سفيان وأصحابه {قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ (فَاخْشَوْهُمْ)} روي: أنَّ أبا سفيان نادى عند انصرافه من أُحُد يا محمد، موعدنا موسم بدرٍ لِقابِل إن شئت، فقال ◙: ((إن شاء الله)) فلمَّا كان القابل، خرج أبو سفيان في أهل مكَّة حتى نزل مرَّ الظهران، فألقى الله الرُّعب في قلبه، فبدا له أن يرجعَ، فلَقِيَ نُعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدِم معتمِراً، فقال: يا نعيم، إني واعدتُ محمداً أن نلتقي بموسم بدر، وإنَّ هذا عام جدبٍ ولا يصلحنا إلَّا عام نرعى فيه الشَّجر ونشرب فيه اللَّبن، وقد بدا لي، ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاده ذلك جراءة، فالْحَقْ بالمدينة فثبِّطهم ولك عندي عشر من الإبل، فخرج نُعيم فوجد المسلمين يتجهزون، فقال لهم: ما هذا بالرأي أَتوْكم في دياركم وقراركم، فلم يفلت _أي: لم يتخلص_ منكم أحد إلا شريداً أَفَتَرَوْن أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم، فوالله لا يفلت منكم أحد ففتروا، وكرهوا الخروج، فقال ◙: ((والذي نفسي بيده لأخرجنَّ ولو لم يخرج معي أحدٌ، فخرج في سبعين راكباً وهم يقولون: حسبنا الله ونعم الوكيل)).
          ({فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} [آل عمران:173]) الضمير المستكن للمقول، أو لمصدر قال، أو لفاعله نُعيم، والبارز للمقول لهم، وذلك لأنهم لم يلتفتوا إليه ولم يضعفوا، بل ثبَّت به يقينهم بالله، وازدادوا إيمانهم، فأظهروا حميَّة الإسلام، وأخلصوا عندهُ، فانقلبوا من بدر بنعمةٍ من الله عافية، وثباتٍ على الإيمان وزيادة فيه، وفضل وربح في التَّجارة، فإنهم لما أتوا بدراً وافَوا بها سوقاً، وكان معهم تجارات فباعوها، وأصابوا خيراً، ثمَّ انصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين، فرجع أبو سفيان إلى مكَّة، فسمَّى أهل مكة جيشه جيش السَّويق، وقالوا: إنما خرجتُم؛ لتشربوا السَّويق.
          قال البيضاويُّ _بيَّض الله وجهه_ : وهو دليل على أن الإيمان يزيد وينقص. ويعضده قول ابن عمر ☻ قلنا: يا رسول الله! الإيمانُ يزيد وينقص؟ قال: ((نعم يزيد حتى يدخلَ صاحبه الجنة، وينقص حتى يدخلَ صاحبه النار)). /
          (وَقَوْلُهُ تَعَالَى) في سورة الأحزاب: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا} أي: الخطب والبلاء {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ} [الأحزاب:22] بقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:214] الآية {وَرَسُولُهُ} بقوله: ((سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم والعاقبة لكم عليهم)). وبقوله ◙: ((إنَّهم سائرون إليكم بعد تسع أو عشر)). {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} أي: وظهر صدق خبر الله ورسوله، أو صَدَقا في النصرة والثَّواب، كما صَدَقا في البلاء ({وَمَا زَادَهُمْ}) فيه ضمير لِمَا رأوا، أو الخطب، أو البلاء ({إِلاَّ إِيمَاناً}) بالله ومواعيده ({وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22]) لأوامره ومقاديره.
          قال الكرمانيُّ: يُعلم منه: أن التَّسليم خارج عن حقيقةِ الإيمان؛ لأنَّ المعطوف مُغاير للمعطوف عليه. انتهى، فليتأمل.
          ثمَّ استدل المؤلِّف ⌂ على قبوله الزِّيادة أيضاً بقوله:
          (وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ) كلمة (في) كما في قوله ◙: ((إنَّ امرأة دخلت النَّار في هرَّة))، وقوله: والحبُّ، مرفوع بالابتداء، وقوله: (وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ) عطف عليه. وقوله: (مِنَ الإِيمَانِ) خبر المبتدأ، ثمَّ إن هذه الجملة كما يحتمل أن يستدلَّ بها على قَبول الإيمان الزِّيادة والنُّقصان بناءً على أن الحبَّ والبغض يتفاوتان، كذلك يجوز أن يكون عطفاً على ما أضافَ إليه الباب فيدخل في ترجمة الباب.
          وعلى التَّقديرين يحتمل أنَّه أراد به الحديث النَّبوي، فإنَّه حديث أخرجه أبو داود من حديثِ أبي أُمامة، ومن حديثِ أبي ذرٍّ ولفظه: ((أفضلُ الأعمال الحبُّ في الله، والبغضُّ في الله)). ولفظ أبي أمامة: ((مَن أحبَّ لله وأبغض لله، وأعطى لله ومنع لله، فقد استكملَ الإيمان)) والترمذيُّ من حديث معاذ بن أنس، وحديث أبي أمامة. وزاد أحمدُ فيه: ((ونصح لله)). وزاد في أخرى: ((ويُعِملُ لسانه في ذكر الله))، وله عن عمرو بن الجَموح: ((لا يحقُّ للعبد الصالح الإيمان حتى يحبَّ لله، ويبغض لله)). ولفظ البزَّار رفعه: ((أوثق عُرَى الإيمان الحبُّ في الله، والبغضُ في الله)) وسيأتي عند المصنِّف: ((آيةُ الإيمان حبُّ الأنصار)).
          ويحتمل أن يكون كلام المؤلف كقوله: وهو قول وفعل.
          (وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) هذا تعليقٌ ذكره بصيغة الجزم، وهو حكمٌ منه بصحَّته، وقد وصله أحمد بن حنبل وأبو بكر بن أبي شيبة في كتاب ((الإيمان)) لهما من طريق عيسى بن عاصم، قال: حدَّثني عديُّ بن عديٍّ قال: كتب إلي عمر بن عبد العزيز: أما بعد: فإن للإيمان فرائض وشرائع إلى آخره.
          وعمرُ بن عبد العزيز: هو ابنُ عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن العاص ابن أمية بن عبد شمس الأموي القرشي التابعي الإمام العادل، الخليفة الراشد، أجمع على جلالته وفضله، ووفور علمه وزهده، وعدله، وشفقته على المسلمين سمع عبد الله بن جعفر، وأنساً وغيرهما، / وصلَّى أنس خلفه قبل خلافته فقال: ما رأيت أحداً أشبه صلاة برسول الله صلعم من هذا الفتى. تولى الفتى سنة تسع وتسعين.
          ومدَّة خلافته: سنتان وخمسة أشهر نحو خلافة الصِّديق ☺ فملأ الأرض قسطاً وعدلاً. ولمَّا ولي قال رعاءُ الشَّاء في رؤوس الجبال: من هذا الخليفة الصَّالح الَّذي قام على الناس؟ فقيل: وما عِلمُكم بذلك؟ قالوا: إنَّه إذا قام خليفة صالح كفَّت الذئاب عن شائنا.
          وقال سفيان الثَّوري: الخلفاء خمسة: أبو بكر الصِّدِّيق، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز ♥ . وقال الإمام أحمد بن حنبل: يروى في الحديث: ((إنَّ الله تعالى يبعث على رأس (2) كلِّ مائة عامٍ من يصحِّح لهذه الأمة دينها))، فنظرنا في المائة الأولى فإذا هو عمرُ بن عبد العزيز(3) .
          وأمُّه حفصة بنت عاصم بن عمر بن الخطاب ☺. وكان عمرُ بن الخطاب ☺ يقول: ((في ولدي رجل في وجهه شجَّة يملأُ الأرض عدلاً)). وكان يقال له: الأشجُّ لمَّا ضربته دابة في وجهه فشجَّته.
          وُلد بمصر وتوفِّي بدير سمعان، قرية بحمص يوم الجمعة لخمس ليالٍ بقين من شهر رجب سنة إحدى ومائة. وقال القاضي جمال الدين بن واصل: والظَّاهر عندي: أن دير سمعان هو المعروف الآن بدير النقيرة من عمل معرة النعمان المشهور، وأوصى أن يدفن معه شيء كان عنده من شَعْر النبي صلعم وأظفاره، وقال: إذا متُّ فاجعلوه في كفنِي، ففعلوا ذلك.
          وعن يوسف بن مالك قال: بينا نحن نسوِّي التراب على قبر عمر بن عبد العزيز سقط علينا رَقٌّ من السماء فيه مكتوبٌ: أمانٌ من الله لعمر بن عبد العزيز من النار.
          وليس له في البخاري سوى حديث واحد رواه في الاستقراض من حديث أبي هريرة في المفلس [خ¦2402]. وفي الرَّواة أيضاً: عمر بن عبد العزيز بن عمران بن مقلاص.
          (إِلَى عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ) بفتح العين وكسر الدال المهملتين فيهما، هو ابن عَميرة _بفتح العين_ الكندي الجزريِّ التَّابعي، روى عن: أبيه وعمِّه العُرس بن عَميرة، وهما صحابيان، وعنه: الحكم وغيره من التابعين وغيرهم. قال البُخاري: هو سيِّد أهل الجزيرة. وقال أحمدُ بن حنبل: عديٌّ لا يُسأل عن مثله.
          ويقال: اختلفوا في أنَّه صحابي، والصَّحيح أنه تابعي، وسبب الاختلاف أنَّه روى أحاديث عن النَّبي صلعم مرسلة، فظنَّه بعضهم صحابياً، وكان عدي عامل عمر بن عبد العزيز على الجزيرة والموصل، فلذلك كتب إليه، واستعمال عمر له يدلُّ على أنَّه لا صحبةَ له؛ لأنَّه عاش بعد عمر، ولم يبق أحدٌ من الصَّحابة إلى خلافته، وتوفِّي سنة ثلاث وعشرين ومائة، روى له أبو داود والنَّسائي وابن ماجه، وليس له في ((الصحيحين)) شيءٌ، ولا في الترمذي.
          (إِنَّ لِلإِيمَانِ فَرَائِضَ) أي: أعمالاً مفروضة، كذا في معظم الرِّوايات باللام، ونصب فرائض، وفي رواية ابن عساكر: <إن الإيمان فرائض> على أنَّ الإيمان اسم إنَّ، وفرائض خبرها. /
          قال الحافظ العسقلاني: وبالأوَّل جاء الموصول، هذا يريد به ما وصله أحمدُ بن حنبل وأبو بكر ابن أبي شيبة، وقد أشرنا إليه.
          وتعقَّبه العيني: بأن الثاني أيضاً وصلَه ابن أبي شيبة في ((مصنفه)) حيث قال: حدَّثنا أبو أسامة، عن جرير بن حازم، قال: حدَّثني عيسى بن عاصم، قال: حدَّثنا عديُّ بن عدي، قال: كتبَ إليَّ عمر بن عبد العزيز: أمَّا بعد، فإن الإيمان فرائض وشرائع، وحدود وسنن... إلى آخره.
          (وَشَرَائِعَ) أي: عقائد دينية (وَحُدُوداً) أي: منهيات ممنوعة (وَسُنَناً) أي: مندوبات، كذا فسَّرها الكرماني، وقال: إنَّما فسَّرناها بذلك؛ ليتناول الاعتقاديات، والأعمال، والتُّروك واجبة ومندوبة، ولئلا يتكرَّر.
          وقال ابنُ المرابط: الفرائض ما فُرض علينا من صلاةٍ وزكاةٍ ونحوهما، والشَّرائع كالتَّوجه إلى القبلة، وصفات الصَّلاة، وعدد شهر رمضان، وعدد جلد القاذف، وعدد الطَّلاق إلى غير ذلك، والسنن ما أمر به الشارع من فضائل الأعمال، فمن أتى بالفرائض والسنن وعرف الشرائع، فهو مؤمن كامل.
          (فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا) أي: الفرائض وما معها (اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الإِيمَانَ) هذا هو محلُّ الاستشهاد لقبول الإيمان الزِّيادة والنُّقصان. قال الكرماني: إنَّ الغرض من هذه الحكاية: أنَّ عمر كان قائلاً بأن الإيمان قولٌ وفعل، ويزيدُ وينقص حيث قال: استكملها، ومن لم يستكملْها. لكن لقائل أن يقول: أنَّه لا يدلُّ على ذلك، بل على خلافه، إذ قال: إنَّ للإيمان كذا وكذا، فجعلَ الإيمان غير الفرائض، وما ذكر معها. وقال: من استكملها؛ أي: الفرائض وما معها، فجعل الكمال لما للإيمان، لا للإيمان.
          وأجاب عنه الحافظ العسقلاني، وتبعه القسطلاني: بأن آخر كلامه يُشعِر بذلك حيث قال: فمن استكملها؛ أي: الفرائض وما معها فقد استكمل الإيمان، وبهذا يتلفَّق الروايتان، فالمراد أنها من مكمِّلات الإيمان حيث جعل الشارع على رواية ابن عساكر مكمِّلات الإيمان إيماناً، وهذا كما ترى، فتأمل.
          (فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا) أي: فسأوضحها (لَكُمْ) إيضاحاً يفهمه كلُّ أحدٍ، والمراد تفاريعها وتفاصيلها لا أصولها، إذ كانت معلومة لهم مجملة (حَتَّى تَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى صُحْبَتِكُمْ بِحَرِيصٍ) وإنما قال ذلك؛ لأنَّ ولاية أمور العامة شاقَّة، والخروج عن عهدتها أمر صعبٌ ربَّما لا يهتدي إليه أحد، وإن سعى إليه سعياً بليغاً إلَّا من وفَّقه الله تعالى وهَداه.
          قال الشُّراح: وليس في هذا / تأخير البيان عن وقت الحاجة، إذ الحاجة لم تتحقَّق، أو أنَّه علِم أنهم كانوا يعلمون مقاصدها، ولكنَّه استظهر وبالغَ في نُصحهمْ وتنبيههم على المقصود، وعرَّفهم أقسام الإيمان مجملة، وأنَّه سيذكرها مفصَّلة إذا تفرغ لها فقد كان مشغولاً بالأهم.
          (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ) الخليل، وفي رواية الأَصيلي زِيد: <╧> هو ابن آزر، وهو تارح _بفتح الراء المهملة وفي آخره حاء مهملة_ فآزر اسم، وتارح لقب له، وقيل: عكسه، وإبراهيم اسم عبراني. قال الماورديُّ: معناه: أب رحيم، وكان آزر من أهل حرَّان، وولد إبراهيم في أرض العراق، وكان يتَّجر في البَزِّ، وهاجر من أرض العراق إلى الشام. وبلغ عمره مائة وخمساً وسبعين سنة، وقيل: مائتي سنة، ودُفن بالأرض المقدَّسة، وقبره معروفٌ بقرية حبرون _بالحاء المهملة_، وهي التي تسمَّى اليوم ببلدة الخليل ◙.
          ({وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]): أي: بلى آمنتُ بأنك تُحيي الموتى، ولكن سألت ذلك؛ لأزداد بصيرة، وسكون قلب بمضامة العيان إلى الوحي، والاستدلال، فإنَّ تظاهر الأدلَّة أسكن للقلوب، وأزيد للبصيرة واليقين، ولأنَّ علم الاستدلال يجوز معه التَّشكيك، بخلاف العلم الضَّروري الحاصل من المشاهدة والعيان.
          ومن ثَمَّة قيل:
شنيدن كي بود ما نند ديدن (4)
          قال الزمخشريُّ: فإن قلت: كيف قال له: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} وقد علم أنه أثبتُ الناس إيماناً؟ قلت: ليجيب بما أجاب به؛ لِما فيه من الفائدةِ الجليلة للسَّامعين. انتهى.
          قال محمود العينيُّ: إن فيه فائدتين:
          إحداهما: هي التفرقة بين علم اليقين وعين اليقين، فإن في عين اليقين طُمأنينة ليست في علم اليقين. والثانية: أن لإدراك الشيء مراتب مختلفة قوة وضعفاً، وأقصاها عين اليقين.
          هذا وفيه دَلالةٌ على قبول التَّصديق اليقيني للزِّيادة. وعند ابن جرير بسندٍ صحيحٍ إلى سعيد بن جبير: أي: يزداد يقيني. وعن مجاهد: لأزداد إيماناً إلى إيماني. وإنما فصَل المصنف بين هذه الآية وبين الآيات التي قبلها؛ لأن تلك الآيات دلَّت على الزيادة صريحاً، وهذه يلزم الزيادة منها، ففصَل بينهما إشعاراً بالتَّفاوت.
          (وَقَالَ مُعَاذٌ) بضم الميم وبالذال المعجمة، هو ابن جبل بن عمرو بن أوس، أبو عبد الرحمن الأنصاري، / أسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة، وشهد العقبة الثانية مع السبعين من الأنصار، ثمَّ شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلعم ، وآخى رسول الله صلعم بينه وبين عبد الله بن مسعود.
          روي له عن رسول الله صلعم مائة حديث وسبعة وخمسون حديثاً، اتَّفقا على حديثين، وانفرد البخاري بثلاثة، وانفرد مسلم بحديث واحد. وأخذَ يده رسول الله صلعم وقال: ((يا معاذ، والله إنِّي لأحبك)). وقال أنس ☺: (جمعَ القرآن على عهدِ رسول الله صلعم أربعة: أبيُّ بن كعب، ومعاذُ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد الأنصاري). وقال رسولُ الله صلعم : ((أعلمُهم بالحلالِ والحرام معاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد الأنصاري)).
          وقال: ((نعم الرَّجل معاذ بن جبل))، وأرسلَه رسول الله صلعم إلى اليمن يدعوهم إلى الإسلام قاضياً به، وهو أحدُ الذين كانوا يُفتون في عهد رسولِ الله صلعم ، وهم ثلاثة من المهاجرين: عمر وعثمان وعلي، وثلاثة من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت. وروى عنه: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عبَّاس، وعبد الله بن عَمرو، وأبو قتادة، وجابر، وأنس ♥ .
          وتوفِّي في طاعون (5) عَمْواس _بفتح العين المعجمة المهملة والميم_ قريةٌ بين الرَّملة وبيت المقدس، سنة ثماني عشرة، وقيل: سبع عشرة، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.
          (اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ) بالجزم (سَاعَةً) ووجه دَلالة هذا القول على المطلب: أنَّه لا يمكن حمله على أصل الإيمان؛ لأنَّ معاذاً كان مؤمناً، وأي مؤمن، فالمراد زيادةُ الإيمان؛ أي: اجلس حتى نذكر وجوه الدَّلالات على ما يجب الإيمان به. وقال النَّووي: معناه: نتذاكر الخير، وأحكام الآخرة، وأمور الدِّين، فإن ذلك إيمان.
          قال العسقلانيُّ: وقال القاضي أبو بكر ابن العربي: لا تعلُّق فيه للزيادة؛ لأنَّ معاذاً إنما أراد تجديد الإيمان؛ لأنَّ العبد يؤمن في أوَّل مرَّة فرضاً، ثمَّ يكون أبداً مجدداً، كلَّما نظر أو فكَّر، هذا وما نفاه أوَّلاً أثبته آخراً؛ لأنَّ تجديد الإيمان إيمان. انتهى.
          ومن قال له معاذ هذا القول هو الأسود بن هلال على ما وصله أبو بكر ابن أبي شيبة في ((مصنفه)) حيث قال: حدثنا / وكيع، قال: حدثنا الأعمش، عن جامع ابن شدَّاد، عن الأسود بن هلال قال: قال لي معاذ: ((اجلس بنا نؤمن ساعة)). وكذا وصله أحمد.
          وفي رواية لهما: عن أبي أسامة، عن الأعمش، عن جامع بن شداد، عن الأسود بن هلال، قال: كان معاذ يقول لرجل من إخوانه: ((اجلس بنا فلنؤمن ساعة)). فيجلسان فيذاكران الله ويحمدانه.
          وعُرف من الرِّواية الأولى: أنَّ الأسود أبهم نفسه. ويحتمل أن يكون معاذ قال ذلك له ولغيره، وعُرف من الرِّوايتين أنَّ هذا الأثر وإن كان علَّقه البخاري، لكن من المحدِّثين مَن وصله.
          (وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ) هو عبد الله بن مسعود بن غافل _بالغين المعجمة والفاء_ أبو عبد الرحمن الهُذلي، نسبة إلى جدِّه هُذيل بن مدركة، أسلم بمكة قديماً، وقال: ((رأيتني سادس ستة ما على وجه الأرض مؤمن غيرنا))، هاجر إلى الحبشة، ثمَّ إلى المدينة، وشهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلعم ، وهو الذي أَجْهز (6) على أبي جهل يوم بدر، وشهد له رسول الله صلعم بالجنَّة، وهو صاحب نعلِ رسول الله صلعم كان يلبسه إيَّاها إذا قام، وإذا خلعها وجلس أدخلها في ذراعه.
          وروي له عن رسول الله صلعم ثمانمائة حديث وثمانية وأربعون حديثاً، اتَّفقا منها على أربعة وستين، وانفرد البخاري بأحد وعشرين، ومسلم بخمسة وثلاثين، وروى له الجماعة، مات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين، وهو ابن بضع وستين سنة.
          وقيل: نزل الكوفة في آخر أمره، وتوفي بها، والأول أصح، وصلى عليه عثمان ☺، وقيل: الزبير، وقيل: عمَّار بن ياسر ☻ . وقيل لحذيفة: أَخْبِرنا برجل قريب السَّمْتِ والهَدْي والدَّلِّ من رسول الله صلعم نأخذ عنه، قال: ((ما نعلم أحداً أقرب سمتاً وهدياً ودَلَّاً برسول الله صلعم من ابن أمِّ عبد))؛ يعني به: عبد الله بن مسعود ☺.
          قال أبو عُبيد: الدَّلُّ _بفتح الدال المهملة_ قريب المعنى من الهَدْي _بفتح الهاء وسكون الدال_ وهما بمعنى السَّكينة والوقار في الهيئةِ والمنظر والشَّمائل. وكان ☺ على قضاء الكوفة، وبيت مالها لعمر، وصدراً من خلافة عثمان ☺.
          (الْيَقِينُ) هو العلم وزوال الشَّك. يقال: يقنت الأمر _بالكسر_ وأيقنتُ / واستيقنتُ وتيقنتُ كله بمعنى، وأنا على يقين منه، وذلك عبارة عن التَّصديق، وهو أصل الإيمان، فعبَّر بالأصلِ عن الجميع وقال:
          (الإِيمَانُ كُلُّهُ) كقوله: ((الحجُّ عرفة)) بمعنى أصل الحج ومعظمه عرفة، وذلك لأنَّه إذا أيقن القلب انبعثَ الجوارح كلها للقاءِ الله تعالى بالأعمال الصَّالحة، وفيه دَلالةٌ على أنَّ الإيمان يتبعَّض؛ لأن كلاً وأجمع لا يؤكد بهما إلَّا ذو أجزاء يصح افتراقها حِسًّا أو حكماً، فعُلِم أن للإيمان كلَّاً وبعضاً، فيقبل الزِّيادة والنُّقصان. ثمَّ إن هذا التَّعليق من أثرٍ؛ رواه الطَّبراني بسندٍ صحيحٍ، وبقيتُه: ((والصبر نصف الإيمان)). ولفظ النَّصف صريح في التَّجزئة.
          وروى أحمد في كتاب ((الزهد)) عن وكيع، عن شريك، عن هلالٍ، عن عبد الله بن عُلَيم، قال: سمعت ابن مسعود ☺ يقول في دعائه: ((اللَّهمَّ زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً)).
          قال العسقلانيُّ: وإسنادُه صحيح، وهذا أصرحُ في المقصود ولم يذكره المصنِّف. وكذا بقيَّة الأثر المذكور؛ لأنَّ عادته الاقتصار على ما يدلُّ بالإشارة، وحذف ما يدلُّ بالصَّراحة.
          (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ) هو عبد الله بن عمر بن الخطَّاب القرشي العدوي المكي، أسلم بمكَّة قديماً مع أبيه قبل بلوغه وهاجرَ معه، ولا يصحُّ قول من قال: أنَّه أسلم قبل أبيه، وهاجر قبله، واستصغر عن أُحد، وشهد الخندقَ وما بعدها. وهو أحدُ العبادلة الأربعة، وثانيهم: ابن عبَّاس، وثالثهم: عبد الله بن عَمرو بن العاص، ورابعهم: عبد الله بن الزبير. وليس عبد الله بن مسعود منهم، كما تُوُهِّم.
          قال جابر: ((لم يكن أحدٌ من الصَّحابة ألزم بطريق النَّبي صلعم ولا أتبع من ابن عمر هذا))، وكان كثير الصَّدقة فربما تصدَّق في المجلس الواحدِ بثلاثين ألفاً، وقلَّ نظيره في المتابعة لرسولِ الله صلعم ، وإعراضه عن الدُّنيا ومقاصدها، والتَّطلع إلى رئاسة أو غيرها، وأدلُّ دليلٍ على عظمِ مرتبته شهادة رسول الله صلعم بقوله: ((إنَّ عبدَ الله رجلٌ صالح)).
          وقال الزهريُّ: لا يُعدَل عن رأي ابن عمر، فإنَّه أقام بعد رسول الله صلعم ستين سنة، فلم يخفَ عليه شيء من أمره، ولا من أمر الصَّحابة، ولم يقاتل في الحروبِ الَّتي جرت بين المسلمين، وكان يقول: ((ما أخذني أسىً على شيءٍ فاتني من الدُّنيا، إلَّا أني لم أقاتل مع علي ☺ الفئة الباغية)).
          رُوي له عن رسول الله صلعم أَلفا حديث وستمائة وثلاثون حديثاً، اتَّفقا منها / على مائة وسبعين، وانفرد البُخاري بأحد وثمانين، ومسلم بأحد وثلاثين. وقال البخاريُّ: أصحُّ الأسانيد مطلقاً مالك عن نافع عن ابن عمر. ويسمَّى هذا الإسناد بسلسلةِ الذَّهب.
          مات بفَخٍّ _بالفاء والخاء المعجمة_ موضعٌ بقربِ مكة، وقيل: بذي طوى، سنة ثلاث أو أربع وسبعين سنة بعد قتل ابن الزَّبير بثلاثة أشهر، وقيل: بستة، عن أربع أو ست وثمانين سنة، وصلَّى عليه الحجَّاج.
          وفي الصَّحابة أيضاً: عبد الله بن عمر جَرْمي، يقال: إنَّ له صحبة يروى عنه حديث في الوضوء.
          (لاَ يَبْلُغُ الْعَبْدُ) بالتعريف، وفي رواية: بالتنكير (حَقِيقَةَ التَّقْوَى) الَّتي هي وقاية النفس عن الشِّرك والأعمال السَّيِّئة، والمواظبة على الأعمال الصَّالحة، وفيه إشعار إلى أنَّ بعض المؤمنين بلغوا إلى كُنْهِ الإيمان، وبعضهم لا، فتجوز الزِّيادة والنُّقصان، وفي بعض الرِّوايات: وقع لفظ: <الإيمان> بدل: التقوى.
          (حَتَّى يَدَعَ) أي: يترك (مَا حَاكَ) بالمهملة وتخفيف الكاف؛ أي: اضطرب وتردد (7) (فِي الصَّدْرِ) ولم ينشرح له، وخاف الإثم فيه، وفي بعض نسخ المغاربة: <ما حكَّ> بتشديد الكاف. وفي بعض النسخ العراقية:<ما حاكَّ> بالألف والتشديد من المحاكة، حكاهما محمود العيني، والبرماوي.
          وقد روى مسلم معنى ذلك الأثر من حديث النَّواس بن سمعان قال: سألت رسولَ الله صلعم عن البِرِّ والإثم فقال: ((الِبرُّ حسنُ الخلق، والإثمُ ما حاك في نفسك، وكرهتَ أن يطَّلع الناس عليه)). وعند أحمد والترمذي من حديث عطيَّة السَّعدي قال: قال رسول الله صلعم : ((لا يكون الرَّجل من المتَّقين حتى يدع ما لا بأسَ به حذراً لما به البأس)). وقد أخرج ابنُ أبي الدنيا في كتاب ((التقوى)) عن أبي الدَّرداء ☺ قال: ((تمام التَّقوى أن تتَّقي الله حتَّى تترك ما ترى أنَّه حلال، خشية أن يكون حراماً)).
          ولمَّا لم يكن فيها شيءٌ على شرط المصنِّف اقتصرَ على أثرِ ابن عمر ☻ . قال العسقلانيُّ: ولم أره موصولاً إلى الآن.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ) هو ابن جبر _بفتح الجيم وسكون الموحدة_ الإمام المفسِّر المشهور مكِّي مخزومي مولى عبد الله بن السَّائب المخزومي، وقيل: مولى قيس تابعي متَّفق على جلالتهِ وتوثيقه، إمام في التَّفسير والحديث والفقه. وقيل: كان أعلمهم بالتَّفسير مجاهد. سمع: ابن عبَّاس وابن عمر وأبا هريرة وجابراً، وعبد الله بن عَمرو وغيرهم.
          قال: عرضتُ القرآن على ابن عبَّاس ثلاثين مرَّة، توفِّي بمكة وهو ساجدٌ سنة / مائة، أو إحدى أو اثنتين أو أربع ومائة، وهو ابنُ ثلاث وثمانين سنة، روى له الجماعة. ووصل هذا التَّعليق عبد بن حُميد في ((تفسيره)) بسندٍ صحيحٍ عن شبابة، عن ورقاء، عن ابن أبي نَجيح، عنه.
          ورواهُ ابن المنذر بإسناده بلفظه هذا؛ أي: قال مجاهدٌ في تفسير قوله تعالى: ({شَرَعَ لَكُمْ}): زاد الهروي وابن عساكر: <{مِنَ الدِّيْنِ}> (أَوْصَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ وَإِيَّاهُ) أي: نوحاً (دِيناً وَاحِداً) والمراد أنَّ الذي تظاهرت عليه أدلَّة الكتاب والسنَّة من زيادة الإيمان ونقصانه هو شرع الأنبياء ‰ الَّذين قبل نبينا صلعم ؛ لأنَّ الله تعالى قال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} [الشورى:13] الآية، وإنما خصَّ نوحاً بالذِّكر لِما قيل: أنَّه الذي جاء بتحريم الحرام وتحليلِ الحلال، وهو أوَّل من جاء بتحريم الأمَّهات والبنات والأخوات، وهو أوَّل نبي جاءَ بعد إدريس ◙.
          وأمَّا ما يقال: أن ((إيَّاه)) تصحيف في هذا الأثر، والصَّواب: أوصاك يا محمد وأنبياءه، كما عند عبد بن حُميد، وابن المنذر، وكيف يُفرد الضَّميرَ مجاهدٌ مع أنَّ في السِّياق ذِكر جماعة؛ فمدفوعٌ بأن نوحاً أُفرد في الآية، وبقية الأنبياء ‰ عُطفت عليه، وهم داخلون فيما وصَّى به نوحاً، وكلهم مشتركون في هذه الوصيَّة، فذِكرُ واحد منهم يُغني عن ذِكر الكلِّ على أن نوحاً أقرب المذكورين، وهو أولى بعود الضمير إليه، فليس بتصحيفٍ، بل هو صحيحٌ.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ في تفسير قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ} أيُّها الناس. ({شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48]: سَبِيلاً) تفسير لـ:{مِنْهَاجاً}؛ أي: طريقاً واضحاً، من نَهَج الأمر، إذا وضح (وَسُنَّةً) تفسير لشرعةً. يقال: شرع يشرع شرعاً؛ أي: سنَّ، وهي في الأصل الطريقة إلى الماء شبَّه بها الدين؛ لأنه طريق إلى ما هو سبب الحياة الأبدية، كما أن الماء سبب الحياة البدنية؛ ففيه لفٌّ ونشر غير مرتب. وفي بعض النسخ: <سنة وسبيلاً> فيكون مرتباً.
          وهذا التَّعليق وصله عبد الرَّزاق في ((تفسيره)) بسندٍ صحيحٍ عن الثَّوري، عن أبي إسحاق، عن التميميِّ، عن ابن عبَّاس ☻ . وأخرج عبد الرَّزاق: عن معمر، عن قتادة: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48] قال: الدِّين واحد، والشَّريعة مختلفة.
          وقال ابنُ إسحاق: قال بعضُهم: الشِّرعة: الدِّين، والمنهاج: الطَّريق، وقيل: هما الطَّريق، والطَّريق هنا الدِّين، ولكنَّ اللَّفظ إذا اختلف أتى بألفاظ يؤكِّد بها القصَّة. وقال محمد بن يزيد: شِرعة معناها: ابتداء الطريق، والمنهاج: الطريق المستمر.
          فإن قيل: هذه / الآية تدلُّ على الاختلاف، والتي قبلها تدل على الاتحاد، فما وجه الجمع بينهما؟ قيل: إن الاتحاد في أصول الدين، وليس بين الأنبياء فيها اختلاف، والاختلاف في فروعه، وهي التي يدخلها النَّسخ؛ فعند اختلاف المحل لا يثبت التَّعارض، ثم إني ما رأيت أحداً من الشراح تعرَّض لوجه دَلالة هذا الأثر على المطلب، بل قال محمود العيني: إن قوله: وقال ابن مسعود إلى هنا غير ظاهر الدَّلالة على الدَّعوى، فتأمل.
          ولعلَّ وجهه: أنه تعالى لمَّا جعل لكلِّ واحد من الأنبياء شرعة ومنهاجاً بالتفسيرين السابقين، وكل منهم مؤمن عُلِم أن الإيمان يقبل التَّعدد، وكل ما يقبل التَّعدد؛ فهو يقبل الزِّيادة والنُّقصان.


[1] ((إجمالاً)): ليست في (خ).
[2] ((رأس)): ليست في (خ).
[3] في هامش الأصل: قال النووي في ((تهذيب الأسماء)): حمله العلماء في المائة الأولى على عمر، وفي الثانية على الشافعي، وفي الثالثة على ابن شريح. وقال الحافظ ابن عساكر: هو الشيخ أبو الحسن الأشعري، وفي الرابعة على أبي سهل الصعلوكي، وقيل: الباقلاني، وقيل: أبو حامد الاسفرايني، وفي الخامس على الغزالي، وقال الكرماني: هذا أمر ظني لا مجمع لليقين فيه فللحنفيَّة أن يقولوا: هو الحسن بن زياد في الثانية، والطحاوي في الثالثة وأمثالهما، وللمالكية أن يقولوا: إنه ابن شهاب في الثانية وهلمَّ جرًّا، وللحنابلة: ابن الخلال في الثالثة، والراغوني في الخامسة إلى غير ذلك، وللمحدِّثين: أنَّه يحيى بن معين في الثانية، والنسائي في الثالثة، ولأولي الأمر: أنَّه المأمون والمقتدر والقادر، وللزهاد: أنه معروف الكرخي في الثانية، والشبلي في الثالثة ونحوهما، وأن تصحيح الدين متناول لجميع أنواعه مع أن لفظة ((مَن)) تحتمل التعدد في المصحَّح، وقد كان قبيل كل مائة أيضاً من تصحيح ويقوم بأمر الدين، وإنما المراد من انقضت المائة وهو حي عالم مشار إليه، ولا يبعد أن يكون في السَّادسة الإمام الرازي وكيف لا ولولاه لامتلأت الدُّنيا من شُبَه الفلاسفة، وهو الداعي إلى الله في إثبات القواعد الحقانية، وحجَّة الحقِّ على الخلق في تصحيح العقائد الإيمانية. منه.
[4] شعر فارسي معناه: ليس الخبر كالمعاينة.
[5] في هامش الأصل: وإنما نسب الطاعون إلى عَمواس لأنه بدا منها. منه.
[6] في هامش الأصل: يقال: أجهز على الجريح أسرع قتله وتممه. ((صحاح)).
[7] في هامش الأصل: كذا فسره النووي، قال الجوهري: حاك السيف وأحاك بمعنى. يقال: ضربه فما حاكَ فيه السيف إذا لم يعمل فيه. والحيك: أخذ القول في القلب. يقال: ما يحيك فيه الملام، إذا لم يؤثِّر فيه. وقال التيمي: حاك في الصدر؛ أي: ثبت، وقال شمر: الحائك الراسخ في قلبك الذي يهمك. منه.