إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم

          1251- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَلِيٌّ) هو ابن المدينيِّ قال: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) بن عيينة (قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ) محمَّد بن مسلم ابن شهابٍ (عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم قَالَ: لَا يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ) رجلٌ أو امرأةٌ (ثَلَاثَةٌ مِنَ الوَلَدِ، فَيَلِجَ النَّارَ) أي: فيدخلها، وفي «الأيمان والنذور» عند المؤلِّف من رواية مالكٍ، عن الزُّهريِّ: «لا يموت لأحدٍ من المسلمين ثلاثةٌ من الولد تمسُّه النَّار» [خ¦6656] (إِلَّا تَحِلَّةَ القَسَمِ) بفتح المثنَّاة الفوقيَّة وكسر المهملة وتشديد اللَّام، و«القَسَم» بفتح القاف والسِّين، أي: ما تحلُّ به اليمين، أي: يكفِّرها، تقول: فعلته تحلَّة القَسَم، أي: لم أفعله إلَّا بقدر ما حللت به يميني، ولم أبالغ، وقال الطِّيبيُّ: هو مَثَلٌ في القليل المفرط في القلَّة، والمراد به هنا: تقليل الورود، أو المسُّ، أو قلَّة زمانه، وقوله: «فيلجَ» نصبٌ؛ لأنَّ الفعل المضارع يُنصَب بعد النَّفي بـ «أنْ» مقدَّرةً بعد الفاء، لكن حكى الطِّيبيُّ(1)، فيما ذكره عنه جماعةٌ، وأقرُّوه عليه، ورأيته في «شرح المشكاة» له منعه عن بعضهم، وذكره ابن فرشتاه في «شرح المشارق» عن الشَّيخ أكمل الدِّين معلِّلًا بأنَّ شرط ذلك أن يكون(2) ما قبل الفاء وما بعدها سببًا، ولا سببيَّة(3) هنا؛ لأنَّه ليس موت الأولاد ولا عدمه سببًا لولوج أبيهم النَّار، وبيان ذلك _كما نبَّه عليه صاحب «مصابيح الجامع»_ أنَّك تعمد / إلى الفعل الَّذي هو غير موجبٍ، فتجعله موجبًا، وتُدخِل عليه «إنْ» الشَّرطيَّة، وتجعل الفاء وما بعدها مِن الفعل جوابًا، كما تقول في قوله تعالى: {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي}[طه:81] أي: أَنْ تطغوا فيه، فحلول الغضب حاصلٌ، وفي قوله‼: ما تأتينا فتحدِّثنا إن تأتنا، فالحديث واقعٌ، وهنا إذا قلت: إن يمت لمسلمٍ ثلاثةٌ من الولد، فولوج النَّار حاصلٌ لم يستقم، قال الطِّيبيُّ وكذا الشَّيخ أكمل الدِّين: فالفاء هنا بمعنى: «الواو» الَّتي للجمع، وتقديره: لا يجتمع لمسلمٍ موت ثلاثةٍ من أولاده وولوجه النَّار. انتهى. وأجاب ابن الحاجب والدَّمامينيُّ واللَّفظ له بأنَّه(4) يجوز النَّصب بعد الفاء الشَّبيهة بفاء السَّببيَّة بعد النَّفي مثلًا وإن لم تكن السَّببيَّة حاصلةً، كما قالوا في أحد وجهي ما تأتينا فتحدِّثنا: إنَّ النَّفي يكون راجعًا في الحقيقة إلى التَّحديث(5) لا إلى الإتيان، أي: ما يكون منك إتيانٌ يعقبه حديثٌ، وإن حصل مطلق الإتيان، كذلك هنا، أي: لا يكون موت ثلاثةٍ من الولد، يعقبه ولوج النَّار، فيرجع(6) النَّفيُ إلى القيد خاصَّةً، فيحصل المقصود ضرورة أن مسَّ النَّار إن لم يكن يعقب موت الأولاد، وجب دخول الجنَّة، إذ ليس بين النَّار والجنَّة منزلةٌ أخرى في الآخرة، ولم يقيِّد الأولاد في هذا الحديث كغيره، بكونهم لم يبلغوا الحنث، وحينئذٍ فيكون قوله في ما سبق: «لم يبلغوا الحنث»، لا مفهوم له كما مرَّ، وزاد في رواية غير الأربعة هنا ”قال أبو عبد الله“ أي: البخاريّ، مستشهدًا لتقليل مدَّة الدُّخول: ”{وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}“[مريم:71] داخلها دخول جوازٍ لا دخول عقابٍ، يمرُّ بها المؤمن وهي خامدةٌ(7) وتنهار بغيرهم، روى النَّسائيُّ والحاكم من حديث جابرٍ مرفوعًا: «الورود: الدُّخول، لا يبقَ برٌّ ولا فاجرٌ إلَّا دخلها، فتكون على المؤمنين(8) بردًا وسلامًا»، وقيل: ورودها: الجواز على الصِّراط، فإنَّه ممدودٌ عليها، رواه الطَّبرانيُّ وغيره، من طريق بسر(9) بن سعيدٍ، عن أبي هريرة، ومن طريق كعب الأحبار، وزاد: «يستوون كلُّهم على متنها، ثمَّ ينادي منادٍ: أمسكي أصحابك ودعي أصحابي، فيخرج المؤمنون نديَّةً أبدانُهم».
          وحديث الباب أخرجه مسلمٌ في «الأدب» والنَّسائيُّ في «التَّفسير» وابن ماجه في «الجنائز»، وحديث شريكٍ مقدَّمٌ على حديث مسلمٍ في رواية أبي ذَرٍّ.


[1] في (ص): «العيني»، ولعلَّه تحريفٌ.
[2] زيد في (د): «بين»، وليس بصحيحٍ.
[3] في (ص) و(م): «سبب».
[4] في (م): «و».
[5] في غير (س): «الحديث»، ولعلَّ المثبت هو الصَّواب.
[6] في (ب) و (د): «فرجع».
[7] في غير (د) و(س): «خادمة»، وهو تحريفٌ.
[8] في (ب) و(س): «المؤمن».
[9] في الأصول: «رواه الطبراني وغيره من طريق بشر...» والتصحيح من فتح الباري ومصادر التخريج، والأحاديث عن الطبري في تفسيره (18/231_234).