إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: من حدثك أن محمدًا رأى ربه فقد كذب

          7380- وبه قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) بن واقد الفريابيُّ الضَّبيُّ مولاهم، محدِّث قيساريَّة قال: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) الثَّوريُّ (عَنْ إِسْمَاعِيلَ) بن أبي خالد البجليِّ (عَنِ الشَّعْبِيِّ) عامر بن شراحيل، أحد الأعلام، قال: أدركت خمس مئةٍ من الصَّحابة‼ وما كتبت سوداء في بيضاء، ولا حدَّثت بحديثٍ إلَّا حفظته (عَنْ مَسْرُوقٍ) أي: ابن الأجدع (عَنْ عَائِشَةَ ♦ ) أنَّها (قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صلعم رَأَى رَبَّهُ) ليلة المعراج (فَقَدْ كَذَبَ) قالته رأيًا باجتهادها؛ لقولها: (وَهْوَ) أي: الله تعالى (يَقُولُ) في سورة الأنعام [خ¦103] ({لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ }) وأجاب المثبتون: بأنَّ معنى الآية: لا تحيط به الأبصار، أو لا تدركه الأبصار وإنَّما يدركه المبصرون، أو لا تدركه في الدُّنيا؛ لضعف تركيبها في الدُّنيا / فإذا كان في الآخرة خلق الله تعالى فيهم قوَّةً يقدرون بها على الرُّؤية، وفي كتابي «المواهب» من مباحث ذلك ما يكفي (وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ الغَيْبَ فَقَدْ كَذَبَ) والضَّمير في «أنَّه يعلم» للنَّبيِّ صلعم لعطفه على قوله: «من حدثك أنَّ محمَّدًا» وصرَّح به فيما أخرجه ابن خزيمة وابن حبَّان من طريق عبد ربِّه بن سعيد(1) عن داود بن(2) أبي هند عن الشَّعبيِّ بلفظ: «أعظم الفرية على الله من قال: إنَّ محمَّدًا رأى ربَّه، وأنَّ محمَّدًا كتم شيئًا من الوحي، وأنَّ محمَّدًا يعلم ما في غدٍ» (وَهْوَ) تعالى (يَقُولُ: لَا يَعْلَمُ الغَيْبَ إِلَّا اللهُ) والآية: {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ}[النمل:65] وجاز مثل ذلك؛ لأنَّه ليس الغرض القراءة ولا نقلها(3)، وقَوْلُ الدَّاودي: _ما أظنُّ قوله في هذا الطَّريق: «من حدَّثك، أنَّ محمَّدًا يعلم الغيب» محفوظًا، وما أحدٌ يدَّعي أنَّ رسول الله صلعم كان يعلم الغيب إلَّا ما(4) علَّمه الله_ متعقَّب بأنَّ بعض من لم يرسخ في الإيمان كان يظنُّ ذلك حتَّى كان يرى أنَّ صحَّة النُّبوَّة تستلزم اطِّلاع النَّبيِّ على جميع المغيَّبات، ففي «مغازي ابن إسحاق»: أنَّ ناقته صلعم ضلَّتْ، فقال ابن الصَّليت _بالصَّاد المهملة، آخره مثنَّاةٌ، بوزن عظيمٍ_: يزعم محمَّدٌ(5) أنَّه نبيٌّ ويخبركم(6) عن خبر السَّماء وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال النَّبيُّ صلعم : «إنَّ رجلًا يقول كذا وكذا، وإني والله لا أعلم إلَّا ما علمني الله، وقد دلَّني الله عليها وهي في شِعْب كذا، قد حبستها شجرةٌ» فذهبوا فجاؤوا بها، فأَعْلَم صلعم أنَّه لا يعلم من الغيب إلَّا ما علَّمه الله، والغرض من الباب: إثبات صفة العلم، وفيه ردٌّ على المعتزلة حيث قالوا: إنَّه عالمٌ بلا علمٍ، قال العِبْريُّ(7): وكتبهم شاهدةٌ بتعليل(8) عالميَّة الله تعالى بالعلم كما يقول به أهل السُّنَّة، لكنَّ النِّزاع في أنَّ ذلك العلم المعلَّل به هل هو عين الذَّات كما تقول المعتزلة، أو لا كما يقول أهل السُّنَّة؟ ثمَّ إنَّ علمه تعالى شاملٌ لكلِّ معلومٍ جزئيَّاتٍ وكلِّيَّاتٍ، قال تعالى: {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}[الطلاق:12] أي: علمه أحاط بالمعلومات كلِّها، وقال تعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} الاية[سبأ:3] وأطبق المسلمون على أنَّه تعالى يعلم دبيب النَّملة السَّوداء على(9)‼ الصَّخرة الصَّماء في اللَّيلة الظَّلماء، وأنَّ معلوماته لا تدخل تحت العدِّ(10) والإحصاء، وعلمه محيطٌ بها جملةً وتفصيلًا، وكيف لا وهو خالقها؟ {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ}[الملك:14] وضلَّت الفلاسفة حيث زعموا أنَّه يعلم الجزئيَّات على الوجه الكلِّيِّ لا الجزئيِّ.
          وحديث الباب سبق في «التَّفسير» [خ¦4612].


[1] في (د) و(س): «سعد» وهو تحريفٌ.
[2] في (د) و(س): «عن» وليس بصحيحٍ.
[3] في (د): «تعلُّمها».
[4] في غير (د) و(س): «من».
[5] «محمَّدٌ»: مثبتٌ من (د) و(س).
[6] في (د): «وهو يخبركم».
[7] في (د) و(ع): «العسكريُّ».
[8] في (ع): «بتعليق».
[9] في غير (د) و(ع): «في».
[10] في غير (د): «العلَّة» ولعلَّه تحريفٌ.