إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: ارجع فأخبرها أن لله ما أخذ وله ما أعطى

          7377- وبه قال: (حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ) محمَّد بن الفضل قال: (حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) بفتح الحاء والميم المشدَّدة ابن درهمٍ الأزديُّ أحد الأعلام (عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ) بن سليمان (عَنْ أَبِي عُثْمَانَ) عبد الرحمن بن ملٍّ (النَّهْدِيِّ) بفتح النون وسكون الهاء (عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ) الحِبِّ ابن الحِبِّ ☺ أنَّه (قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلعم إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ) زينب (يَدْعُوهُ) أي: الرّسول، ولأبي ذرٍّ: ”تدعوه“ بالفوقيَّة بدل التّحتيَّة، أي: تدعوه زينب على لسان رسولها (إِلَى ابْنِهَا) وهو (فِي) حالة (المَوْتِ) من معالجة الرُّوح (فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم : ارْجِعْ) زاد أبو ذرٍّ: ”إليها“ وسقط له لفظ «النّبيُّ» والتَّصلية (فَأَخْبِرْهَا أَنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى) أي: الذي أراد أن يأخذه هو الذي أعطاه، فإن أخذه؛ أخذ ما هو له، ولفظ «ما» فيهما مصدريَّةٌ، أي: أنَّ(1) لله الأخذ والإعطاء، أو موصولةٌ والعائد محذوفٌ، وكذا الصِّلة (وَكُلُّ شَيْءٍ) من الأخذ والإعطاء وغيرهما (عِنْدَهُ) في علمه (بِأَجَلٍ مُسَمًّى) مقدَّرٍ (فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ) أي: تنوي بصبرها طلب الثَّواب منه تعالى؛ ليحسب(2) ذلك من عملها الصالح (فَأَعَادَتِ الرَّسُولَ) إليه صلعم (أَنَّهَا أَقْسَمَتْ) ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”قد أقسمت“ أي: عليه (لَيَأْتِيَنَّهَا، فَقَامَ النَّبِيُّ صلعم وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ) زاد في «الجنائز» [خ¦1284] وأبيُّ بن كعبٍ وزيد بن ثابتٍ ورجالٌ (فَدُفِعَ الصَّبِيُّ إِلَيْهِ) بالفاء والدَّال المهملة المضمومة، وللكُشْميهنيِّ: ”فرُفِعَ“ بالرَّاء بدل الدَّال، وللحَمُّويي والمُستملي: ”ورُفِعَ“ بالواو بدل الفاء (وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ) بحذف إحدى التَّاءين تخفيفًا، أي: تضطرب وتتحرَّك، والقعقعة: حكاية حركةٍ لشيءٍ يُسمَع له صوتٌ كالسِّلاح (كَأَنَّهَا) أي: نفسُه (فِي شَنٍّ) بفتح الشِّين المعجَمة وتشديد النُّون / : قِربةٍ خلقةٍ يابسةٍ (فَفَاضَتْ) بالبكاء (عَيْنَاهُ) صلعم (فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ) أي: ابن عبادة المذكور: (يَا رَسُولَ اللهِ، مَا هَذَا) البكاء وأنت تنهى عنه؟ وثبت: ”ما هذا“ لأبي ذرٍّ (قَالَ) صلعم : (هَذِهِ رَحْمَةٌ) أي: الدَّمعة التي تراها من حزن القلب بغير تعمُّدٍ ولا استدعاءٍ لا مؤاخذة فيها، فهي أثر الرَّحمة التي (جَعَلَهَا اللهُ) تعالى (فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) وليس من باب الجزع وقلَّة الصَّبر، و«الرُّحماء»: جمع رحيمٍ، من صيغ المبالغة، وهو أحد الأمثلة الخمسة: فَعول وفعَّال ومِفْعال وفَعِل وفعيل، وزاد بعضهم فيها: فِعِّيلًا كَسِكِّير، وجاء «فعيل» بمعنى: مفعول، قال المتلمِّس:
فأمَّا إذا عضَّت بك الحرب عضّةً                     فإنَّك معطوفٌ عليك رحيمُ‼
والرَّحمة لغةً: الرِّقَّة والانعطاف، ومنه اشتقاق الرَّحِم، وهي البطن؛ لانعطافها على الجنين، فعلى هذا يكون وصفه تعالى بالرَّحمة مجازًا عن(3) إنعامه تعالى على عباده، كالملك إذا عطف على رعيَّته أصابهم خيره، وتكون على هذا التقدير صفة فعلٍ، لا صفة ذاتٍ، وقيل: الرَّحمة: إرادة الخير لمن أراد الله به ذلك، ووصفه بها على ذلك القول حقيقةٌ، وهي حينئذٍ صفةُ ذاتٍ، وهذا القولُ هو الظَّاهر، وقيل: الرَّحمة رقَّةٌ تقتضي الإحسان إلى المرحوم، وقد تستعمل تارةً في الرِّقَّة المجرَّدة، وتارةً في الإحسان المجرَّد، وإذا وُصِف بها الباري تعالى فليس يُراد بها إلَّا الإحسان المجرَّد دون الرِّقَّة، وعلى هذا روي: الرَّحمة من الله إنعامٌ وإفضالٌ، ومن الآدميِّين رقَّةٌ وتعطُّفٌ، وأمَّا ما روي عن ابن عبَّاسٍ ☻ أنَّه قال: «الرَّحمن الرَّحيم: اسمانِ رقيقان، أحدهما أرقُّ من الآخر» فلا يثبت؛ لأنَّه من رواية الكلبيِّ عن أبي صالحٍ عنه، والكلبيُّ متروكُ الحديث، ونقل البيهقيُّ عن الحسين بن الفضل البجليِّ أنَّه نسب راوي حديث ابن عبَّاسٍ إلى التَّصحيف، وقال: إنَّما هو الرَّفيق؛ بالفاء، أي: فهما اسمان رفيقان، أحدهما أرفق من الآخر، وقوَّاه البيهقيُّ بالحديث المرويِّ في مسلمٍ عن عائشة ♦ مرفوعًا: «إنَّ الله رفيقٌ يحبُّ الرِّفق، ويُعطي عليه ما لا يُعطي على العنف» واختُلِف هل «الرَّحمن الرَّحيم» بمعنًى واحدٍ؟ فقيل: بمعنًى واحدٍ، كندمان ونديم، فيكون الجمع بينهما تأكيدًا، وقيل: لكلِّ واحدٍ منهما فائدةٌ غير فائدة الآخر، وذلك بالنِّسبة إلى تغاير تعلُّقهما؛ إذ يقال: رحمن الدُّنيا ورحيم الآخرة؛ لأنَّ رحمته في الدُّنيا تعمُّ المؤمن والكافر، وفي الآخرة تخصُّ المؤمن، وقيل: الرَّحمن أبلغ؛ إذ لا يُطلَق إلَّا على الله سبحانه، وعلى هذا فالقياس أن يترقَّى إلى الأبلغ فيقول: رحيم رحمن، قال صاحب «التقريب»: إنَّما قدَّم أعلى الوصفين، والقياس تقديم أدناهما، كجوادٍ فيَّاضٍ؛ لأنَّ ذلك القياس فيما كان الثَّاني من جنس الأوَّل وفيه زيادةٌ، و«الرَّحمن» يتناول جلائل النِّعم وأصولها، و«الرَّحيم» دقائقها وفروعها، فلم يكن في الثَّاني زيادةٌ على الأوَّل، فكأنَّه جنسٌ آخر، فيقال: لِما ثبت أنَّ «الرَّحمن» أبلغ من «الرَّحيم» في تأدية معنى الرَّحمة المترقِّي(4) من «الرَّحيم» إليه؛ لأنَّ معنى التَّرقِّي هو أن يُذكَر معنًى ثمَّ يُردَف بما هو أبلغ منه(5)، وقال صاحب «الإيجاز والانتصاف»: «الرَّحمن» أبلغ؛ لأنَّه كالعَلَم إذ كان لا يوصَف به غير الله تعالى، فكأنَّه الموصوف، وهو أقدم إذ الأصل في نِعَم الله أن تكون عظيمةً، فالبداءة بما يدلُّ على عظمها أَولى. هذا أحسن الأقوال، يعني: أنَّ هذا الأسلوب ليس من باب التَّرقِّي، بل هو من باب التَّتميم، وهو تقييدُ الكلام بتابعٍ يفيد مبالغةً، وذلك‼ أنَّه تعالى لمَّا ذكر ما دلَّ على جلائل النِّعم وعظائمها أراد المبالغة والاستيعاب، فتمَّم بما دلَّ على دقائقها وروادفها؛ ليدلَّ به على أنَّه مولى النِّعم كلِّها، ظواهرها وبواطنها، جلائلها ودقائقها / ، فلو قصد التَّرقِّي لفاتت المبالغة المذكورة، ومن شرط التَّتميم الأخذ بما هو أعلى في الشَّيء، ثمَّ بما هو أحطُّ(6) منه؛ ليستوعب جميع ما يدخل تحت ذلك الشَّيء؛ لأنَّهم لا يعدلون عن الأصل والقياس إلَّا لتوخِّي نُكْتةٍ، وقيل: إنَّه من باب التَّكميل، وهو أن يؤتى بكلامٍ في فنٍّ، فيُرَى أنَّه ناقصٌ فيه، فيكمَّل بآخر، فإنَّه تعالى لمَّا قال: «الرَّحمن» تُوُهِّم أنَّ جلائل النِّعم منه، وأنَّ الدقائق لا يجوز أن تنسب إليه لحقارتها، فكمَّل بـ «الرَّحيم» ويؤيِّده ما في حديث التِّرمذيِّ عن أنسٍ مرفوعًا: «لِيَسأل أحدكم ربَّه حاجته كلَّها حتَّى يسأل شسع نعله إذا انقطع» وزاد: «حتَّى يسأل الملح».
          وحديث الباب سبق في «الجنائز» [خ¦1284].


[1] «أنَّ»: ليس في (د).
[2] في (د): «ليحتسب».
[3] في (د) و(ع): «من».
[4] في (د): «بالتَّرقِّي».
[5] قال الشيخ قطة ☼ : قوله: «فيقال: لما ثبت...» إلى آخره، تأمله فإنه لا يناسب ما قبله، ولعله محرف والأصل: فحينئذ لم يثبت... إلى آخره، ليكون ملتئمًا مع ما قبله فتدبر.
[6] في (د): «أحوط»، وهو تحريفٌ.