شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب التطوع في البيت

          ░37▒ بَابُ: التَّطَوُّعِ في البَيْتِ.
          فيهِ: ابنُ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: (اجْعَلُوا في بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلاتِكُمْ(1)، وَلا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا). [خ¦1187]
          هذا من التَّمثيل البديع، وذلك بتشبيهه صلعم البيت الَّذي لا يُصَلَّى فيه بالقبر الَّذي لا يتمكَّن الميِّتُ مِن العبادة فيه(2)، وشبَّه النَّائم اللَّيل كلَّه بالميِّت الَّذي انقطع منه فعل الخير، وقد قال عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ ☺: ((صَلَاةُ المَرْءِ في بَيْتِهِ نُورٌ فَنَوِّرُوا بُيُوتَكُمْ)).
          وللعلماء في معنى هذا الحديث قولان: منهم من قال: إنَّ الحديث وَرَدَ في النَّافلة دون الفريضة؛ لأنَّ النَّبيَّ صلعم قد سَنَّ الصَّلَوَات في الجماعة، ورغَّب في ذلك، وتوعَّد من تخلَّف عنها لغير(3) عُذْرٍ، وقال: ((أَفْضَلُ الصَّلاةِ صَلاةُ المَرْءِ في بَيْتِهِ إلَّا المَكْتُوبَةَ)). فبان أنَّ الحديث وَرَدَ في النَّافلة، لأنَّها إذا كانت في البيت كان أبرأ من الرِّياء والشُّغل / بحديث النَّاس، فحضَّ ◙ على النَّوافل في البُيُوت، إذ السِّرُّ في النَّوافل أفضل من الإعلان، وعلى هذا التَّأويل تكون (مِنْ) زائدةً كأنَّه قال: اجعلوا صلاتكم النَّافلة في بُيُوتكم، كقوله(4): ما جاءني من أَحَدٍ، وأنت(5) تُرِيدُ ما جاءني أَحَدٌ، وإلى هذا الوَجْه ذهب(6) البخاري، وقد رُوِيَ ما يدلُّ عليه عنِ النَّبيِّ صلعم.
          روى الطَّبَرِيُّ من حديث عبدِ الرَّحمنِ بنِ سَابِطٍ عن أبيه عن النَّبيِّ صلعم، قالَ: ((نَوِّرُوا بُيُوْتَكُمْ بِذِكْرِ اللهِ، وأَكْثِرُوا فَيْهَا تِلَاوَةَ القُرْآنِ، وَلَا تَتَخِذُوْهَا قُبُوْرًا كَمَا اتَّخَذَهَا اليَهُودُ والنَّصَارَى، فَإِنَّ البَيْتَ الَّذِي يُقْرَأُ فيهِ القُرْآنُ يَتَّسِعُ(7) عَلَى أَهْلِهِ، ويَكْثُرُ خَيْرُهُ، وتَحْضُرُهُ المَلَائِكَةُ، ويُدْحَضُ عنهُ الشَّيَاطِيْنُ(8)، وإِنَّ البَيْتَ الَّذِي لا يُقْرَأُ فيهِ القُرْآنُ يَضِيْقُ عَلَى أَهْلِهِ، ويَقِلُّ خَيْرُهُ، وتَنْفِرُ عنهُ المَلَائِكَةَ، وتَحْضُرُهُ الشَّيَاطِيْنُ)).
          وقد رُوِيَ عن جماعةٍ من السَّلف أنَّهم كانوا لا يتطوَّعون في المسجد، رُوِيَ ذلك عن حُذَيْفَةَ وعن السَّائِبِ بنِ يزيدَ والنَّخَعِيِّ(9) والرَّبِيْعِ بنِ خَيْثَمَ(10) وعُبَيْدَةَ وسُوَيْدِ بنِ غَفَلَةَ.
          وقال آخرون: هذا الحديث إنَّما وَرَدَ في الفريضة، و(مِنْ) للتبعيض، كأنَّه قال: اجعلوا بعض صلاتكم المكتوبة في بيوتكم ليقتدي بكم أهلوكم، ومن لا يخرج إلى المسجد منهم، ومن يلزمكم تعليمه لقوله تعالى: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}[التحريم:6]ومن تخلَّف عن جماعةٍ لجماعةٍ، وإن كانت أقلَّ منها فلم يتخلَّف عنها، ومن صَلَّى في بيته(11) جماعةٌ فقد أصاب سُنَّة الجماعة وفضلها. روى حمَّادُ عن إبراهيمَ قال: إذا صَلَّى الرَّجُلُ مع الرَّجُلِ(12) فهما جماعةٌ، لهما التَّضعيف خمسًا وعشرين(13) درجةً.
          ورُوِيَ أنَّ أحمدَ بنَ حَنْبَلٍ وإِسْحَاقَ وعليَّ بنَ المدينيِّ، اجتمعوا في دار أحمدَ فسمعوا النِّداء، فقال أحدُهم: اخرجْ بنا إلى المسجدِ، فقال أحمدُ: خُرُوجنا إنَّما هو للجماعةِ، ونحن في جماعةٍ، فأقاموا الصَّلاة وصلَّوا في البيتِ.


[1] في (م): ((اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم)).
[2] في (ص): ((لا يمكن الميت فيه عبادة)).
[3] في المطبوع: ((بغير)).
[4] في (م): ((كقولك)).
[5] قوله: ((وأنت)) ليس في (م).
[6] في المطبوع و(ص): ((أشار)).
[7] في (م): ((ليتَّسع)).
[8] في المطبوع و(ص): ((الشَّيطان)).
[9] في (ص): ((النخعي)) بلا واو.
[10] في (م): ((خثيم)).
[11] زاد في (م): ((في)).
[12] في (ي): ((مع أهله)).
[13] في (م): ((وخمس وعشرون)).