شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من تحدث بعد الركعتين ولم يضطجع

          ░24▒ بابُ: مَنْ تَحَدَّثَ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَلَمْ يَضْطَجِعْ.
          فيه: عَائِشَةُ قَالَتْ(1): (كَانَ النَّبيُّ صلعم إِذَا صَلَّى، فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً حَدَّثَنِي، وَإِلَّا اضْطَجَعَ حَتَّى يُؤْذَّنَ بِالصَّلاةِ). [خ¦1161]
          قال المؤلِّف: هذا الحديث يُبيِّن أنَّ الضِّجعة ليست بسُنَّةٍ، وأنَّها للرَّاحة، فمن شاء فعلها ومن شاء تركها، ألا ترى قول عائشة: (فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً حَدَّثَنِي، وَإِلَّا اضْطَجَعَ)، فدلَّ أنَّ اضطجاعه صلعم إنَّما كان يفعله إذا عدم التَّحدُّث معها ليستريح من تعب القيام، وفي سماع ابن وهبٍ قيل: فمن ركع ركعتي الفجر، أيضطجع على شقِّه الأيمن؟ قال: لا، يريد لا يفعله استنانًا لأنَّ النَّبيَّ صلعم لم يجعله استنانًا، وكان ينتظر المؤذِّن حتَّى يأتيه.
          فإن قيل: فما وجه تركه صلعم الاستغفار حين كان يحدِّثها(2) إذا كانت مستيقظة، وقد مدح الله تعالى المستغفرين بالأسحار؟
          فالجواب: أنَّ السَّحَر يقع على ما قبل الفجر كما يقع على ما بعدَه ومنه قيل للسَّحور سحورًا(3)، لأنَّه طعام في السَّحر قبل الفجر، وقد كان النَّبيُّ صلعم(4) أخذ بأوفر الحظِّ من قيام اللَّيل والاستغفار، وقد جاء في حديث التَّنزُّل: ((أنَّ اللهَ تعالى ينزلُ إلى سماءِ الدُّنيا حينَ يبقى ثُلثُ اللَّيلِ الآخرِ فيقولُ: مَنْ يدعوني فأستجيبُ لهُ، مَنْ يسألُني فأعطيهِ، مَنْ يستغفرُني فأغفرُ لهُ)) فذكر أنَّ الاستغفار المندوب إليه المرجوَّ بركة(5) إجابته هو قبل الفجر، وليس المستغفر ممنوعًا من أن(6) يتكلَّم في حال استغفاره بما به الحاجة إليه من إصلاح شأنه وعلمٍ(7) ينشره، ولا يخرجه ذلك من أن يُسمَّى(8) مستغفرًا.
          واختلف(9) السَّلف في الكلام بعد ركعتي الفجر، فقال نافعٌ: كان ابن عمر ربَّما تكلَّم بعد ركعتي الفجر، وقال إبراهيم: لا بأس أن يُسلِّم ويتكلَّم بالحاجة بعد ركعتي الفجر(10)، وعن(11) ابن سيرين مثله. وكره الكوفيُّون الكلام قبل صلاة الفجر إلَّا بخيرٍ، وكان مالكٌ يتكلَّم في العلم بعد ركعتي الفجر، فإذا سلَّم من الصُّبح لم يتكلَّم مع أحدٍ حتَّى تطلع الشَّمس، قال مالكٌ: لا(12) يُكره الكلام قبل(13) الفجر، وإنَّما يكره بعدها إلى طلوع الشَّمس.
          وممَّن كان لا يرخِّص في الكلام بعد ركعتي الفجر(14)، قال مجاهد: رأى ابن مسعودٍ رجلًا يكلِّم آخر بعد(15) ركعتي الفجر، فقال: إمَّا أن تذكر الله وإمَّا أن تسكت. وعن سعيد بن جبيرٍ مثله. وقال إبراهيم: كانوا يكرهون الكلام بعد ركعتي الفجر، وهو قول عطاءٍ، وسُئل جابر بن زيدٍ: هل يُفرَّق بين صلاة الفجر وبين الرَّكعتين قبلها(16) بكلامٍ؟ قال: لا، إلَّا أن يتكلَّم بحاجةٍ إن شاء. ذكر هذه(17) الآثار ابن أبي شيبة، والقول الأوَّل أولى بشهادة(18) السُّنَّة الثَّابتة له(19)، ولا قول لأحدٍ مع السُّنَّة.
          واختلفوا في التَّنفُّل بعد طلوع الفجر، فكرهت طائفةٌ الصَّلاة بعد الفجر إلَّا ركعتي الفجر، رُوي ذلك عن ابن عمر وابن عبَّاسٍ وابن المسيِّب، ورواية عن(20) عطاءٍ، وحجَّتهم حديث موسى بن عقبة عن نافعٍ عن ابن عمر أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((لا صَلاةَ بعدَ طلوعِ الفجرِ إلَّا ركعتي الفجرِ)) ويُروى أيضًا من مرسلات ابن المسيِّب عن النَّبيِّ صلعم، وأجاز ذلك آخرون، رُوي هذا عن طاوسٍ والحسن البصريِّ، ورواية عن عطاءٍ قالوا: إذا طلع الفجر فَصَلِّ ما شئت، ذكر هذا عبد الرَّزَّاق(21).


[1] في (ص): ((ولم يضطجع وقالت عائشة)).
[2] في (ق): ((يحدث عائشة)).
[3] في (م) و(ق) و(ي) و(ص): ((سحور)).
[4] في (ص): ((وقد كان ◙)).
[5] قوله: ((بركة)) ليس في (ق).
[6] في (م) و(ق): ((بممنوع أن)).
[7] في (م) و(ق): ((أو علم)).
[8] في (ص): ((يكون)) ولعلَّه صححها في الهامش إلى المثبت.
[9] في (م) و (ق): ((وقد اختلف)).
[10] قوله:((وقال إبراهيم: لا بأس أن يُسلِّم ويتكلم بالحاجة بعد ركعتي الفجر)) ليس في (ق) و(ص).
[11] زاد في (م) و(ق) و(ي) و(ص): ((الحسن و)).
[12] قوله: ((لا)) ليس في (ق).
[13] زاد في (م) و(ق): ((صلاة)).
[14] زاد في (ق): ((ابن مسعود)).
[15] في (ص): ((رجلًا يتكلَّم بعد)).
[16] في (م) تحتمل وهي في (ص): ((قبلهما)).
[17] في (ص) صورتها: ((وكرهوه)) بدل قوله: ((ذكر هذه)).
[18] في (م) (ق): ((لشهادة)).
[19] قوله: ((له)) ليس في (م).
[20] قوله: ((عن)) زيادة من (م) و(ق). وهي ليست في (ص).
[21] زاد في (م): ((وروى النسائي من حديث شعبة عن يعلي بن عطاء عن يزيد بن طلق عن عبد الرحمن بن البيلماني عن عمرو بن عبسة أنه قال للنبي ◙: «هل من ساعة أقرب إلى الله من أخرى؟ قال: جوف الليل الآخر فصل ما بدا لك حتى تصلي الصبح ثم انته حتى تطلع الشمس». وترجم له باب إباحة الصلاة بين طلوع الفجر وبين صلاة الصبح)).