شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى

          ░25▒ بابُ: مَا جَاءَ فِي التَّطَوُّعِ مَثْنَى مَثْنَى.
          وَيُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ عَمَّارٍ وأبي ذَرٍّ وَأَنَسٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَعِكْرِمَةَ وَالزُّهْرِيِّ.
          وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأنْصَارِيُّ: مَا أَدْرَكْتُ فُقَهَاءَ أَرْضِنَا إِلَّا(1) يُسَلِّمُونَ في كُلِّ اثْنَتَيْنِ مِنَ النَّهَارِ.
          فيه: جَابِرٌ، قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ(2) صلعم يُعَلِّمُنَا الاسْتِخَارَةَ في الأمُورِ كُلِّهَا(3) كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأمْرَ خَيْرٌ لي في دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ، فَاقْدُرْهُ لي / وَيَسِّرْهُ لي، ثُمَّ بَارِكْ لي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأمْرَ شَرٌّ لي في دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، أَوْ قَالَ: في عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ، فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِي بِهِ، قَالَ: وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ(4)). [خ¦1162]
          وفيه: أَبُو قَتَادَةَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم(5): (إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ). [خ¦1163]
          وفيه: أَنَسٌ: (صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ صلعم(6) رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ). [خ¦1164]
          وفيه ابْنُ عُمَرَ قَالَ: (صَلَّيْتُ مَعَ النَّبيِّ صلعم رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ). [خ¦1165]
          وفيه: جَابِرٌ: قَالَ النَّبيُّ صلعم(7) وَهُوَ يَخْطُبُ: (إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ وَالإمَامُ يَخْطُبُ، أَوْ قَدْ خَرَجَ(8)، فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ). [خ¦1166]
          وفيه: ابْنُ عُمَرَ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم صَلَّى رَكْعَتَيْنِ في وَجْهِ الْكَعْبَةِ). [خ¦1167]
          وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: (أَوْصَانِي النَّبيُّ صلعم بِرَكْعَتَيِ الضُّحَى).
          وَقَالَ عِتْبَانُ: (صَلَّى النَّبيُّ صلعم فِيْ بَيْتِي رَكْعَتَينِ).
          اختلف(9) الفقهاء في التَّطوُّع باللَّيل والنَّهار كيف هو؟ فقالت طائفةٌ: هو مثنى مثنى، هذا قول: ابن أبي ليلى ومالكٍ واللَّيث والشَّافعيِّ وأبي ثورٍ، وهو قول(10): أبي يوسف ومحمَّد في صلاة اللَّيل. وقال أبو حنيفة: أمَّا صلاة اللَّيل فإن شئت صلَّيت ركعتين وإن شئت صلَّيت(11) أربعًا، وإن شئت(12) ستًّا، وإن شئت ثمانيًا، وكره أن يزيد على ذلك شيئًا.
          قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمَّدٌ: وأمَّا(13) صلاة النَّهار فإن شئت صلَّيت بتكبيرةٍ ركعتين، وإن شئت أربعًا، وكرهوا أن يزيد على ذلك شيئًا(14)، وحجَّة أبي حنيفة لقوله في صلاة اللَّيل حديث عائشة أنَّها قالت: ((كانَ النَّبيُّ صلعم(15) يُصلِّي باللَّيلِ أربعًا، فلا تسأَلْ(16) عَنْ حُسنِهِنَّ وطولِهنَّ، ثمَّ أربعًا، ثمَّ ثلاثًا)).
          فقال لهم أهل المقالة الأولى: ليس في حديث عائشة(17) يصلِّي أربعًا، أنَّ الأربع بسلامٍ واحدٍ، وإنَّما أرادت العدد في قولها أربعًا، ثمَّ أربعًا، ثمَّ ثلاثًا، بدليل قوله صلعم: ((صَلاةُ اللَّيلِ مَثنى مَثنى)). وهذا يقتضي ركعتين ركعتين بسلامٍ بينهما على ما قدَّمناه في باب كيف كانت(18) صلاة اللَّيل [خ¦1137].
          وقد ردَّ الطَّحاويُّ على أبي حنيفة، وقال(19): قد روى الزَّهريُّ عن عروة عن عائشة: ((أنَّهُ صلعم كانَ يُسلِّمُ بينَ كلِّ اثنتينِ منهنَّ(20))). وقال: هذا(21) الباب إنَّما يُؤخذ من جهة التَّوقيف والاتِّباع لما فعل رسول الله صلعم وأمر به، وفعله أصحابه من بعده، فلم نجد عنه من فعله ولا من قوله(22) أنَّه أباح أن يصلَّى باللَّيل بتكبيرةٍ(23) أكثر من ركعتين، وهذا أصحُّ القولين عندنا.
          وأمَّا صلاة النَّهار فالحجَّة لأبي حنيفة ما رواه شعبة عن عبيدة(24) عن إبراهيم عن سهم بن مِنْجاب، عن قَزَعَة عن(25) القَرْثَع عن أبي أيُّوب الأنصاريِّ عن النَّبيِّ صلعم، قال: ((أربعُ ركعاتٍ قبلَ الظُّهرِ(26) لا تسليمَ(27) فيهنَّ تُفتحُ لهنَّ(28) أبوابُ السَّماءِ)). وقال إبراهيم: كان عبد الله يصلِّي قبل الجمعة أربعًا، وبعدها أربعًا، لا يفصل بينهنَّ بتسليمٍ(29). وروى عبد(30) الله، عن نافعٍ، عن ابن عمر، أنه كان يصلِّي بالليل ركعتين وبالنهار أربعًا.
          قال ابن القصَّار: فالجواب أنَّ حديث أبي أيُّوب إنَّما يدلُّ على فضل الأربع إذا اتَّصلتْ وفُعلتْ في(31) هذا الوقت، ولا يدلُّ على أنَّ أكثر من الأربع لا يكون أفضل منها إذا كانت منفصلة، لأنَّه ◙ قد يذكر فضل الشَّيء ويكون هناك ما لو قاله أو فعله لكان أفضل، ألا ترى أنَّه قال: ((اتَّقوا النَّارَ ولو بِشقِّ تمرةٍ(32))) أفترى أن ليس رطل تمرٍ أفضل من تمرة، فإنَّما نبَّه بذكره على أربع(33) ركعاتٍ على أنَّ الأكثر(34) يكون أفضل، فلو صلَّى عشرين ركعةً يُسلِّم في كلِّ ركعتين لكان أفضل من أربع متَّصلةٍ، فسقط قولهم.
          قال غيره: وما أثبته البخاريُّ(35) من الروايات المتواترة عن النَّبيِّ صلعم في صلاته ركعتين من طرق(36) في الأوقات المختلفة، منها قوله صلعم: ((إذا دخلَ أحدُكمُ المسجدَ فلْيَركَعْ ركعتينِ)) يدخل(37) في عمومه إذا دخل المسجد قبل الظُّهر، وفي جميع أوقات النَّهار واللَّيل المباحة(38) للتَّنفُّل.
          وكذلك روى(39) ابن عمر ((أنَّ النَّبيَّ صلعم كانَ يُصلِّي قبل الظُّهر ركعتينِ، وبعدَها ركعتينِ وبعدَ المغربِ ركعتينِ، وبعدَ العشاءِ ركعتينِ)) فهذا كلُّه يُفسِّر(40) حديث أبي أيُّوب أنَّ الأربع الَّتي(41) حضَّ عليهنَّ رسول الله صلعم / قبل الظُّهر إنَّما أراد اتِّصالهنَّ ذلك الوقت، لا أَنَّهُ(42) لا سلام بينهنَّ لما صحَّ من صلاته ◙ قبل الظُّهر وغيرها(43) ركعتين، فوجب ردُّ ما خالف هذا المعنى إليه، والله الموفق. وأمَّا حديث جابرٍ: أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((إِذا جاءَ أحدُكُم والإمامُ يخطبُ فلْيُصلِّ ركعتينِ)) فإنَّها قصَّة السُّليك(44).
          قال الأَصيليُّ: وخالف شعبة فيه أصحاب عَمْرو بن دينار سوى(45) ابن جُريجٍ وحمَّاد بن زيدٍ وابن عيينة، فرووه عن عَمْرو عن جابرٍ: أنَّ رجلًا جاء إلى المسجد والنَّبيُّ صلعم يخطب فقال(46): ((أصلَّيتَ))؟ قال: لا، قال: ((فقُمْ(47) فاركَعْ(48) ركعتينِ)) قصَّة السُّليك. وكذلك روى(49) أبو(50) الزُّبير عن جابرٍ، فانفرد شعبة بما لم يتابع عليه، ولم تكن زيادة زادها الحافظ على غيره، بل هي قصَّةٌ منقلبةٌ عن وجهها. وقال يحيى بن معينٍ: ألحق أصحاب عَمْرو بن دينار بحديثٍ(51) سفيان بن عيينة.


[1] في (م) و(ق): ((فقهاءنا إلا)).
[2] في (م) و(ق): ((النبي)).
[3] قوله: ((كلها)) ليس في (م) و(ق).
[4] قوله: ((ثُمَّ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ،... وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ)) ليس في (م) و(ق) وبدله قوله: ((الحديث)).
[5] قوله: ((النَّبيُّ صلعم)) ليس في (ص).
[6] قوله: ((وفيه: أَنَس: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ صلعم)) ليس في (ق).
[7] في (ص): ((قال ◙)).
[8] قوله: ((أو قد خرج)) ليس في (م) و(ق).
[9] في (ص): ((واختلف)).
[10] قوله: ((ابن أبي ليلى ومالك والليث والشافعي وأبي ثور، وهو قول)) ليس في (ق).
[11] قوله: ((صليت)) ليس في (م) و(ص).
[12] زاد في (ص): ((صلَّيت)).
[13] في (م) و(ص): ((أما)).
[14] قوله: ((قال أبو حنيفة وأبو يوسف... شيئًا)) ليس في (ي).
[15] في (ص): ((كان ◙)).
[16] في (ق) و(ص): ((تسل)).
[17] في (ق): ((ليس في قولها)).
[18] قوله: ((كانت)) ليس في (م).
[19] في (ق): ((فقال)).
[20] في (ق): ((منها)).
[21] في (م) و(ق) و(ص): ((قال وهذا)).
[22] في (ص): ((من قوله ولا من فعله)).
[23] صورتها في (ز): ((كبيرة)).
[24] في (ص): ((عبيدٍ)).
[25] زاد في (ز) و(ي) و(ص): ((أبي)) والمثبت من (م) و(ق).
[26] قوله: ((قبل الظهر)) ليس في (ق).
[27] في (م) تحتمل: ((يسلم)).
[28] في (ص): ((فيهن)).
[29] في (ص): ((بسلام)).
[30] في (م) و(ق) و(ي) و(ص): ((عبيد)).
[31] قوله: ((في)) ليس في (م) و(ق).
[32] صورته في (ز): ((ثمرة)) وكذا ما بعدها.
[33] في (ق): ((لأربع)).
[34] في (ق): ((أكثر)).
[35] زاد في (م) و(ق): ((في هذا الباب)).
[36] في (ق): ((ركعتين في تطوعه)).
[37] في (م) و(ق): ((فدخل)).
[38] في (م) و(ق): ((وفي جميع الأوقات المباحة)).
[39] في (ق): ((حديث)).
[40] في (ص): ((تفسير)).
[41] في (ق): ((الذي)).
[42] في (ص): ((لأنَّه)) بدل قوله: ((لا أنَّه)).
[43] في (ص): ((وبعدها)).
[44] في (ق): ((لسليك)).
[45] في (م) و(ق): ((منهم)).
[46] في (م) و(ق) و(ي): ((فقال له)). في (ص): ((قال له)).
[47] في (م) و(ص): ((قم)).
[48] في (م) و(ق): ((واركع)).
[49] في (م) و(ق): ((رواه)).
[50] في (ز) و(ي): ((ابن)) والمثبت من (م) و(ق) و(ص).
[51] في (م) و(ق) و(ص): ((بحديثه)).