شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب التطوع بعد المكتوبة

          ░29▒ باب: التَّطَوُّعِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ.
          فيه: ابْنُ عُمَرَ قَالَ: (صَلَّيْتُ مَعَ النَّبيِّ صلعم(1) سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَسَجْدَتَيْنِ(2) بَعْدَ الظُّهْرِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ(3)، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ، فَأَمَّا الْمَغْرِبُ(4) وَالْعِشَاءُ، فَفِي بَيْتِهِ). [خ¦1172] [خ¦1173]
          وَحَدَّثَتْنِي أُخْتِي حَفْصَةُ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ(5) خَفِيفَتَيْنِ بَعْدَ مَا يَطْلُعُ الْفَجْرُ، وَكَانَتْ سَاعَةً لا أَدْخُلُ(6) على النَّبيِّ صلعم فِيهَا).
          قال المُهَلَّب: قوله: (سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ) الحديثَ(7)، فإنَّه أراد ركعتين فعبَّر عن الرُّكوع بالسُّجود(8)، وهذا يبيِّن(9) ما رُوي(10) في صلاة الكسوف في حديث عبد الله بن عُمَر(11): ((أنَّ النَّبيَّ صلعم صلَّى حين كُسفَتِ الشَّمسُ ركعتينِ في سجدةٍ))، وإنَّما أرادَ ركعتينِ في ركعةٍ على ما روته عائشة في ذلك(12).
          قال المُهَلَّب: وتطوُّعه صلعم بهذه النَّوافل قبل الفرائض وبعدها لأنَّ أفضل الأوقات أوقات صلوات(13) الفريضة، وفيها تُفتح أبواب السَّماء للدُّعاء، ويقبل العمل الصَّالح فلذلك يحييها(14) صلعم بالنَّوافل، وليس في حديث ابن عمر التَّنفُّل قبل العصر. قال الطَّبريُّ: وقد رُوي عن عليٍّ(15) عن النَّبيِّ صلعم(16): ((أنَّهُ كانَ(17) يصلِّي قبلَ العصرِ أربعَ ركعاتٍ يفصلِ بينَها بسلامٍ(18)))، وقد اختلف السَّلف في ذلك فكان بعضهم يصلِّي أربعًا، وبعضهم يصلِّي ركعتين، وبعضهم لا يرى الصَّلاة قبلها.
          فممَّن كان يصلِّي أربعًا: عليُّ بن أبي طالبٍ، وقال إبراهيم: كانوا يحبُّون(19) أربعًا قبل العصر.
          وممَّن كان يصلِّي ركعتين: روى سفيان وجرير عن منصور عن إبراهيم: قال كانوا يركعون الرَّكعتين قبل العصر، ولا يرونها من السُّنَّة.
          وممَّن كان لا يصلِّي قبلها شيئًا، روى قَتادة عن سعيد بن المسيِّب أنَّه كان لا يصلِّي قبل العصر شيئًا. وقَتادة عن الحسن مثل ذلك(20)، وروى فضيل عن منصور عن إبراهيم أنَّه رأى إنسانًا يصلِّي قبل العصر فقال(21): إنَّما العصر أربع.
          قال الطَّبريُّ: والصَّواب عندنا أنَّ الفضل في التَّنفُّل قبل العصر بأربع ركعاتٍ، لصحَّة الخبر بذلك عن عليٍّ عن النَّبيِّ صلعم، حدَّثني(22) به موسى بن عبد الرَّحمن، قال: حدَّثنا عبد الحميد الحِمَّانيُّ عن مِسْعَر عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضَمْرَة عن عليٍّ ☺، قال: ((رأيتُ النَّبيَّ صلعم صلَّى أربعَ ركعاتٍ قبلَ العصرِ)).
          فأمَّا(23) قول ابن عمر: فأمَّا الرَّكعتان بعد المغرب والعشاء ففي بيته، فقد اختُلف في ذلك، فروى قومٌ(24) من السَّلف منهم زيد(25) بن ثابتٍ وعبد الرحَّمن بن عوفٍ أنَّهما كانا يركعان(26) الرَّكعتين بعد المغرب في بيوتهم(27). وقال العبَّاس بن سهل بن سعدٍ: / لقد أدركت زمن عثمان(28) وإنَّه ليسلِّم من المغرب فما أرى رجلًا واحدًا يصلِّيهما(29) في المسجد، كانوا يبتدرون أبواب المسجد فيصلُّونها(30) في بيوتهم.
          وقال ميمون بن مِهْرَان: كانوا يستحبُّون تأخير الرَّكعتين بعد المغرب إلى(31) بيوتهم، وكانوا يؤخِّرونها(32) حتَّى تشتبك النُّجوم. ورُوي عن طائفةٍ أنَّهم كانوا يتنفَّلون النَّوافل كلَّها في بيوتهم دون المسجد(33)، ورُوي(34) عن عبيدة أنَّه كان لا يصلِّي بعد الفريضة شيئًا حتَّى يأتي أهله(35).
          وقال الأعمش: ما رأيت إبراهيم متطوِّعًا حياتَه(36) في مسجدٍ(37) إلَّا مرَّةً صلَّى بعد الظُّهر ركعتين.
          وكانت طائفةٌ لا تتنفَّل إلَّا في المسجد، رُوي عن عبيد(38) الله عن نافعٍ عن ابن عمر: أنَّه كان يصلِّي سبحته(39) مكانه. وكان أبو مِجْلَزٍ يصلِّي بين الظُّهر والعصر في المسجد الأعظم. وروى ابن القاسم، عن مالكٍ قال: التَّنفُّل في المسجد هو شأن النَّاس في النَّهار(40)، وباللَّيل في بيوتهم، وهو قول الثَّوريِّ. وقال الطَّبريُّ والحجَّة(41) لهذا القول ما حدَّثنا به أحمد بن الحسن(42) الترمذيُّ: حدَّثنا محمَّد بن يوسف الفريابيُّ: حدَّثنا(43) إسرائيل عن ميسرة بن حبيبٍ(44) عن المِنْهَال عن زِرٍّ عن حذيفة قال: ((صلَّيتُ معَ النَّبيِّ صلعم(45) العشاءَ الآخرةَ، ثمَّ صلَّى حتَّى لم يبقَ في المسجدِ أحدٌ(46)))، وقال(47): حدَّثنا(48) ابن حميد: حدَّثنا يعقوب عن جعفر عن سعيد(49) بن جبيرٍ، قال: ((كانَ النَّبيُّ صلعم يصلِّي بعدَ المغربِ ركعتينِ، ويصلِّيهما(50) حتَّى يتصدَّعُ أهلُ المسجدِ))، إنَّما(51) كره الصَّلاة في المسجد(52) لئلَّا يرى جاهلٌ عالمًا يصلِّيها فيه(53) فيراها فريضةً، أو كراهة(54) أن يخلي منزله من الصَّلاة فيه، أو حذرًا على نفسه من رياءٍ أو عارضٍ من خطرات الشَّيطان، فإذا(55) سلِم من ذلك فإنَّ الصَّلاة في المسجد حسنةٌ.
          وقد بيَّن بعضهم عِلَّة كراهية من(56) كرهه، من ذلك(57): سفيان عن الأعمش عن أبي الضُّحى، عن مسروق قال: كنَّا نقرأ في المسجد فنقوم فنصلِّي في الصَّف. قال عبد الله: صلُّوا في بيوتكم لا يرونكم النَّاس فيرونها سُنَّةً. والَّذي نقول به(58): إنَّ حديث حذيفة وما رواه سعيد بن جبير، وقوله صلعم(59): ((صلاتُكم في بيوتِكُم إلَّا المكتوبةَ)) فهي صحاحٌ كلُّها لا يدفع شيءٌ منها شيئًا، وذلك نظير ما ثبت(60) أنَّ النَّبيَّ صلعم كان يعمل العمل ليُتأسَّى به فيه، ثمَّ يعمل بخلافه في حالٍ أخرى ليُعلم(61) بذلك من فعله أنَّ أمره بذلك على وجه الندب، وأنَّه غير واجبٍ العمل به(62).


[1] زاد في (ص): ((سجد)).
[2] في (ص): ((وسجد سجدتين)).
[3] قوله: ((وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ)) ليس في(ي).
[4] قوله: ((وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ، فَأَمَّا الْمَغْرِبُ)) ليس في(ق).
[5] في (م) و(ق): ((سجدتين)).
[6] في (ق): ((يُدخل)).
[7] قوله: ((الحديث)) ليس في (م).
[8] في (م) و (ق): ((فعبر بالسجود عن الركوع)).
[9] في (ق): ((بين)).
[10] قوله: ((روي)) ليس في (ص).
[11] في (م) و(ق): ((عمرو)).
[12] في (م) و(ق): ((وإنما أراد ركعتين في ركعة وكذلك روت عائشة في حديثها أن النبي ◙ صلى صلاة الكسوف ركعتين في ركعة)).
[13] في (م) و(ق): ((صلاة)).
[14] في (ق): ((يحينها))، في (ص) غير منقوطة بالكامل.
[15] في (ق) و(ي) و(ص): ((روى علي)).
[16] في (م): ((وقد روى علي عن النبي)).
[17] في (ص): ((قال)).
[18] في (م) و(ق): ((بينهن بتسليم)).
[19] في (ق): ((يحييون)).
[20] في (ق): ((مثله)).
[21] زاد في (م): ((إبراهيم)).
[22] في (م) و(ق): ((حدثنا)).
[23] في (م) و(ق): ((وأما)).
[24] في (م) و(ق): ((فروي عن قوم)).
[25] في (ي): ((زياد)).
[26] في (م) و(ق): ((يصليان)).
[27] في (ص): ((بيوتهما)).
[28] في (م) و(ق): ((أدركت زمان عثمان بن عفان))، وقوله: ((بن عفان)) ليس في (ق)، وفي (ي): ((أدركت أبان بن عثمان))، في (ص): ((لقد أدركت عثمان)).
[29] في (ص): ((يصليها)).
[30] في (م): ((المساجد فيصلونهما)). في (ق): ((يصلونهما)).
[31] في (م) و(ق): ((في)).
[32] في (ق): ((يؤخرونهما)).
[33] قوله: ((دون المسجد)) ليس في (ق).
[34] في (م): ((روي)).
[35] في (ق): ((شيئًا إلا في بيته)).
[36] قوله: ((حياته)) ليس في (ق).
[37] في (م): ((متطوعًا في مسجد حيه إلا مرة)).
[38] في (م) و(ق) و(ي): ((روى عبيد)).
[39] في (م): ((بسبحته)).
[40] في (ق): ((بالنهار)).
[41] زاد في (ز) و(ي): ((به)). والمثبت من (م) و(ق). في (ص): ((وقال الطَّبريُّ به والحجَّة)).
[42] في (م) و(ي) و(ص): ((الحسين)).
[43] زاد في (ق): ((به)).
[44] في (ق): ((خبيب))، في (ص): ((حنيف)).
[45] في (ق): ((مع رسول الله صلعم))، في (ص): ((مع الرسول)).
[46] في (م) و(ص): ((واحدٌ)).
[47] في (ي): ((قال)).
[48] في (م): ((في المسجد أحد، وما حدثنا به)).
[49] في (ز) و(ي) و(ص): ((سفيان)) والمثبت من (م). وقوله: ((وقال: حدثنا ابن حميد، حدَّثنا يعقوب، عن جعفر، عن سفيان)) ليس في (ق).
[50] في (ق): ((ويطيلهما)).
[51] في (م) و(ق): ((قالوا وإنما)). في (ص): ((فإنَّما)).
[52] زاد في (م) و(ق): ((من كرهها)).
[53] قوله: ((فيه)) ليس في (ص).
[54] في (ي) و(ص): ((وكراهة)).
[55] في (م)و(ق): ((فأما إذا)).
[56] في (ق): ((ما)).
[57] زاد في (م) و(ق): ((روى)).
[58] في (ز) و(ي): ((يقول)). والمثبت من (م) و(ق). في (ص) غير منقوطة، وقوله: ((به)) ليس في (ص).
[59] زاد في (م) و(ق): ((أفضل)).
[60] في (م) و(ق): ((بينت)).
[61] في (ص): ((لو علم)).
[62] زاد في (م) و(ق): ((حتى لا يشقهم العمل بغيره)).