شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الدعاء والصلاة من آخر الليل

          ░14▒ بابُ: الدُّعَاءِ في الصَّلاةِ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ.
          وَقَالَ تعالى(1): {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ(2)}[الذاريات:17]يَنَامُونَ(3).
          فيه: أَبُو هُرَيْرَة: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ(4): (يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبارَكَ وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ(5) إِلَى سَمَاءِ(6) الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ / لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ). [خ¦1145]
          قال ابن فُوْرَك: حجَّة(7) أهل البدع هذا الحديث وشبهه وقالوا: لا يمكن حمل شيءٍ منه(8) على تأويلٍ صحيحٍ من غير أن يكون فيه تشبيهٌ أو تحديدٌ أو وصفٌ للربِّ ╡ بما لا يليق به(9)، وقد ورد التَّنزيل بمعنى هذا الحديث وهو قوله ╡: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}[الفجر:22]، و {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ}[البقرة:210]، و{فأَتَى(10) اللهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ}[النحل:26]. ولا فرق بين الإتيان والمجيء والنُّزول إذا أُضيف جميع(11) ذلك إلى الأجسام التي يجوز عليها الحركة(12) والنُّقلة التي هي تفريغ مكانٍ وشغل غيره(13)، فإذا أُضيف ذلك إلى من لا(14) يليق به الانتقال والحركة كان تأويل ذلك على حسب ما يليق بنعته وصفته ╡.
          فمِن ذلك أنَّا وجدنا لفظة النُّزول في اللُّغة مستعملة على معاني(15) مختلفةٍ، فمنها النُّزول بمعنى الانتقال والتَّحويل كقوله ╡: {وَأَنزَلْنَا(16) مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا}[الفرقان:48]، ومنها النُّزول بمعنى الإعلام كقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ}[الشعراء:193]، أي: أعلم به الروحُ الأمين محمَّدًا صلعم. ومنها النُّزول بمعنى القول في قوله تعالى: {سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللهُ}[الأنعام:93]، أي: سأقول مثل(17) ما قال، ومنها النُّزول بمعنى الإقبال على الشَّيء، وذلك هو المستعمل في كلامهم الجاري في عرفهم، وهو أنَّهم يقولون: نزل فلانٌ من مكارم الأخلاق إلى دنيِّها، أي: أقبل إلى دنيِّها، ونزل قدر فلانٍ عند فلانٍ، إذا: انخفض(18). ومنها النُّزول بمعنى نزول الحكم، من ذلك قولهم(19): كنَّا في خيرٍ وعدْلٍ حتَّى نزل بنا بنو فلانٍ، أي: حكمهم.
          وكلُّ(20) ذلك متعارفٌ عند أهل اللُّغة، وإذا كانت هذه اللَّفظة مشتركة المعنى فينبغي حمل ما وصف به الرَّبُّ تعالى من النُّزول على ما يليق به من بعض هذه المعاني(21). إمَّا أن يُراد(22) به إقباله على أهل الأرض بالرَّحمة والتَّنبيه الَّذي يُلقى في قلوب أهل الخير منهم، والزَّواجر التي تزعجهم إلى الإقبال على الطَّاعة، ويحتمل أن يكون ذلك فعلًا يظهر بأمره، فيُضاف إليه كما يُقال(23): ضرب الأمير اللِّصَّ، ونادى الأمير في البلد، وإنَّما أمر بذلك، فيُضاف إليه الفعل على معنى أنَّه عن أمره(24) ظهر، وإذا احتمل ذلك في اللُّغة لم يُنكر أن يكون لله ╡ ملائكةٌ يأمرهم بالنُّزول إلى السَّماء الدُّنيا بهذا النِّداء والدُّعاء، فيُضاف ذلك إلى الله ╡. وقد رُوي هذا التَّأويل في بعض طرق هذا الحديث، روى النَّسائيُّ قال: حدَّثنا إبراهيم بن يعقوب: حدَّثنا عُمَر بن حفص بن غياثٍ: حدَّثنا أبي عن(25) الأعمش: حدَّثنا أبو إسحاق: حدَّثنا أبو مسلمٍ(26) الأغرِّ قال: سمعت أبا هريرة وأبا سعيدٍ الخدريِّ يقولان: قال رسول الله صلعم: ((إنَّ اللهَ يُمهِلُ حتَّى يَمضِي شَطُرُ اللَّيلِ الأوَّلِ ثمَّ يأمرُ مُناديًا يُنادي يقولُ(27): هَلْ مِنْ داعٍ يُستجابُ لهُ، هَلْ مِنْ مُستَغفِرٍ يُغفرُ لهُ، هَلْ مِنْ سائلٍ يُعطى)).
          وقد سُئل الأوزاعي عن معنى هذا الحديث فقال(28): يفعل الله ما يشاء. وهذه إشارةٌ منه إلى أنَّ ذلك فعلٌ يظهر منه ╡. وقد روى حبيبٌ عن مالكٍ أنَّه قال في هذا الحديث: ينزل أمره ورحمته، وقد رواه غير حبيبٍ عنه، روى محمَّد بن عليٍّ البَجَليُّ(29) بالقيروان قال: حدَّثنا جامع بن سوادة بمصر قال: حدَّثنا مُطَرِّفٌ عن مالك بن أنسٍ أنَّه سُئل عن هذا الحديث فقال: ذلك(30) تنزُّل أمره.
          وقد سُئل بعض العلماء عن حديث التَّنزُّل فقال: تفسيره(31) قول إبراهيم ◙ حين أفلَ النَّجم: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ}[الأنعام:76]فطلب ربًّا لا يجوز عليه الانتقال والحركات، ولا يتعاقب عليه النُّزول، وقد مدحه الله تعالى بذلك وأثنى عليه في كتابه(32)، بقوله تعالى(33): {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}[الأنعام:75]، فوصفه أنَّه(34) بقوله هذا موقنٌ(35).
          وفي حديث أبي هريرة أنَّ آخر اللَّيل أفضل للدُّعاء والاستغفار، قال الله تعالى: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الذاريات:18]وروى(36) محارب بن دِثار عن عمِّه أنَّه كان يأتي المسجد في السَّحر فيمرَّ بدار عبد الله(37) بن مسعودٍ فيسمعه(38): اللَّهُمَّ إنَّك(39) أمرتني فأطعت، ودعوتني فأجبت، وهذا سحر(40) فاغفر لي. فسُئل ابن مسعودٍ عن ذلك فقال: إنَّ يعقوب ◙ أخَّر بنيه إلى السَّحَر بقوله: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ}[يوسف:98]. وروى الجُرَيْريُّ(41): ((أنَّ داود النَّبيَّ صلعم(42) سأل جبريل: أيَّ اللَّيل أسمع؟ فقال: لا أدري، غير أنَّ العرش يهتزُّ في السَّحر)).
          وقوله: ((أسمع(43))) يريد أنَّها أوقع للسَّمع، والمعنى: أنَّها أولى بالدُّعاء وأرجى للاستجابة، وهذا كقول ضِماد حين عَرض عليه رسول الله صلعم(44) فقال: سمعت كلامًا لم أسمع(45) قطُّ أسمع منه، يريد أبلغ منه ولا أنجع في القلب. عن الخطَّابيِّ(46).
          وترجم لحديث / التَّنزُّل(47) في كتاب الدُّعاء: باب الدُّعاء نصف اللَّيل، وسأذكر(48) فيه معنى(49) تخصيص الله ╡ ثلث اللَّيل بإجابة الدُّعاء إن شاء الله تعالى. [خ¦6321]


[1] في (م) و(ق): ((الليل، وقوله ╡)). في (ص): ((قال تعالى)).
[2] زاد في (م) و(ق): ((وبالأسحار هم يستغفرون)).
[3] قوله: ((ينامون)) ليس في (م) و(ق).
[4] في (ق): ((قال رسول الله صلعم)). قوله: ((قال)) ليس في (ص).
[5] قوله: ((تبارك وتعالى كل ليلة)) ليس في (ص).
[6] في (م) و(ق) و (ي): ((السماء)).
[7] في (ص): ((عند)).
[8] في (م) و(ق): ((منها)).
[9] زاد في (ق): ((قال)). قوله: ((به)) ليس في (ص).
[10] في النسخ غير (م): ((أتى)) والمثبت من (م).
[11] قوله: ((جميع)) ليس في (ص).
[12] زاد في (م): ((أنه يعقل من ظاهره المعنى الذي هو الحركة))، وزاد في (ي): ((أنه يفعل من ظاهرها المعنى الذي هو الحركة)).
[13] في (م) و(ق): ((مكان)).
[14] في (م): ((فإذا أضيف إلى ما لا))، و في (ق): ((فإذا أضيف إلى ما)).
[15] في (م) و(ص): ((معانٍ)).
[16] قوله: ((وأنزلنا)) ليس في (ق).
[17] في (ق): ((كمثل)).
[18] في (م) و (ق): ((إذا انحط ونقص)).
[19] زاد في (م): ((قد)).
[20] في (ق): ((وكان)).
[21] قوله: ((من بعض هذه المعاني)) ليس في (ص).
[22] في (ي): ((يريد)).
[23] في (ق): ((بأمره كما قال)).
[24] في النسخ غير (م): ((أمر)) والمثبت من (م) و(ص).
[25] في (م): ((حدثنا)).
[26] زاد في (ز) و(ي) و(ص): ((عن)) والمثبت من (م) و(ق).
[27] قوله: ((يقول)) ليس في (ص).
[28] قوله: ((فقال)) ليس في (ص).
[29] في (ق): ((الحلبي)).
[30] في (م) و(ق): ((مالك)). في (ص): ((ملك ينزل)).
[31] في (ق): ((يفسره)).
[32] قوله: ((في كتابه)) ليس في (ق).
[33] في (ص): ((في كتابه فقال)).
[34] في (ز) و(ي) و(ص): ((لأنه)) والمثبت من (م) و(ق).
[35] في (ق): ((موفق)).
[36] في (ص): ((روى)).
[37] قوله: ((عبد الله)) ليس في (ص).
[38] زاد في (ق): ((يقول)).
[39] قوله: ((إنك)) ليس في (ق).
[40] في (ص): ((السحر)).
[41] في (م) صورتها: ((الجزري)).
[42] في (ص): ((أنَّ داود ◙)).
[43] قوله: ((أسمع)) ليس في (ق). وقوله: ((وقوله: أسمع)) ليس في (ص).
[44] زاد في (ق) و(ص): ((الإسلام)).
[45] قوله: ((لم أسمع)) ليس في (ص).
[46] قوله: ((عن الخطابي)) ليس في (م).
[47] في (ق) و (ي) و(ص): ((التنزيل)).
[48] في (ص): ((وتارِكه)).
[49] قوله: ((معنى)) ليس في (م).