شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما يقرأ في ركعتي الفجر

          ░28▒ بابُ: مَا يُقْرَأُ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ.
          فيه: عَائِشَةُ قَالَتْ: (كَانَ النَّبيُّ ◙ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ يُصَلِّي إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ(1) رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ). [خ¦1170]
          وَقَالَتْ عَائِشَةُ: (كَانَ النَّبيُّ صلعم(2) يُخَفِّفُ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ صَلاةِ الصُّبْحِ، حَتَّى(3) إِنِّي لأقُولُ: هَلْ قَرَأَ فِيهُمَا بِأُمِّ الْكِتَابِ). [خ¦1171]
          اختلف العلماء في القراءة في ركعتي(4) الفجر على أربعة مذاهب، فقال الطَّحاويُّ: قال قومٌ: لا يقرأ في ركعتي الفجر. وقال آخرون: يخفِّف القراءة فيهما بأمِّ القرآن خاصَّةً. رُوي(5) هذا عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص(6). وهو قول مالكٍ في رواية ابن وهبٍ و عليِّ بن زيادٍ، قال(7): وهو(8) الَّذي آخذ به في خاصَّة نفسي.
          وقالت طائفةٌ: يخفِّف فيهم(9) القراءة، ولا بأس أن يقرأ مع أمِّ القرآن سورةً قصيرةً، رواه(10) ابن القاسم، عن مالكٍ في «المجموعة»، وهو قول الشَّافعيِّ. ورُوي عن إبراهيم النَّخَعِيِّ ومجاهدٍ: أنَّه(11) لا بأس أن يطيل القراءة فيهما(12)، ذكره ابن أبي شيبة.
          وقال أبو حنيفة: ربَّما قرأت في ركعتي الفجر حزبي من القرآن(13)، وهو قول أصحابه، واحتجَّ لهم الطَّحاويُّ، فقال: لمَّا كانت ركعتا الفجر من أشرف التَّطوُّع لقوله صلعم: ((رَكعتا الفجرِ خيرٌ مِنَ الدُّنيا وما فيها)) كان أولى أن يُفعل فيهما(14) أشرف ما يُفعل في التَّطوُّع من إطالة القراءة فيهما، وهو عندنا أفضل من التَّقصير لأنَّه من طول القنوت الَّذي فضَّله(15) رسول الله صلعم في التَّطوُّع على غيره.
          وأمَّا من قال لا قراءة فيهما، فإنَّه احتجَّ بحديثي هذا الباب، والحجَّة عليه ما رواه شعبة عن محمَّد بن عبد الرَّحمن قال: سمعت عمَّتي عَمْرة تُحدِّث عن عائشة: ((أنَّ رسولَ اللهِ صلعم كانَ إذا طلعَ الفجرُ صلَّى رَكعتينِ))، أقول: يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب؟ / فهذا خلاف أحاديث عائشة(16) الأُخر لأنَّها أثبتت في هذا الحديث قراءة أمِّ القرآن، فذلك حجَّةٌ على من نفى القراءة، وهذا الحديث(17) حجَّةٌ لمن قال يقرأ فيهما بأمِّ القرآن خاصَّةً(18)، وقد يجوز أن يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب وغيرها، ويخفِّف القراءة حتَّى يُقال(19) على التَّعجُّب من تخفيفه: هل قرأ فيهما بفاتحة الكتاب!.
          وحجَّة من قال(20) يقرأ فيهما بأمِّ القرآن وسورة قصيرة، ما رواه أبو نعيم عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن مجاهدٍ عن ابن عمر قال: ((رَمَقتُ النَّبيَّ صلعم أربعًا وعشرينَ مرَّةً يقرأُ في الرَّكعتينِ قبلَ صلاةِ الغداةِ وفي الرَّكعتينِ بعدَ المغربِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}[الكافرون:1]، و{قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1])). وروى أبو وائلٍ عن عبد الله مثله، وقال: ((ما أُحصِي ما سمعْتُ النَّبيَّ صلعم يقرأُ بذلكَ)). وبه كان يأخذ ابن مسعودٍ، وذكره ابن أبي(21) شيبة، وقد رُوي مثله من حديث قَتادة عن أنسٍ، ومن حديث جابرٍ(22) عن النَّبيِّ صلعم في ركعتي الفجر خاصَّةً.
          قال المؤلِّف: وهذه الآثار حجَّةٌ على أبي حنيفة ومن جوَّز تطويل القراءة فيهما، لأنَّه صلعم لم يُحفظ عنه خلافها، ولا قياس لأحدٍ مع وجود السُّنَّة الثابتة، وقد ذُكر لابن سيرين قول النَّخَعِيِّ فقال: ما أدري ما هذا! وكان أصحاب ابن مسعودٍ يأخذون في ذلك بحديث ابن عمر، وبحديث ابن مسعودٍ من تخفيف(23) القراءة.
          قال المُهَلَّب: وتخفيفه لهما _والله أعلم_ لمزاحمة الإقامة، لأنَّه كان لا يصلِّيهما في أكثر أحواله إلَّا حتَّى(24) يأتيه المؤذِّن للإقامة، وكان يُغلِّس بصلاة الصُّبح.


[1] زاد في (ق): ((في الصبح)).
[2] في (ص): ((كان ◙)).
[3] في (ص): ((ثمَّ)).
[4] قوله: ((ركعتي)) زيادة من (م) و(ق). وهي ليست في (ص).
[5] في (ص): ((وروي)).
[6] في (م) و(ق): ((العاصي)).
[7] في (ق): ((وقال)).
[8] في (م) و(ق): ((هو)).
[9] في (م) و(ق) و(ص): ((فيهما)).
[10] في (م) و(ق): ((روى ذلك)).
[11] قوله: ((أنه)) ليس في (ق).
[12] زاد في (م) (ق): ((وعن الحسن لا بأس لمن فاته حزبه من الليل أن يقرأ فيهما)).وفي (ق): ((يقرأ فيهما)).
[13] في (ق): ((الليل)).
[14] في (ي) و(ص): ((فيها)).
[15] في (ق): ((فعله)).
[16] في (ق): ((خلاف حديثها)).
[17] في (ق): ((وهو)).
[18] زاد في (ي): ((قال))
[19] في (م) و(ق): ((يقول)).
[20] قوله: ((قال)) ليس في (ص).
[21] في (م): ((مسعود ذكره أبي)).
[22] زاد في (م) و(ق): ((ابن عبد الله)).
[23] في (م) و(ق): ((ابن مسعود يأخذون بحديث ابن عمر وحديث ابن سعود في ذلك من تخفيف)). في (ص): ((تخفيفه)).
[24] في (ص): ((في أكثر الأحوال حتَّى)) وجاء في الهامش: ((أحواله)).