شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما يكره من التشديد في العبادة

          ░18▒ بابُ: مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّشْدِيدِ فِي الْعِبَادَةِ.
          فيه: أَنَسٌ: (دَخَلَ النَّبيُّ صلعم فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ سَارِيَتَيْنِ فَقَالَ: مَا هَذَا الْحَبْلُ؟ قَالُوا: هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ، فَإِذَا(1) فَتَرَتْ(2) تَعَلَّقَتْ بِهِ(3). فَقَالَ النَّبيُّ صلعم: لا؛ حُلُّوهُ(4)، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ(5) فَلْيَقْعُدْ). [خ¦1150]
          وفيه: عَائِشَةُ قَالَتْ(6): (كَانَتْ عِنْدِي امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلعم قَالَ(7): مَنْ هَذِهِ؟ قُلْتُ(8): فُلانَةُ، لا تَنَامُ بِاللَّيْلِ(9)، تَذْكُر(10) مِنْ صَلاتِهَا، فَقَالَ: مَهْ، عَلَيْكُمْ مَا(11) تُطِيقُونَ مِنَ الأعْمَالِ(12)، فَإِنَّ اللهَ لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا). [خ¦1151]
          إنَّما يكره التَّشديد في العبادة خشية الفتور وخوف الملل(13)، ألا ترى قوله صلعم(14): ((خَيرُ العملِ ما دامَ عليهِ صاحبُهُ وإنْ قَلَّ)) وقد قال تعالى(15): {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}[البقرة:286]وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78]فكره صلعم الإفراط في العبادة لئلَّا ينقطع عنها المرء(16) فيكون(17) كأنَّه رجوعٌ فيما بذله من نفسه لله تعالى وتطوَّع به، وقد تقدَّم معنى قوله: (فَإِنَّ اللهَ لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا) في كتاب العلم(18)، ونذكر هاهنا منه(19) طرفًا، والمعنى أنَّ الله تعالى لا يقطع الثَّواب عنكم حتَّى تقطعوا أنتم العمل به بالملل(20) الَّذي هو من شأنكم، لأنَّ الملل لا يجوز(21) على الله تعالى ولا هو من صفاته، وإنَّما أخبر بالملل عنه ╡ للمساواة بين قسمي الكلام، كما قال تعالى: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللهُ(22)}[آل عِمْرَان:54].
          وقد اختلف السَّلف في التَّعلُّق بالحبل(23) في النَّافلة عند الفتور والكسل، فذكر ابن أبي شيبة عن أبي حازمٍ: أنَّ مولاته كانت في أصحاب الصُفَّة قالت: وكانت لنا حبالٌ نتعلَّق بها إذا فترنا ونعسنا في الصَّلاة، فأتانا أبو بكر فقال: اقطعوا هذه الحبال وأفضُوا إلى الأرض. وقال(24) حذيفة في التَّعلُّق في الصَّلاة: إنَّما يفعل ذلك اليهود، ورخَّص في ذلك آخرون(25)، قال عِرَاك بن مالكٍ: أدركت النَّاس في رمضان تُربط لهم الحبال يستمسكون بها من طول القيام.
          وفي باب استعانة اليد في الصَّلاة بعد هذا من كره الاعتماد على الشَّيء في الصَّلاة ومن أجازه. [خ¦1198]


[1] في (م): ((إذا)).
[2] في (ي) و(ص): ((قصرت)).
[3] قوله: ((به)) ليس في (م) و(ق).
[4] في (م) و(ق): ((فقال النبي صلعم: حلوه)).
[5] في (ص): ((قصر)).
[6] قوله: ((قالت)) ليس في (م) و(ق).
[7] في (م) و(ص): ((فقال)).
[8] في (م): ((فقلت)).
[9] في (م) و(ق): ((الليل)).
[10] صورتها في (ق): ((فذكر)).
[11] في (ي): ((بما)).
[12] في (ق): ((عليكم من الأعمال ما تطيقون)).
[13] في (ي): ((الملال)).
[14] في (م) و(ق): ((وخوف الملال ولذلك قال ◙)).
[15] في (ق): ((وقد قال الله تعالى))، و في (ي): ((قال تعالى))..
[16] في (ق): ((المرء عنها)).
[17] قوله: ((فيكون)) ليس في متن (ص) وضع إشارة لحق لكن الهامش غير واضح.
[18] بل في كتاب الإيمان [خ¦43]
[19] في (م): ((وتطوع به، وقوله: فإن الله لا يمل حتى تملوا قد تقدم معناه في كتاب الإيمان في باب أحب الدين إلى الله تعالى أدومه، ونذكر هنا منه)). في (ق): ((وتطوع به، وقوله: فإن الله لا يمل حتى تملوا قد تقدم معناه في العلم ونذكر هنا منه)). في (ص): ((ونذكر منه هاهنا)).
[20] في (ص): ((فالملل)).
[21] في (م) و(ق): ((لا أن الملل يجوز)).
[22] زاد في (م): ((والله خير الماكرين، والمكر ليس من صفاته ولا شيء من الآفات تعالى الله عن ذلك)).
[23] في (م) و(ق): ((بالحبال)).
[24] في (ص): ((قال)).
[25] قوله: ((ورخَّص في ذلك آخرون)) ليس في (م).