شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب كيف كان صلاة النبي؟

          ░10▒ بابُ: كَيْفَ صَلاةُ الليْلِ وَكَمْ كَانَ الرسُولُ(1) صلعم يصلِّي مِنَ اللَّيْلِ.
          فيه ابْنُ عُمَرَ: إنَّ رَجُلًا قَالَ: (يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ صَلاةُ اللَّيْلِ؟ قَالَ: مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خِفْتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ). [خ¦1137]
          وفيه ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: (كَانَتْ صَلاةُ النَّبيِّ صلعم ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يَعْنِي(2) بِاللَّيْلِ). [خ¦1138]
          وفيه عَائِشَةُ: (أنَّ صَلاةِ النَّبيِّ صلعم بِاللَّيْلِ(3) سَبْعٌ وَتِسْعٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ(4) سِوَى رَكْعَتِي الْفَجْرِ). [خ¦1139]
          وقالت أيضًا: (كَانَ النَّبيُّ صلعم يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنْهَا الْوِتْرُ وَرَكْعَتَا(5) الْفَجْرِ). [خ¦1140]
          وذهب(6) أكثر العلماء إلى أنَّ صلاته باللَّيل مثنى مثنى على حديث ابن عمر.
          وقالوا: قوله: (مَثْنى مَثْنى) يفيد التَّسليم في كلِّ ركعتين ليفصل بينها(7) وبين صلاة(8) أربعٍ وإلَّا فلا يفيد هذا الكلام؛ لأنَّه على(9) التَّقدير تكون صلاة الظُّهر والعصر والعشاء مثنى مثنى، فلمَّا لم يقل لواحدةٍ(10) منها مثنى مثنى(11) على(12) أنَّ المثنى يقتضى الفصل بالسَّلام، وسأذكر اختلاف العلماء في ذلك وفي(13) صلاة النَّهار، وهل(14) هي(15) مثنى مثنى في بابه بعد هذا، إن شاء الله تعالى. [خ¦1172]
          وأمَّا عدد صلاته صلعم باللَّيل، فإنَّ الآثار اختلفت في ذلك عن ابن عبَّاسٍ وعائشة، فروى أبو جمرة(16) عن ابن عبَّاسٍ: (أنَّ النَّبيَّ(17)◙ كَانَ يُصلِّي ثلاثَ عَشْرَةَ رَكعَةً). ورواه مالكٌ عن مَخْرَمة بن سليمان(18) عن كريب عن ابن عبَّاسٍ أنَّه بات عند خالته ميمونة(19) فذكر: ((أنَّهُ صلَّى معَ النَّبيِّ صلعم إحْدَى عَشْرةَ(20) بالوِتْرِ)).
          فهذا خلاف ما روى مالكٌ عن مَخْرَمة، عن كريب، ذكره النَّسائيُّ، وروى شريك ابن أبي نَمِرٍ عن كريب عن ابن عبَّاسٍ ((أنَّهُ صلعم صَلَّى إحْدَى عَشْرَةَ ركعَةً)). وعن سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبَّاسٍ مثله.
          وذكر الطَّحاويُّ عن عليِّ بن مَعْبَد قال: حدَّثنا شَبَابة بن سَوَّار، قال(21): حدَّثنا يونس بن أبي(22) إسحاق، عن المِنْهَال بن عَمرو(23) عن عليِّ بن عبد الله بن عبَّاسٍ عن أبيه قال: أمرني العبَّاس أن أبيت عند النَّبيِّ صلعم وقدم(24) إليَّ ألَّا تنام(25) حتَّى تحفظ لي صلاته ◙، قال: ((فصلَّيت معَهُ إحدَى عشرَةَ ركعةً بالوِترِ)).
          وأمَّا اختلاف الآثار عن عائشة أيضًا فروى مسروق والقاسم بن محمَّدٍ وأبو سلمة عن عائشة: ((أنَّ النَّبيَّ صلعم صلَّى إحدَى عشرَةَ ركعَةً سِوَى رَكعَتَي الفَجرِ)). /
          ورُوي عنها خلاف ذلك من حديث مالكٍ عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: ((كَانَ رسولُ اللهِ صلعم يُصلِّي مِنَ اللَّيلِ ثَلاثَ عشرَةَ ركعَةً، ثمَّ يُصلِّي إذا سمِعَ النِّداءَ بالصُّبحِ ركعَتَينِ خَفيفَتَينِ)).
          وكذلك رُوي عن زيد(26) بن خالدٍ الجُهَنِيِّ حين رمق صلاة النَّبيِّ باللَّيل(27) ثلاث عشرة ركعة بالوترِ.
          وقد أكثر النَّاس القول في هذه الأحاديث، فقال بعضهم: إنَّ هذا الاختلاف جاء من قبل عائشة وابن عبَّاسٍ، لأنَّ رواة هذه الأحاديث الثِّقات الحفَّاظ، وكلُّ ذلك قد عمل به رسول الله صلعم ليدلَّ(28) على التَّوسعة في ذلك، وأنَّ صلاة اللَّيل لا حدَّ فيها لا يجوز تجاوزه إلى غيره(29) وكلٌّ سُنَّةٌ.
          وقال آخرون: بل جاء الاختلاف فيها من قبل الرُّواة، وأنَّ الصَّحيح منها إحدى عشرة ركعةً(30) بالوتر. قالوا: وقد كشفت عائشة ♦ هذا المعنى ورفعت الإشكال فيه لقولها(31): ((مَا كانَ رسولُ اللهِ يزيدُ في رمضانَ ولا في(32) غيرِهِ على إحدَى عشرَةَ ركعَةً))، وهي أعلم النَّاس بأفعاله صلعم لشدَّة مراعاتها له(33)، وهي أضبط لها من ابن عبَّاسٍ؛ لأنَّه إنَّما رقب(34) صلاته مرَّةً(35) حين بعثه(36) العبَّاس ليحفظ(37) صلاته باللَّيل، وعائشة ♦ رقبت ذلك دهرها كلَّه. فما رُوي عنها ممَّا خالف إحدى عشرة ركعةً فهو وهمٌ، ويحتمل الغلط في ذلك أن يقع من أجل أنَّهم عدُّوا ركعتي الفجر مع الإحدى عشرة ركعةً، فتمَّت بذلك ثلاث عشرة ركعةً.
          وقد جاء هذا المعنى بيِّنًا في بعض طرق الحديث، روى(38) عبد الرَّزَّاق عن الثَّوريِّ عن سلمة بن كهيل عن كريب عن ابن عبَّاسٍ قال: ((بِتُّ عندَ خالَتي مَيْمُونَةَ، فقامَ الرَّسولُ(39) يُصلِّي، فَتمَطَّيتُ كَراهيَةَ أنْ يراني(40) أراقبُهُ، ثمَّ قمتُ ففعلْتُ مِثلَ ما فعلَ فصلَّى فتتامَّتْ صلاتُهُ(41) ثلاثَ عشرَةَ ركعَةً مِنها رَكعَتا(42) الفَجرِ(43)، ثمَّ نَامَ حتَّى نفخَ، فَجاءَ(44) بلالٌ فآذنَهُ بالصَّلاةِ، فقامَ فَصلَّى ولم يَتوضَّأْ)).
          وروى ابن وهبٍ عن ابن أبي ذئبٍ ويونس وعمرو بن الحارث عن ابن شهاب أخبرهم عن عروة عن عائشة قالت: ((كانَ رسولُ اللهِ صلعم يُصلِّي فيما بينَ أنْ يَفرغَ مِنْ صَلاةِ العِشاءِ إلى الفَجرِ إحدى عشرَةَ ركعَةً، يسلِّمُ بينَ كلِّ ركعتَينِ، ويوتِرُ بواحدَةٍ، ويسجُدُ سجدَةً قَدْرَ ما يقرَأُ أحدُكُم خمسينَ آيةً، فإذا سكَتَ المؤذِّنُ مِنْ أذانِ الفجرِ(45) وتبيَّنَ لهُ الفجرُ ركعَ ركعتينِ خفيفتينِ، ثمَّ اضطجعَ على شقِّهِ الأيمنَ حتَّى يأتيَهُ المؤذِّنُ للإقامةِ)).(46) فكلُّ ما خالف هذا عن ابن عبَّاسٍ وعائشة فهو وهمٌ.
          وقالوا(47): وممَّا يدلُّ على صحَّة هذا التَّأويل قول ابن مسعودٍ للرَّجل الَّذي قال: قرأت المفصَّل في ركعةٍ فقال: هذًّا كَهَذِّ الشِّعْر، لقد عرفت النَّظائر التي كان رسول الله صلعم يقرن بينهنَّ(48)، فذكر عشرين سورةً من المفصَّل، سورتين في كلِّ(49) ركعةٍ. فدلَّ هذا أنَّ حزبه(50) باللَّيل(51) عشر ركعاتٍ، ثمَّ يوتر بواحدةٍ، قاله(52) المُهَلَّب، وأخوه عبد الله.
          وقال آخرون: الَّذي تأتلف عليه أحاديث(53) النَّبيِّ صلعم في الصَّلاة(54) باللَّيل وينفى(55) التَّعارض عنها(56) _والله أعلم_ أنَّه قد روى أبو هريرة وعائشة عن النَّبيِّ صلعم ((أنَّهُ كانَ إذا قامَ مِنَ اللَّيلِ يُصلِّي افتتحَ صلاتَهُ بركعتينِ خفيفتينِ)). فمن جعل صلاته باللَّيل عشر ركعاتٍ والوتر واحدةً لم يعتدَّ بهاتين(57) الرَّكعتين في صلاته، ومن عدَّهما جعلها ثلاث عشرة ركعةً سوى ركعتي الفجر. فأمَّا حديث أبي هريرة فرواه ابن عيينة عن أيُّوب عن محمَّد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلعم: ((إذا قامَ أحدُكُم مِنَ اللَّيلِ يُصلِّي فليُصلِّ ركعتينِ خفيفتينِ يفتتحُ بهما(58) صلاتَهُ)). وحديث عائشة رواه ابن أبي شيبة عن هشيمٍ قال: حدَّثنا أبو حرَّة عن الحسن عن سعد بن هشامٍ عن عائشة عن النَّبيِّ صلعم مثله.
          وأمَّا قول عائشة: (إنَّ صَلاةَ النَّبِيٍّ ◙ بِالليلِ(59) سَبْعٌ وَتِسْعٌ) فقد روى الأسود عنها أنَّها قالت: ((كانَ رسولُ اللهِ صلعم يُصلِّي مِنَ اللَّيلِ تسعَ ركعاتٍ، فلمَّا أسنَّ صلَّى سبعَ ركعاتٍ)). ورُوي عنها ((أنَّهُ كانَ يصلِّي بعدَ(60) السَّبعِ ركعتينِ وهوَ جالسٌ، وبعدَ التِّسعِ كذلكَ)). رواه معمر عن قَتادة عن الحسن قال: أخبرني سعد بن هشام أنَّه سمع عائشة تقول: ((كانَ رسولُ اللهِ صلعم يوتِرُ بتسعِ ركعاتٍ وركعتينِ وهوَ(61) جالسٌ(62)، فلمَّا ضعُفَ أوترَ بسبعٍ وركعتينِ وهوَ جالسٌ)).
          قال المُهَلَّب: وإنَّما كان يوتر بتسع ركعاتٍ _والله أعلم_ حين يفاجئه الفجر، وأمَّا إذا اتَّسَع له اللَّيل فما كان ينقص من عشر ركعاتٍ للمطابقة التي بينها وبين الفرائض التي امتثلها ◙ في نوافله وامتثلها في الصَّلوات المسنونة(63). /


[1] في (ي) و(م) و(ق): ((النبي)).
[2] قوله: ((يعني)) ليس في (ق).
[3] قوله: ((بالليل)) ليس في (ص).
[4] زاد في (م) و(ق): ((ركعة)).
[5] في (ق): ((وركعتي)).
[6] في (م) و(ق): ((ذهب)).
[7] في (ق) و(م): ((بينهما)).
[8] زاد في (م) و(ق): ((من)).
[9] زاد في (م) و(ق): ((هذا)).
[10] في النسخ غير (م): ((الواحدة)) والمثبت من (م) و(ص).
[11] قوله: ((فلما لم يقل الواحدة منها مثنى مثنى)) ليس في (ق)، زاد في (م) و(ق): ((لما كان الأخريان مضمنتين بالأولتين)).
[12] في (م) و(ق) و(ي) و(ص): ((علم)).
[13] في (م) و(ق): ((في)).
[14] في (م) و(ق): ((هل)).
[15] زاد في (ق): ((أيضًا)).
[16] في (ق): ((حمزة))، في (ص) غير منقوطة.
[17] في (ق): ((أنه)).
[18] في (م): ((سليم)).
[19] زاد في (م): ((زوج النبي ◙ وصلى خلفه ثلاث عشرة ركعة بالوتر ثم صلى ركعتين خفيفتين ثم صلى الصبح وروي عنه خلاف ذلك، روى الليث عن خالد بن نزار عن ابن أبي هلال عن مخرمة بن سليمان عن كريب عن ابن عباس أنه بات عند خالته ميمونة)).
[20] زاد في (م) و(ق) و(ي) و(ص): ((ركعة)).
[21] قوله: ((قال)) ليس في (ص).
[22] قوله: ((أبي)) ليس في (ق).
[23] في (ز) و(ي) و(ص): ((عمر)) والمثبت من (م) و(ق).
[24] في (م) و(ق): ((وتقدم)).
[25] في (ص): ((أنام)).
[26] في (م) و(ق): ((روى زيد)).
[27] في (ص): ((الليل)).
[28] زاد في (م) و(ق): ((أمته)).
[29] في (ق): ((غيرها)).
[30] قوله: ((ركعة)) ليس في (ي) و(ص).
[31] في (م) و(ق): ((بقولها)).
[32] قوله: ((في)) ليس في (م) و(ق).
[33] في (م) و(ق): ((لها)).
[34] في (ص): ((رمق)).
[35] زاد في (ق): ((واحدة)).
[36] زاد في (ق): ((أبوه)).
[37] زاد في (ق): ((له)).
[38] في (ز): ((روي عن)) والمثبت من باقي النسخ.
[39] في (ق) و(ي): ((النبي صلعم)).
[40] في (ق): ((يرى أني)).
[41] زاد في(م) و(ق): ((إلى)). في (ص): ((فتأملت صلاته)).
[42] في (ق) و(ي): ((ركعتي)).
[43] في (م) و(ق): ((الصبح)).
[44] في (م) و(ق): ((ثم جاء)) وفي (ي) و(ص): ((فجاءه)).
[45] في (ق): ((من صلاة الصبح)).
[46] زاد في (ق): ((قالوا)).
[47] في (م) و(ق): ((قالوا)).
[48] في (ز) و(ي) و(ص): ((بينهما)) والمثبت من (م) و(ق).
[49] قوله: ((كل)) ليس في (م) و(ق) و(ي) و(ص).
[50] في (م): ((حزبهم)).
[51] زاد في (م) و(ق): ((كان)).
[52] في (م): ((قال)).
[53] زاد في (م) و(ق): ((صلاة)).
[54] قوله: ((في الصَّلاة)) ليس في (ص).
[55] في (ق): ((وينتفى)).
[56] في (ق): ((بينها)).
[57] في (ق): ((بها بين)).
[58] في (ق) و(ص): ((بها)).
[59] قوله: ((بالليل)) ليس في (ق).
[60] قوله: ((بعد)) ليس في (ي).
[61] قوله: ((وهو)) ليس في (ق).
[62] قوله: ((وبعدَ التِّسعِ كذلكَ. رواه معمر...وركعتينِ وهوَ جالسٌ)) ليس في (ص).
[63] في (ي): ((المسنونات))، وزاد في (م) و(ق): ((أيضًا)).