الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: إذا وقف أرضًا أو بئرًا واشترط لنفسه مثل دلاء المسلمين

          ░33▒ (باب إِذَا وَقَفَ) بلا ألفٍ على اللُّغة الفصْحَى، وفي بعضِ النُّسَخ: <أوقف> بألفٍ على لغة رديئة (أَرْضاً أَوْ بِئْراً) أي: مثلاً ليشمل نحو البستان أو الدَّار (واشْتَرَطَ) أي: الواقف، ولأبي ذرٍّ: <أو اشترط> بـ((أو)) وهي بمعنى: الواو، وقال الكرمانيُّ: كلمة ((أو)) للإشعار بأنَّ كلَّ واحد منهما يصلح للتَّرجمة، وإن كان بالواو فمعناه: إذا وقفَ بئراً واشترط (لِنَفْسِهِ مِثْلَ دِلاَءِ الْمُسْلِمِينَ) بكسر الدَّال المهملة والمدِّ، جمع دَلوٍ _بفتحها_.
          قال في ((المصباح)): تأنيثها أكثرُ، فيقال: هي الدَّلو، وفي التَّذكير تُصغَّر على دُلَيٍّ مثل فَلْس وفُلَيس، وثلاثة أَدْلٍ، وفي التَّأنيث دُلَيَّة بالهاء، وثلاث أَدْلٍ، وجمع الكثرة الدِّلَاء والدُّلِيُّ، والأصل فُعُول مثل فُلُوس، وأدليتها إدلاءً: أرسلتَها لتستقِي بها، ودَلوتُها أَدلُوها لغةٌ فيه، ودلوتها ودلوت بها: أخرجتُها مملوءةً، وجواب ((إذا)) محذوفٌ يُقدَّر بنحو: يجوز، أو يُقدَّر: هل يجوز / أم لا؟الغرضُ من هذه التَّرجمة كما في ((الفتح)) و((العمدة)) الإشارةُ إلى جواز شرط الواقفِ لنفسهِ منفعةً من وقفه، وقيَّد بعضُ العلماءِ الجوازَ بما إذا كانت المنفعةُ عامَّةً، وعبارة شيخِ الإسلام: ومحلُّ الجواز إذا كانت المنفعةُ عامَّةً كصلاته في بقعةٍ جعلها مسجداً، وشربه من بئرٍ، وطبخه في قِدْرٍ وقفها على المسلمين، انتهت.
          وقال ابن بطَّالٍ: لا خلافَ بين العلماء أنَّ مَن شرطَ لنفسه ولورثته نصيباً في وقفه أنَّ ذلك جائزٌ، وقد سبقَ مثل هذا المعنى في باب هل ينتفعُ الواقفُ بوقفهِ؟
          (وَأَوْقَفَ) بألفٍ لأكثر الرُّواة على لغةٍ نادرةٍ، ولأبي ذرٍّ: <ووقف> على اللُّغة الفصحى (أَنَسٌ) أي: ابن مالكٍ، خادمُ رسولِ الله صلعم (دَاراً) أي: بالمدينة (فَكَانَ إِذَا قَدِمَ) بكسر الدَّال المهملة؛ أي: من البصرة إلى المدينةِ لإرادة الحجِّ أو الزِّيارة (نَزَلَهَا) أي: الدَّار، قال في ((الفتح)): وصله البيهقيُّ من طريق الأنصاريِّ: حدَّثني أبي عن ثُمامة عن أنسٍ: أنَّه وقف داراً له بالمدينةِ، فكان إذا حجَّ مرَّ بالمدينة فنزلَ داره، قال: وهو موافقٌ لِما تقدَّم عن المالكيَّة أنَّه يجوز أن يقفَ الدَّار ويستثني لنفسهِ منها ما يشاء.
          (وَتَصَدَّقَ) بتشديد الدَّال المفتوحة (الزُّبَيْرُ) بضمِّ الزَّاي؛ أي: ابن العوَّام، وابن صفيَّة عمَّة رسول الله (بِدُورِهِ) جمع دارٍ، قال في ((المصباح)): الدَّار معروفةٌ، وهي مؤنَّثة، والجمع أَدْوُر مثل أَفْلُس، وتُهمَز الواو ولا تُهمَز وتقلب فيُقال: آدُر، وتُجمَع أيضاً على ديارٍ ودورٍ، والأصلُ إطلاق الدُّور على المواضعِ، وقد تُطلَق على القبائل مجازاً.
          (وَقَالَ) أي: الزُّبير (لِلْمَرْدُودَةِ) بدالَين مهملتَين بينهما واو ساكنةٌ؛ أي: المطلقة؛ لأنَّها تُرَدُّ من بيت زوجها إلى بيتِ أبيها (مِنْ بَنَاتِهِ) جمع بنتٍ، والجارُّ والمجرور متعلِّقٌ بـ((المردودة)) أو صفة أو حال (أَنْ تَسْكُنَ) بضمِّ الكاف، و((أن)) بفتح الهمزة مصدريَّةٌ، تُسبَك مع صلتها بمصدر مبتدأ مؤخَّر، و((للمردودة)) خبرٌ مُقدَّمٌ، وقول القسطلانيِّ تبعاً للعيني: أي: لأن تسكن، انتهى، غيرُ ظاهرٍ، وكأنَّه جعله علَّةً لـ((تصدَّق))، وفيه شيءٌ، ثمَّ رأيت شيخَ الإسلام قال: أن تسكن؛ بفتح ((أن))، وهي مع مدخولها مبتدأٌ خبره ((للمردودة من بناته))، قال: وعلى هذا فقوله: ((من بناته)) بضمير الغيبة تفسيرٌ من البخاريِّ أو من قول الزُّبير على الالتفات من التَّكلُّم إلى الغيبةِ، قال: وفي نسخَةٍ: <من نسائهِ> بدل: ((من بناتهِ))، قال البرماويُّ: وهي أصوبُ، انتهى.
          وردَّ التَّصويبَ في ((الفتح)) فقال: ووقَعَ في بعضِ النُّسخِ: <من نسائهِ>، وصوَّبها بعضُ المتأخِّرين فوهم، فإنَّ الواقِعَ بخلافها، انتهى، وانتصرَ العينيُّ لبعضِ المتأخِّرين فقال: من أين علِمَ أنَّ الواقِعَ خلافَهَا؟ فلِمَ لا يجوزُ أن يكون الواقع خلافَ البناتِ؟ انتهى فتدبَّر.
          وأقولُ: لعلَّ وجه التَّصويبِ أنَّها أعمُّ؛ لشمُولها للبناتِ والزَّوجاتِ والأخواتِ مثلاً، لكن لا يُوافق الواقعَ، فإنَّ الأثرَ يدلُّ للبناتِ، ولذا قال في ((الانتفاض)) ردًّا على العينيِّ: قلتُ: لو استحضر أوَّل الأثر علم صحَّة ما قاله في ((الفتح)).
          (غَيْرَ مُضِرَّةٍ) بنصب ((غير)) حالاً من ((المردودة))، و((مضرَّة)) بالضَّاد المعجمة اسم فاعل للمؤنَّثة من أضرَّ المزيد؛ أي: غير مضرَّةٍ لغيرها ممَّن سكنَ بدوره أو جيرانها (وَلاَ مُضَرٍّ بِهَا) بفتح الضَّاد المعجمة، اسم مفعول للمذكَّر؛ أي: ولا يضرُّها غيرها (فَإِنِ اسْتَغْنَتْ) بالغين المعجمة؛ أي: المردودة؛ أي: اكتفت (بِزَوْجٍ فَلَيْسَ لَهَا حَقٌّ) أي: في السُّكنى، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ لها حقًّا إذا لم يكن الزَّوج يُغنيها، ولعلَّه كذلك، لكن يبقى النَّظر فيه هل يسكن تبعاً لها أو تخرج إليه إذا طلبها؟ فليُنظر، وهذا التَّعليق وصله الدَّارميُّ في ((مسنده)) من طريق هشام / بن عروةَ عن أبيهِ: ((أنَّ الزُّبير جعلَ دوره صدقةً على بنيهِ، لا تُباع ولا تُورث، وأنَّ للمردودةِ من بناتهِ أن تسكن)) فذكر نحوه (وَجَعَلَ ابْنُ عُمَرَ) أي: ابن الخطَّاب (نَصِيبَهُ مِنْ دَارِ عُمَرَ) أي: من دارِ والده الَّتي تصدَّق بها فوقفَهَا، وقال: لا تُباع ولا تُوهبُ (سُكْنَى) بضمِّ السِّين وألف آخره مقصورة، مفعولٌ ثانٍ لـ((جعل)) (لِذَوِي الْحَاجَةِ) بجمع ((ذوي)) وإفراد ((الحاجة)) للأكثرِ، وبجمع ((الحاجة)) كـ((ذوي)) لأبي ذرٍّ عن الحموي والمستملي (مِنْ آلِ عَبْدِ اللَّهِ) أي: من ذُرِّيَّته كباراً أو صغاراً.
          وهذا التَّعليقُ، كما في ((الفتح)) وصله ابنُ سعدٍ بمعناه، وفيه: ((أنَّه تصدَّقَ بدارهِ محبُوسةً لا تُباع ولا تُوهب)).
          (وَقَالَ عَبْدَانُ) بفتح العين المهملة وسكون الموحَّدة، لقبُ عبدِ الله بن عثمان بن جبلةَ، قال في ((الفتح)): كذا للجميعِ، قال أبو نُعيم: ذكرهُ عن عبدانَ بلا روايةٍ، وقد وصلَه الدَّارقطنيُّ والإسماعيليُّ وغيرهما من طريق القاسم بن محمَّد المروزيِّ عن عبدان بتمامهِ، قال الدَّارقطنيُّ: تفرَّد بهذا الحديث عثمان والد عبدان عن شُعبة، قلتُ: وتفرُّدُ عثمان لا يضرُّ، فإنَّه ثقةٌ، انتهى.