الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول الله تعالى: {من بعد وصية يوصى بها أو دين}

          ░8▒ (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) ولأبي ذرٍّ: <╡> ({مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:11]) قال شيخُ الإسلام: أرادَ بيان حُكم الدَّين في إقرار المريضِ به، أمَّا حُكم الوصيَّة وإن كانت مذكورةً فقد سبقَ، انتهى.
          وقال في ((الفتح)): أراد المصنِّف _والله أعلم_ بهذه التَّرجمة الاحتجاج لِما اختارَهُ من جوازِ إقرارِ المريضِ بالدَّين مطلقاً، سواء كان المقَرُّ له وارثاً أو أجنبيًّا، قال: ووجهُ الدِّلالة أنَّه تعالى سوَّى بين الوصيَّة والدَّين في تقديمهما على الميراث ولم يفصِّل، فخرجَتْ الوصيَّةُ للوارثِ بالدَّليل الذي تقدَّم / وبقيَ الإقرارُ بالدين على حالهِ، انتهى.
          واعترضَه العينيُّ فقال: كما خرجت الوصيَّة للوارثِ بالدَّليلِ من قولهِ صلعم: ((لا وصيَّة لوارثٍ)) فكذلك خرجَ الإقرارُ بالدَّين للوارثِ بقوله: ((ولا إقرار له بدينٍ))، انتهى.
          وأقولُ: لعلَّ المصنِّف لم يثبتْ عندَه ولا على غيرِ شرط ((الصَّحيح)) ((ولا إقرار له بدينٍ)) فتدبَّر.
          وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ}...إلخ مرتبطٌ بكلِّ ما تقدَّم من آياتِ المواريثِ لا بما يليهِ وحده، كأنَّه قيل: قسمة هذه الأشياء تقعُ من بعد وصيَّةٍ أو دينٍ؛ أي: من بعدِ أدائهما ودفعهما لمن هما له، والوصيَّة هنا المال الموصَى به، و{يُوصِي بِهَا} صفة مقيِّدةٌ لـ{وَصِيَّةٍ} وفائدتها العلمُ بأن للميِّت أن يوصِي، وأفادَ تنكيرها أنَّها مندوبةٌ؛ إذ لو كانت واجبةً لعرفها كما نبَّه على ذلك السهيليُّ، ومرَّ توجيهه.
          وقال البيضاويُّ: متعلِّق بما تقدمه من قسمةِ المواريثِ كلِّها؛ أي: هذه الأنصباء للورثةِ من بعد ما كان من وصية أو دينٍ، وإنما قال بـ{أَو} التي للإباحةِ دون الواو؛ للدلالة على أنَّهما متساويان في الوجوبِ متقدِّمان على القسمةِ، مجموعَين ومفردَين، وقدَّم الوصيَّة على الدَّين وهي متأخِّرةٌ في الحكمِ؛ لأنَّها مشبَّهة بالميراثِ، شاقَّةٌ على الورثةِ، مندوب إليها الجميع، والدَّين إنَّما يكونُ على النُّدرة، وقرأ ابنُ كثير وابن عامرٍ وأبو بكر بفتح الصَّاد، انتهى وليُتأمَّل.
          قوله: والدَّين إنما يكون على النُّدرة فقد يُقال: الأمرُ بالعكسِ، وأجاب ابنُ الحاجبِ في ((أماليه)) عن تقدُّم الوصيَّة: وإنْ كان الدَّين أقوى منها فحقُّه التَّقديم بأنَّ حكم {أَو} حكمُ الاستثناء في أنَّ ما بعدها يرفع حكمَ ما قبلها بدليل {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح:16] فكأنَّه قال: تقاتلونهم إلَّا أنْ يسلموا، أو إن لم يسلموا فكذلكَ في الآية كأنَّه قال: من بعد وصيَّةٍ يوصِي بها إلَّا أن يكون دينٌ، فلا تُقدَّم هي، بل هو المقدَّم عليها.
          (وَيُذْكَرُ) بالبناء للمفعول (أَنَّ شُرَيْحاً) أي: القاضي فيما وصله ابن أبي شيبة عنه بإسنادٍ فيه جابر الجعفيُّ ضعيفٌ، بلفظ: ((إذا أقرَّ في مرضه لوارثٍ بدَينٍ لم يجز إلَّا ببيِّنةٍ، وإذا أقرَّ لغير وارثٍ جاز)) (وَعُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ) ☺، قال في ((الفتح)): لم أقفْ على مَن وصله عنه.
          (وَطَاوُساً) ممَّا وصله ابنُ أبي شيبة عنه بلفظ: ((إذا أقرَّ لوارثٍ جاز)) وفي إسنادِهِ ليث بن أبي سليمٍ ضعيفٌ (وَعَطَاءً) ممَّا وصله ابنُ أبي شيبة أيضاً بإسنادٍ رجاله ثقاتٌ (وَابْنَ أُذَيْنَةَ) بالذَّال المعجمة تصغير أذن، ولعلَّه قيل له ذلك؛ لأنَّه كان يُصغِي لكلِّ ما يُلقَى إليه، ومن أسماء نبيِّنا عليه السَّلام أذن خيرٍ كما ذكروهُ، فإنَّه لمَّا قال المشركون في حقِّهِ صلعم أذُن فقالَ الله تعالى: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ} [التوبة:61] وابن أذينة: عبد الرَّحمن اللَّيثي المدني، كان مالكٌ يروي عنه الفقه، قاله الكرمانيُّ.
          وقال في ((الفتح)): وأمَّا ابنُ أذينة واسمه: عبد الرَّحمن، كان قاضِي البصرةِ، وأبوه بالمهملة مصغَّر، وهو تابعيٌّ ثقةٌ، مات سنة خمسٍ وتسعين من الهجرة، ووهِم مَن ذكره في الصَّحابةِ، وأثره هذا وصلهُ ابنُ أبي شيبة أيضاً من طريقِ قتادةَ عنه في الرَّجل يقرُّ لوارثٍ بدَين، قال: يجوزُ، ورجالُ إسناده ثقاتٌ، انتهى.
          وقوله في ((أدينة)) بالمهملة لعلَّه سبقُ قلمٍ.
          وجملة: (أَجَازُوا إِقْرَارَ الْمَرِيضِ بِدَيْنٍ) / خبر ((أن)) المفتوحة الهمزة المؤوَّلة هي ومعمولاها بمصدرٍ، نائب فاعل ((يذكر))، وهذا معنى ما قالوه جميعاً، وقد علمت لفظ كلِّ واحدٍ منهم في الغالبِ، وظاهر الجواب أنَّ جميعهم أجازوا إقرار المريضِ للوارث مع أنَّه تقدَّم أنَّ شريحاً لم يُجزه إلَّا ببيِّنةٍ، فلعلَّ لشريحٍ قولين أو أنَّ المصنِّف غلَّب المجيز على غيرهِ، لكن فيه بُعْدٌ فتأمَّل، ولضعف غالبِ هذه الآثار عبَّر بـ((يذكر)) الدَّال على التَّمريضِ.
          (وَقَالَ الْحَسَنُ) أي: البصريُّ (أَحَقُّ مَا تَصَدَّقَ بِهِ الرَّجُلُ آخِرَ يَوْمٍ مِنَ الدُّنْيَا) هو يوم موتهِ (وَأَوَّلَ يَوْمٍ مِنَ الآخِرَةِ) هو يومُ موته أيضاً، فإنَّ بعضَه الأوَّل آخر يوم من الدُّنيا، وبعضُه الآخر أوَّل يومٍ من الآخرةِ، ومجرور ((من)) في الموضعين على حذف مضافٍ؛ أي: من أيَّام الدُّنيا ومن أيَّام الآخرة، و((آخر)) بالرَّفع والنَّصب و((أوَّل)) مثله، و((تصدَّق)) من الصَّدقة، أمَّا ماضي التَّفعُّل بتاء أوَّله مبنيٌّ للفاعل، وأمَّا مضارع يصدق بالتَّحتيَّة وتشديد الدال المهملة من الصِّدق ضدُّ الكذبِ، هذا ما ذكره الشُّرَّاح.
          وعبارةُ شيخِ الإسلام في ((منحته)): ((آخر)) بالنَّصبِ بنزعِ الخافضِ، وبالرَّفع خبر ((أحقُّ))، والتَّقدير زمان تصدَّق فيه الرجلُ آخر عمره، قال: وضبطَ ((تصدَّق)) في الحديثِ بفوقيَّةٍ وببنائه للفاعلِ بلفظ الماضِي من الصَّدقة، وبتحتيَّة وبنائه للمفعول من التَّصديقِ، وهو المناسبُ للمقامِ؛ أي: أنَّ إقرار المريضِ في مرضِ موتِه حقيقٌ بأن يصدقَ به ويحكم بإنفاذه، ولعدم مُناقضتهِ ما مرَّ من أنَّ الصَّدقة عند الصَّحَّة أفضل منها عند مرضِ الموتِ، انتهت.
          ولو قُرِئ: ((يصدق)) بفتح التَّحتيَّة وسكون الصَّاد وضمِّ الدَّال المهملتين لم يمتنع، ثمَّ رأيتُه كذلك في بعضِ الأصُول، وعليه فباء ((به)) بمعنى في، و((آخر)) مرفوعٌ خبر ((أحق))، أو منصوب على الظَّرفيَّة متعلِّق بمحذوفِ خبر ((أحق)) لا منصوبٌ بنزعِ الخافضِ، كما قال شيخُ الإسلام، فتدبَّر.
          قال في ((الفتح)): أثرُ الحسنِ رويناه بعلوٍّ في ((مسند الدَّارميِّ)) من طريقِ قتادة قال: قال ابنُ سيرينَ عن شريحٍ: لا يجوزُ إقرارٌ لوارثٍ، قال: فقال الحسنُ: أحقُّ ما جازَ عليه عند موتهِ أوَّل يوم من أيَّام الآخرة، وآخرُ يوم من أيَّام الدُّنيا.
          (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ) أي: النَّخعيُّ (وَالْحَكَمُ) بفتحتين؛ أي: ابن عُيينةَ (إِذَا أَبْرَأَ الْوَارِثَ) مفعول ((أبرأ)) وفاعله ضميرٌ يعودُ إلى المريضِ المورَث (مِنَ الدَّيْنِ) أي: من مالٍ له عليه (بَرِئَ) أي: الوارثُ منه.
          قال في ((الفتح)): وصله ابنُ أبي شيبة عن الحكَم عن إبراهيم في المريضِ إذا أبرأ الوارثَ برئ، قال: وعن الحَكَم مثله.
          (وَأَوْصَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ) بفتح الخاء المعجمة آخره جيمٌ؛ أي: ابن رافعٍ الأوسيُّ الحارثيُّ، أبو عبدِ الله، شَهِدَ أُحُداً والخندق (أَنْ لاَ تُكْشَفَ) بالفوقيَّة والشِّين المعجمة، مبنيٌّ للمفعول أو للفاعل (امْرَأَتُهُ) نائب فاعله أو مفعوله، وسقطتْ للكشميهنيِّ (الْفَزَارِيَّةُ) بفتح الفاء وتخفيف الزَّاي، قال في ((المقدِّمة)): لا أعرفُ اسمها.
          (عَمَّا أُغْلِقَ عَلَيْهِ بَابُهَا) ببناء ((أُغلِق)) للمفعولِ، وللمستملي والحموي: <عن مالٍ أغلق عليها> كذا في القسطلانيِّ، لكنَّ عبارة ((الفتح)) و((العمدة)) وفي روايةِ / المستملي والسَّرخسيِّ: <عن مالٍ أغلق عليه بابها> فليُتأمَّل.
          قال العينيُّ: ويُروى: <أغلق عليها>، ويُروى: <أغلقت عليه بابها> ببناء ((أغلقت)) للفاعلِ، قال: ولم أرَ أحداً من الشُّرَّاح حرَّر هذا الموضع، والظَّاهر أنَّ المراد منه أنَّ المرأة بعد موت زوجها لا يتعرَّض لها، فإنَّ جميع ما في بيته لها وإن لم يشهد لها زوجها بذلك، وإنَّما يحتاج إلى الإشهاد والإقرار إذا عُلِم أنَّه تزوَّجها فقيرةً، وأنَّ ما في بيتها من متاع الرِّجال، وبه قال مالكٌ، انتهى فليُتأمَّل.
          قال في ((الفتح)): لم أقفْ على أثر رافعٍ موصُولاً.
          (وَقَالَ الْحَسَنُ) أي: البصريُّ (إِذَا قَالَ لِمَمْلُوكِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ: كُنْتُ أَعْتَقْتُكَ جَازَ) أي: صحَّ إقراره بعتقهِ، قال في ((الفتح)): لم أقفْ على مَن وصله، قال: وهو على طريقةِ الحسنِ في تنفيذِ إقرارِ المريضِ مطلقاً، وقال القسطلانيُّ: وخالفه الجمهورُ فقالوا: لا يعتق إلَّا من الثُّلث.
          (وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ عِنْدَ مَوْتِهَا) أي: عند قُرْب مَوتها (إِنَّ زَوْجِي قَضَانِي) أي: صَداقي أو حقِّي (وَقَبَضْتُ) أي: وقبضته (مِنْهُ جَازَ) أي: قولها المذكور، فلا يُطالبُ الزَّوج به لبراءتهِ منه بإقرَارها (وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ) أي: الحنفيَّة، كما قال الكرمانيُّ ومَن تبعَه، وقال في ((التَّوضيح)): المرادُ به أبو حنيفةَ، قال العينيُّ: وعلى كلٍّ فهذا تشنيعٌ فيه سوء أدبٍ مع أنَّه لم ينفردْ به الحنفيَّة، بل قال به أحمدُ وغيره، والعجبُ من البخاريِّ أنَّه خصَّصَ الحنفيَّة بالتَّشنيعِ مع أنَّهم شاركَهُم غيرهم فيما ذهبُوا إليه، انتهى ملخَّصاً.
          وأقولُ: لم يخصِّص البُخاريُّ الحنفيَّة كما لا يخفَى.
          (لَا يَجُوزُ إِقْرَارُهُ) أي: لا يصحُّ إقرارُ المريضِ لبعضِ ورَثته (لِسُوءِ) وفي بعضِ الأصُول: <بسوء> بموحَّدةٍ، ونسبها القسطلانيُّ لأبي ذرٍّ عن الحموي، ونسبها في ((الفتح)) للمستملِي؛ أي: بقبح (الظَّنِّ بِهِ) وضمير ((به)) للإقرارِ، على ما قال الشُّرَّاح، ويحتملُ رجوعه للمريضِ المقرِّ (لِلْوَرَثَةِ) متعلِّقٌ بـ((إقراره)) (ثُمَّ اسْتَحْسَنَ) أي: بعضُ النَّاس.
          (فَقَالَ: يَجُوزُ إِقْرَارُهُ بِالْوَدِيعَةِ وَالْبِضَاعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ) والفرقُ بين البضَاعة والمضَاربة، كما قال شيخ الإسلام تبعاً للكرمانيِّ: أنَّ الرِّبح في البضَاعة كلَّه للمَالك، وأمَّا في المضَاربة فيشتركُ بينه وبين العامِلِ، ولم يُبيِّنا حقيقتَيهما، وبيانها كما قال النَّوويُّ في لغات التَّنبيه أنَّ البِضاعة _بكسر الموحَّدة_: طائفةٌ من المالِ يبعثها الشَّخص للتِّجارة، وأمَّا المضَاربة وهي لغةُ أهل العراق، وتُسمَّى: القراض، وهي لغةُ أهل الحجازِ، فهو المالُ الذي يدفعُه الشَّخص لغيرهِ ليتَّجر فيه، وله ثُلُث الرِّبح مثلاً، والباقِي للمالك، سُمِّي بذلك؛ لأنَّ العامل يضربُ به للاتِّجار فيه.
          وفي ((الفتح)) قال ابنُ التِّين: إن أرادَ هذا القائلُ ما إذا أقرَّ بالمضاربة مثلاً للوارثِ لزمه التَّناقضُ وإلَّا فلا، وفرَّق بعضُ الحنفيَّة بأنَّ ربح المال في المضَاربة مشتركٌ بين العاملِ والمالك، فلم يكنْ كالدَّينِ المحضِ، انتهى.
          وقال العينيُّ: لم يعلِّلِ الحنفيَّة عدمَ جواز إقرارِ المريضِ لبعض الورَثة بهذه العبارةِ، بل لأنَّه ضررٌ لبقيَّة الورثةِ، ثمَّ قال: والفرقُ بين الإقرارِ بالدَّين وبين الإقرارِ بهذه الثَّلاثة ظاهرٌ؛ لأنَّ مبنى الإقرارِ بالدَّين على اللُّزوم ومَبنى الإقرارِ بهذه الأشياء على الأمانةِ، / وبين اللُّزومِ والأمانةِ فرقٌ عظيمٌ، انتهى.
          وأقولُ: قد يُقال على الأوَّل: إنَّ المثبِتَ مقدَّمٌ على النَّافي، وعلى تسليمِ ما قاله فهو بيانٌ لفائدةِ إساءة الظَّنِّ به، وأمَّا الفرقُ الذي أبدَاه فيظهرُ في الوديعةِ دون غيرها، فافهم.
          تنبيهٌ: قال في ((الفتح)) كـ((التَّوضيح)): قال ابنُ المنذر: أجمعَ العلماءُ على أنَّ إقرارَ المريضِ لغير الوارثِ جائزٌ، لكن اختلفُوا فيما إذا أقرَّ لأجنبيٍّ وعليه دَينٌ لآخر في صحَّته، فقالتْ طائفةٌ: يبدأ بدين الصَّحَّة، وهذا قول النَّخعيِّ والكوفيِّين، وقالتْ طائفةٌ أخرى: الدَّينان سواء، وبه قال الشافعيُّ وأبو ثورٍ وأبو عبيدٍ، وقال: إنَّه قول أهلِ المدينة، ورواه عن الحسنِ، واختلفوا في إقرارِ المريضِ للوارثِ فأجازه مطلقاً الأوزاعيُّ وإسحاق وأبو ثورٍ والحسن وعطاء، وهو المرجَّح عند الشَّافعيَّة، وبه قال مالكٌ، إلَّا أنَّه استثنى ما إذا أقرَّ لابنته ومعها من يُشركها من غيرِ الولد كابن العمِّ، قال: لأنَّه يُتَّهم في أنَّه يزيد ابنته وينقص ابن عمِّه من غيرِ عكسٍ، واستثنى أيضاً ما إذا أقرَّ لزوجتهِ التي يُعرَف بمحبَّتها والميل إليها، وكان بينه وبين ولدِهِ من غيرها تباعدٌ، ولا سيِّما إن كانَ له في تلكَ الحالة ولدٌ منها، والحاصلُ أنَّ المدار عندهُم على التُّهمةِ وعدمِها، فإن فُقدت جازَ الإقرارُ وإلَّا فلا، وهو اختِيارُ الرويانيِّ من الشَّافعيَّة، وعن شُريحٍ والحسن بن صالحٍ: لا يجوزُ إقراره لوارثٍ إلَّا لزوجةٍ بصَداقها.
          وعن القاسمِ وسالمٍ والثَّوريِّ والشَّافعيِّ في قولٍ زعمَ ابنُ المنذر أنَّ الشَّافعيَّ رجعَ إليه وبهِ قال أحمد وأبو حنيفة: لا يجوزُ إقرارُ المريضِ لوارثه مطلقاً؛ لأنَّه منع الوصيَّة له، فلا يُؤمن أن يُريدَ الوصيَّة فيجعلها إقراراً، واحتجَّ مَن أجاز إقرارهُ له بقول الحسنِ المتقدِّم آنفاً؛ لأنَّ التُّهمة في حقِّ المحتضِر بعيدةٌ؛ لأنَّه صار إلى حالة يتجنَّب فيها المعاصي والظُّلم ما لا يتجنَّبه في حال الصَّحَّة؛ لأنَّه قريبُ الورودِ على الله تعالى وبالفرقِ بين الوصيَّة والدَّين؛ لأنَّهم اتَّفقوا على أنَّه لو أوصى في صحَّته لوارثهِ بوصيَّةٍ وأقرَّ له بدينٍ ثمَّ رجع عنهما أنَّ رجوعَه عن الإقرارِ لا يصحُّ، بخلاف الوصيَّة، واتَّفقوا على أنَّه إذا أقرَّ بوارثٍ له صحَّ إقراره مع أنه يتضمَّن الإقرار له بالمال، وبأنَّ مدار الأحكام على الظَّاهر، فلا يترك إقراره للظَّنِّ المحتمل، فإنَّ أمره فيه إلى الله تعالى.
          وجملة: (وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلعم: إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ) بنصبهما على التَّحذيرِ حاليَّةٌ، ساقها كالجُمل بعدها دليلاً على بعضِ النَّاس، وقوله: (فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ) تعليلٌ لسابقهِ.
          قال في ((الفتح)): هو طرفٌ من حديثٍ وصله المصنِّف في ((الأدب)) من وجهَين عن أبي هريرةَ، وقصدَ بذكره هنا الرَّدَّ على مَن أساء الظَّنَّ بالمريضِ فمنعَ تصرُّفه.
          وقال العينيُّ: إنَّما يصحُّ هذا الاحتجاجُ إذا ثبتَ أنَّ الحنفيَّة علَّلوا بسوءِ الظَّنِّ به للورثةِ، وقد منعنَاهُ عن قريبٍ، ولئن سلَّمناه فلا نسلِّم أنَّه ظنٌّ فاسدٌ، والمحذَّر عنه إنَّما هو الظَّنُّ الفاسدُ، انتهى فتدبَّره.
          قال الكرمانيُّ: / فإن قلت: الصِّدق والكذبُ صفتان للقولِ لا للظَّنِّ، ثمَّ إنَّهما لا يقبلان الزِّيادة والنَّقص فكيف يبنى منه أفعل التَّفضيل، قلتُ: جعل الظَّنَّ كمتكلِّمٍ، فوصفَ بهما كما يُوصَفُ المتكلِّم، فيُقال: متكلِّمٌ صادقٌ أو كاذبٌ، والمتكلِّم يقبلُ الزِّيادة والنَّقص في الصِّدق والكذبِ، فيُقال: زيدٌ أصدقُ من عَمرٍو، ومعناه: الظَّنُّ أكذبُ في الحديثِ من غيره، قال شيخُ الإسلام: وكأنَّ مراده بالظَّنِّ في قوله: فمعناه الظَّن: الظان، انتهى.
          وأقولُ: لو أُريدَ بالظَّنِّ القول باعتبارِ أنَّه قد ينشأُ عن الظنِّ القول لكان مجازاً مرسلاً، فتأمَّل.
          (وَلاَ يَحِلُّ مَالُ الْمُسْلِمِينَ بالظَّنِّ) وسقطَ من أكثر الأصُول (لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلعم: آيَةُ الْمُنَافِقِ إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ) هذا طَرَفٌ من حديثٍ سبقَ في كتابِ الإيمان موصُولاً عن أبي هريرة عن النَّبيِّ صلعم قال: ((آيةُ المنافقِ ثلاثٌ: إذا حدَّث كذَبَ، وإذا وعَدَ أخلفَ، وإذا اؤتمنَ خانَ))، وهو تعليلٌ لقوله: ((ولا يحلُّ مالُ المسلمين))، ووجه تعلُّقِهِ، كما في ((الفتح))) بالرَّدِّ على مَن قال: لا يصحُّ إقرارُ المريضِ لوارثٍ من جهة أنَّه دلَّ على ذمِّ الخيانةِ، فلو تركَ ما عليه من الحقِّ وكتمهِ لكان خائناً للمستحقِّ، فلزم من وجوبِ ترك الخيانةِ وجوب الإقرار؛ لأنَّه إذا كتَم كان خائناً، ومَن لم يعتبرْ إقرارَه كأنَّه حمله على الكتمانِ.
          وقال الكرمانيُّ: إذا وجب تركُ الخيانةِ وجبَ الإقرار بما عليه، فإذا أقرَّ لا بدَّ من اعتبار إقراره، وإلَّا لم يكن لإيجاب الإقرار فائدةٌ.
          (وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]) سيأتي الكلام على هذه الآية في الباب الذي يلي هذا، والغرض منها أنَّه سوَّى بين الوارث وغيره في الأمرِ بأداء الأمانة، فيصحُّ الإقرارُ للوارثِ وغيره، وإلى هذا أشار المصنِّف بقولهِ: (فَلَمْ يَخُصَّ وَارِثاً وَلاَ غَيْرَهُ) واعترضَ العينيُّ البخاريَّ في الاستدلالَ بالآية؛ لأنَّ كونَ الدَّين في ذمَّته مظنونٌ مع الإضرارِ لباقِي الورثةِ، قال: ولئن سلَّمنَاه فالدَّين لا يُسمَّى أمانةً، انتهى مُلخَّصاً فتأمَّله.
          (فِيهِ) أي: في قولهِ: ((آيةُ المنافقِ: إذا اؤتمنَ خانَ)) (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو) بفتح العين؛ أي: ابن العاصِي؛ أي: حديثه (عَنِ النَّبِيِّ صلعم) وتقدَّم في كتابِ الإيمان، ولفظُه عنه مرفوعاً: ((أربعٌ مَن كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومَن كانَتْ فيه خصْلةٌ منهنَّ كانت فيه خصْلةٌ من النِّفاق حتَّى يدعها: إذا اؤتمنَ خانَ، وإذا حدَّثَ كذبَ، وإذا عاهدَ غدرَ، وإذا خاصَمَ فجرَ)) انتهى.