الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الوصية بالثلث

          ░3▒ (باب الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ) أي: بابُ بيان حكمِ الوصيَّةِ بالثُّلثِ من جوازِها أو مشروعيَّتِها مطلقاً، لا فرق بين الذمِّيِّ وغيرِه.
          (وَقَالَ الْحَسَنُ) أي: البَصريُّ (لاَ يَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ وَصِيَّةٌ إِلاَّ الثُّلُثَ) أي: فإذا زاد عليه بطلَتْ، سواءٌ كان له ورثةٌ أم لا، وأما المسلمُ؛ فإن كان له ورثةٌ وأجازوها نفَذَت، وإلا بطلَتْ في الزائد، وإن لم يكنْ له ورثةٌ، فمنعَها الجمهورُ وجوَّزَها الحنفيةُ وإسحاقُ وشَريكٌ وأحمدُ في روايةٍ، وهو قولُ عليٍّ وابنِ مسعود.
          وفي ((فتح الباري)): كلامٌ لا يخلو من شيءٍ، كقوله: واستقرَّ الإجماعُ على منعِ الوصيَّةِ بأزيدَ من الثُّلثِ، ولعله أرادَ إجماعَ غيرِ المستثنِين كما يشيرُ إليه الكلامُ، وعبارةُ ((التوضيح)) ظاهرةٌ في ذلك؛ فإنه قال: قام الإجماعُ من الفقهاءِ على أنه لا يجوزُ لأحدٍ أن يوصي بأكثرَ من الثُّلثِ، إلا أبا حنيفةَ وأصحابَه وشَريكاً ومَسروقاً وإسحاقَ، فقالوا: إن لم يترُكْ ورَثةً، يجوزُ له أن يوصِي بمالِه كلِّه؛ لأنَّ المنعَ من الزِّيادةِ على الثُّلثِ إنَّما كان للورثة، ومَن ليس له ورَثةٌ فليس ممَّن قُصدَ بالحديث.
          وقال زيدُ بنُ ثابتٍ: لا يجوزُ لأحدٍ أن يوصيَ بأكثرَ من الثُّلث، وإن لم يكن له وارثٌ، وهو قولُ مالكٍ والأوزاعيِّ والشافعيِّ، واحتجُّوا بقوله هنا: ((والثلثُ كثيرٌ)) وبما رواه آدمُ بنُ أبي إياسٍ، عن أبي هريرةَ مرفوعاً: ((إنَّ الله جعلَ لكم ثلُثَ أموالِكم عند الموتِ زيادةً في أعمالِكُم)).
          وروى أبو اليمانِ عن أبي الدَّرداءِ مرفوعاً: ((إنَّ الله تصدَّقَ عليكم بثُلثِ أموالِكم عند وفاتِكم)) ولم يخُصَّ مَن كان له وارثٌ من غيرِه، وفي المسألة قولٌ شاذٌّ؛ وهو: جوازُها بالمالِ كلِّه وإن كان له وارثٌ، انتهى.
          وأقول: المنقولُ في فروعِ الشافعيَّة كـ((التحفة)) و((النهاية)) أنَّ وصيةَ مَن لا وارثَ له خاصٌّ جائزةٌ بالثُّلثِ فما دونَه، وأما بما فوقَه فهي باطلةٌ ابتداءً، فاعرِفْه.
          (وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49]) قال ابن بطَّالٍ: أراد البخاريُّ بهذا الرَّدَّ على مَن قال كالحنفيَّة بجواز الوصيَّة بالزيادة على الثُّلث لمن لا وارثَ له، ولذلك احتجَّ بقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49]، والذي حكم به النَّبيُّ صلعم من الثُّلثِ هو الحكمُ بما أنزلَ الله، فمَن تجاوزَ ما حدَّه الله فقد أتى ما نُهِي عنه، وردَّه ابن المنيِّر فقال: لم يُرِد البخاريُّ هذا، وإنَّما أراد الاستشهاد بالآية على أنَّ الذِّمِّيَّ إذا تحاكمَ إلينا ورثته لا ينفذ من وصيَّته إلَّا الثُّلث؛ لأنَّا لا نحكمُ فيهم إلَّا بحكمِ الإسلام للآية المذكورةِ، انتهى.
          وقال العينيُّ وابن المنيِّر: العجبُ من البُخاريِّ أنَّه ذكر عن الحسن أنَّه لا يرى للذِّمِّي / بالوصيَّة بأكثر من الثُّلث، فليت شعري ما وجهُ ذِكْر هذا والحال أنَّ حكم المسلم كذلكَ عنده وعند غير الحنفيَّة؟!
          قال: وأعجب منه كلام ابن بطَّالٍ الذي تمحل في كلامه المحال، واستحقَّ الرَّدَّ على كلِّ حالٍ، وأبعدُ من هذا وأكثرُ استحقاقاً بالرَّدِّ صاحب ((التوضيح)) حيث يقول: وعلى قول أبي حنيفة ردَّ البخاريُّ في هذا الباب، ولذلك صدَّر بقول الحسن ثمَّ بالآية، فكيف يُرَدُّ على أبي حنيفة بقول الحسن؟! فما وجهُ ذلك لا يُدرَى؟! انتهى.
          وأقولُ: لم يتعرَّض العينيُّ لردِّ كلام ابن المنيِّر لردِّه لكلام ابن بطال بحسب ما ظنَّه مع أنه متضمِّنٌ لما قاله ابن بطَّالٍ، ولا يرد اعتراضُه على البخاريِّ ولا على ابن بطَّالٍ فإنَّه ليس حكمُ المسلم حكم الذِّمِّيِّ عند الجميع؛ لأنَّ الحنفيَّة ومَن وافقهم يرون صحَّة وصيَّة الذِّمِّي بكلِّ ماله إذا لم يكن له وارثٌ، ولا يراه الجمهور ولا الحسن البصريُّ فتأمَّله بإنصافٍ، وحينئذٍ فلا يُدرَى وجهُ ما قاله، فتدبَّر.