الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: إذا قال: داري صدقة لله ولم يبين للفقراء أو غيرهم

          ░14▒ (باب إِذَا قَالَ) أي: شخص (دَارِي) أي: مثلاً (صَدَقَةٌ لِلَّهِ) وجملة: (وَلَمْ يُبَيِّنْ لِلْفُقَرَاءِ أَوْ غَيْرِهِمْ) حاليَّةٌ، والمراد لم يبيِّن مصرِفَ الوقف، وجملة: (فَهُوَ) أي: الوقف المذكور (جَائِزٌ) جواب ((إذا))، ولضعف الخلافِ عنده جزم بالجوازِ؛ أي: صَحيحٌ ويقع المواقع وإن لم يُبيِّن ذلك.
          (وَيَضَعُهَا) أي: الدَّار؛ أي: ويجعلها (فِي الْأَقْرَبِينَ) ولأبي ذرٍّ عن الحموي والمستملي: <ويُعطيها للأقربين> (أَوْ حَيْثُ أَرَادَ) أي: من غير الأقربِين كأجانبٍ أو قريبين (قَالَ النَّبِيُّ صلعم لأَبِي طَلْحَةَ حِينَ قَالَ) أي: أبو طلحة (أَحَبُّ أَمْوَالِي إِلَيَّ) بتشديدِ ياء المتكلِّم (بَيْرَحَاءَ) بفتح الموحَّدة وكسرها وسكون المثنَّاة التَّحتيَّة من غير همزٍ وبفتح الرَّاء وضمِّها فحاء مهملة فهمزة ممدودة، بالصَّرف وعدمهِ، ولأبي ذرٍّ بكسر الموحَّدة وسكون الياء وبضمِّ الراء، وفيه وجوه أُخَر سبقَتْ في الزَّكاة.
          (وَإِنَّهَا) أي: بيرحاء، بكسر الهمزة لعطفها على مقول ((قال))، ويحتمل أنَّها حاليَّةٌ (صَدَقَةٌ لِلَّهِ، فَأَجَازَ النَّبِيُّ صلعم ذَلِكَ) أي: هذا الوقفَ وإن لم يعيِّن الواقفُ مصرفه، ثم يُعيِّنه بما شاء لِمَن شاء، وهذا قول مالكٍ وأبي يوسف ومحمَّدٍ، وقوله: ((فأجاز النبيُّ))...إلخ هو من تفقُّه البخاريِّ ساقَه لبيان أنَّه لا يتعيَّن بيان المتصدَّق عليه ولا المتصدَّق عنه.
          (وَقَالَ بَعْضُهُمْ) قيل: أرادَ به الشَّافعيَّ على أحدِ قولَيه وهو الرَّاجحُ، ففي ((المنهاج)) / و((التُّحفة)): ولو اقتصرَ على قولهِ: وقفتُ كذا ولم يذكرْ مصرفه، أو ذكر مصرفاً متعذِّراً كوقفتُ كذا على جماعةٍ فالأظهرُ بطلانه، وإن قالَ: لله؛ لأنَّ الوقف يقتضِي تمليكَ المنافع، فإذا لم يُعيِّن متملِّكاً بطل كالبيعِ، وقيل: أراد بـ((بعضهم)) الحنفيَّة، وردَّه العينيُّ: بأنَّ مذهبَ الحنفيَّة بخلاف ذلك، فإنَّ مذهبَ الإمامَين الجواز مطلقاً، ومذهبُ الإمام أبي حنيفةَ أنَّ كلَّ صدقة لا تُضاف إلى أحدٍ فهي للمسَاكين صدقةٌ ويتصدَّق بها ولا تكون وقفاً.
          (لاَ يَجُوزُ) أي: لا يصحُّ هذا الوقفُ المطلَق (حَتَّى يُبَيِّنَ لِمَنْ ذَلِكَ) أي: لِمن يُصرَف ريعُه، فإن قال: وقفتُه لله تعالى فقد خرجَ عن ملْكِه جزماً على ما سيأتي عن السُّبكيِّ (وَالأَوَّلُ) أي: والقول الأوَّل القائلُ بالجوازِ (أَصَحُّ) أي: فعليه المعوَّل.
          تنبيه: قال شيخُ الإسلام: وجهُ الاستِدلال منه بأنَّ أبا طلحة أطلق صدقة أرضه، ثمَّ فوَّض للنبيِّ صلعم مصرفها، فلمَّا قال له: ((أرى أن تجعلَها في الأقربين)) صارَ كأنَّه أقرَّها في يدهِ بعد أنْ مضت الصَّدقة، ولا يخفَى أنَّ هذا التَّوجيه إنَّما يتمُّ على قول مَن لا يشترط بيان المصرف في عقدِ الوقفِ، لا على قول مَن رجَّح أنَّه يشترط ذلك كالشَّافعيَّة، نعم يتمُّ على قول السُّبكيِّ أنَّ محلَّ اشتراط ذلك في عقدِه إذا لم يقلْ: لله، وإلَّا فيصحُّ، ثم يُبيِّن المصرف لخبر أبي طلحةَ، فاشتراط بيانهِ حينئذٍ للزوم لا للصَّحَّة، انتهى فاعرفْه.