الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب من تصدق

          ░17 ▒ (بَابُ مَنْ تَصَدَّقَ) بإضافة ((باب)) إلى ((مَن)) الموصولة أو النَّكرة الموصُوفة؛ أي: بابُ بيانِ حكم مَن تصدَّق (إِلَى) وللكشميهني: <على> (وَكِيلِهِ ثُمَّ رَدَّ الْوَكِيلُ) أي: الصَّدقة (إِلَيْهِ) أي: إلى الموكِّل، قال في ((الفتح)) هذه التَّرجمة وحديثها سقط من أكثر الأصولِ، ولم يشرحه ابنُ بطَّالٍ، وثبتَ في رواية أبي ذرٍّ عن الكشميهني خاصَّةً، لكن في روايتهِ ((على وكيله))، وثبتت التَّرجمة وبعض الحديث في رواية الحموي، ونُوزِع البخاريُّ في انتزاع التَّرجمة من قصَّة أبي طلحة.
          وأجيب: بأنَّ مراده أنَّ أبا طلحة لمَّا أطلق أنَّه تصدَّق وفوَّض إلى النبيِّ تعيين المصرف، وقال له النَّبيُّ: ((دعها في الأقربين)) كان شبيهاً بما ترجمَ به ومُقتضاه الصَّحَّة، انتهى، وأَولى من هذا الجوابِ أن يُقال: قوله: ((قبلناهُ منك ورددنَاهُ عليكَ)) صريحٌ في ذلك سوى كونهِ وكيلاً، فلا حاجةَ لقوله: فهو شبيهٌ بما ترجمَ به، فافهم.
           (وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ) كذا وقعَ في أصل أبي ذرٍّ من غيرِ بيان الأبِ، وجزم أبو نُعَيمٍ في ((مستخرجه)) بأنَّه ابن جعفرٍ، ووقعَ كذلك في ((الأطراف)) لأبي مسعودٍ وخلفٍ، وزاد الطرقيُّ في ((الأطراف)) أنَّ البخاريَّ أخرجه عن الحسن بن شوكر عن إسماعيل بن جعفر وانفردَ بذلك، فإنَّ الحسنَ بن شوكر لم يذكرْه أحدٌ في شيوخ البخاريِّ، وهو ثقةٌ وأبوه بالمعجمة وَزْن جعفر، وجزم المزيُّ بأنَّ إسماعيل هو ابن أبي أُوَيس، ولم يذكر لذلك دليلاً إلَّا أنه وقع في أصل الدِّمياطي بخطِّه في البخاريِّ: <حدَّثنا إسماعيل> فإن كان محفوظاً تعيَّن أنَّه ابن أبي أُوَيس، وإلَّا فالقولُ ما قال خلفٌ ومَن تبعه، وعبد العزيز بن أبي سلمة وإن كانَ مِن أقران إسماعيلَ بن جعفرٍ فلا يمتنعُ أن يروي إسماعيلُ عنه.
          قال: (أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ) بفتحَاتٍ، واسم أبي سلمة دِينارٌ، قال الواقديُّ: مات ببغداد سنة أربعٍ وستِّين ومائة، وصلَّى عليه المهديُّ ودفنه في مقابرِ قريش / (عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) هو زيدُ بن سهلٍ الأنصاريُّ ☺ (لاَ أَعْلَمُهُ إِلاَّ عَنْ أَنَسٍ) ☺ ذكرهُ ابن عبد البَرِّ في ((تمهيده)) بقوله: عن أنسٍ بالجزمِ، فالذي يظهرُ أنَّ الذي قال: ((لا أعلمه إلَّا عن أنسٍ)) هو البخاريُّ، قاله في ((الفتح)).
          (قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]) ((من)) للتَّبعيض و((ما)) موصولةٌ أو نكرةٌ موصوفةٌ، وأنَّث ((نزلت)) باعتِبار أنَّ قوله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} آيةٌ، و{الْبِرَّ} بكسر الموحَّدة: الثَّواب والأجر، والمراد لن تنالوا البِرَّ الكاملَ حتَّى تتصدَّقوا ببعض ما تحبُّونه.
          (جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ) جواب لما (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلعم) زاد ابنُ عبد البَرِّ: ورسول اللهِ صلعم على المنبرِ (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى) وفي بعضِ النُّسَخ: <يقول الله تعالى> وفي بعضِها: <يقول الله> (فِي كِتَابِهِ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ) بتشديدِ الياء (بِيرُحَاءَ) بكسر الموحَّدة وسكون التحتيَّة وضمِّ الراء آخره همزة ممدود، لا ينصرفُ، وضبطها الكرمانيُّ هنا بفتح الموحَّدة والراء وبالقصرِ، وفيها لغاتٌ أخرى مرَّت قريباً وبعيداً.
          (قَالَ) أي: أبو طلحة أو أنسٌ ولعلَّه أَولى (وَكَانَتْ) أي: بيرحاء (حَدِيقَةً) أي: بستاناً عليه حائطٌ، ثمَّ توسَّعوا فأطلقوها على البستانِ وإن لم يكنْ له حائطٌ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم يَدْخُلُهَا) أي: الحديقة (وَيَسْتَظِلُّ فيهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا) هاتان الجملتَان معطوفتان على جملةِ ((يدخلها)) الواقعة خبر ((كان)).
          تنبيه: جملة ((قال: وكانت)) إلى قوله: ((من مائها)) معترضةٌ بين قوله: ((وإن أحبَّ أموالي إليَّ بيرحاء)) وبين قوله: (فَهِيَ إِلَى اللَّهِ ╡ وَإِلَى رَسُولِهِ أَرْجُو بِرَّهُ) بكسر الموحَّدة؛ أي: بيرحاء، وذكَّره باعتبار أنَّه مكانٌ أو متصدَّق به أو إلى الله (وَذُخْرَهُ) بضمِّ الذَّال وسكون الخاء المعجمتَين (فَضَعْهَا) أي: الصَّدقة أو البئر (أَيْ رَسُولَ اللَّهِ) بسكون التَّحتيَّة حرف نداءٍ كيا، وفي بعضِ الأصُول: <يا رسول الله> (حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ) بقصر همزة ((أراك)).
          (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم: بَخْ) بفتح الموحَّدة وسكون الخاء المعجمة، أو كسرها مع التَّنوين من غير تكرارٍ هنا، كلمةٌ تُقال عند المدح والرِّضا بالشَّيء، وقال في ((القاموس)) بَخْ كقَدْ؛ أي: عَظُم الأمر وفخم، تقال وحدها وتكرَّر بخٍ بَخْ الأوَّل منوَّن والثاني مُسكَّن، وقُل في الإفراد: بَخْ ساكنة وبَخِ مكسورة وبَخٍ منوَّنة مكسورة ومضمومة، ويُقال: بَخْ بَخْ مُسكَّنَين، وبخٍ بخٍ منوَّنين، وبخٍّ بخٍّ مشدَّدتَين، كلمةٌ تُقال عند الرِّضا والإعجاب بالشَّيء أو الفخر أو المدح، انتهى.
          (يَا أَبَا طَلْحَةَ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ) بالموحَّدة والحاء المهملة؛ أي: يربح صاحبُه فيه في الآخرةِ، و<رائح> بالهمز بدل الموحَّدة؛ أي: ذاهبٌ لا يدومُ، وبالوجهين صرَّح الكرمانيُّ (قد قَبِلْنَاهُ) أي: المال (مِنْكَ وَرَدَدْنَاهُ عَلَيْكَ، فَاجْعَلْهُ فِي الأَقْرَبِينَ، فَتَصَدَّقَ بِهِ أَبُو طَلْحَةَ عَلَى ذَوِي رَحِمِهِ) قال الكرمانيُّ: فإن قلت: تقدَّم أنَّه تصدَّق به على بني عمِّه، قلت: لا مُنافاة؛ إذ المرادُ بـ((ذوي رحمه)) ذو القرابةِ؛ كقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال:75].
          (قَالَ) أي: أنسٌ (وَكَانَ مِنْهُمْ) أي: من ذوي رحِمِه (أُبَيٌّ) بتشديد التَّحتيَّة؛ / أي: ابن كعبٍ (وَحَسَّانُ) أي: ابن ثابتٍ، وهما اللَّذان دفعها أبو طلحة إليهما، ولم يعط أنساً شيئاً؛ لأنَّهما أقربُ إلى أبي طلحة من أنسٍ (قَالَ) أي: أنسٌ (وَبَاعَ) وفي بعض النُّسَخ بالفاء بدل الواو (حَسَّانُ حِصَّتَهُ مِنْهُ) أي: من ذلك المال، وهو متعلِّق بمحذوف حال من ((حصَّته)) (مِنْ مُعَاوِيَةَ) أي: ابن أبي سفيان، والجارُّ والمجرور متعلِّقٌ بـ((باع)).
          قال في ((الفتح)): هذا يدلُّ على أنَّ أبا طلحة ملَّكهما الحديقة المذكورة ولم يقفها عليهم؛ إذ لو وقفها لَما ساغ لحسَّان أن يبيعَها، فيعكِّرُ على مَن استدلَّ بشيءٍ من قصَّة أبي طلحة في مسائل الوقفِ، إلَّا فيما لا تخالف فيه الصدَّقة الوقف، قال: ويحتملُ أن يقال: شرط أبو طلحة لمَّا وقفها عليهم أنَّ مَن احتاجَ إلى بيع حصَّته منهم جازَ له بيعها، وقد قال بجواز هذا الشَّرط بعض العلماء كعليٍّ وغيره.
          (فَقِيلَ لَهُ) أي: لحسَّان (تَبِيعُ) أي أتبيع (صَدَقَةَ أَبِي طَلْحَةَ؟ فَقَالَ: أَلاَ أَبِيعُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ بِصَاعٍ مِنْ دَرَاهِمَ) وكان غرضه قلَّة التَّمر وكثرة الدَّراهم، ففي ((أخبار المدينة)) لمحمَّد بن الحسن المخزوميِّ من طريقِ أبي بكر بن حزمٍ: أنَّ ثمن حصَّة حسَّان مائة ألف درهمٍ قبضها من معاوية بن أبي سفيانَ.
          (قَالَ) أي: أنسٌ (وَكَانَتْ تِلْكَ الحَدِيقَةُ) أي: التي تصدَّق بها أبو طلحة (فِي مَوْضِعِ قَصْرِ بَنِي جَدِيْلَةَ) بفتح الجيم وكسر الدَّال المهملة، كذا في الفرعِ وأصله وضُبِّب عليه، والصَّواب أنَّه بالحاء المضمومة وفتح الدَّال المهملتَين، كما ذكره الأئمَّة الحُفَّاظ منهم أبو نصرٍ وأبو عليٍّ الغسَّانيُّ والقاضي عياضٌ، وهم بطنٌ من الأنصَار وهم بنو معاوية بن عَمرو بن مالك بن النَّجَّار، وجديلة أمُّهم وإليهم يُنسَب القصر المذكورُ.
          (الَّذِي بَنَاهُ مُعَاوِيَةُ) أي: ابن أبي سفيان لمَّا اشترى حصَّة حسَّان ليكون حِصناً لهم لما كانوا يتحدَّثونَ به بينهم ممَّا يقع لبني أُميَّة من قيام أهل المدينة عليهم، وكان الذي تولَّى بناءه لمعاوية الطُّفيلُ بن أبي بن كعبٍ، ذكره عمر بن شبَّة في ((أخبار المدينة)) وأبو غسَّان المدنيُّ وغيرهما.
          تنبيه: معاويةُ الذي اشترى مِن حسَّان حصَّته وبنى القصر هو معاوية بن أبي سفيانَ كما ذكره الشُّرَّاح خلافاً للكرمانيِّ والبرماويِّ، فإنَّه قال في الذي بنى القصرَ أنَّه معاوية بن عَمرو بن مالك بن النَّجَّار أحد أجداد أبي طلحةَ انتهى، وكذا غيرُ واحدٍ منهم صاحب ((الفتح)) فإنَّه قال: وما ذكرتُه عمَّن صنَّف في ((أخبار المدينة)) يرد عليه وهم أعلمُ بذلك من غيرهم، وأبو غسان المدنيُّ: كان الذي بنى القصرَ لمعاوية بن أبي سفيان الطُّفيلُ بن أُبَيِّ بن كعبٍ، وكان لذلك القصر بابان أحدُهما شارعٌ على خطِّ بني حُدَيلة والآخر في الزَّاوية الشَّرقيَّة.
          وقال ابن عبد البَرِّ: كان قصر أبي جعفرٍ والدَّار التي تليها إلى قصر بني حُديلة حائط لأبي طلحةَ، قال: وكان قصرُ بني حديلة حائطاً لأبي طلحةَ يقال له: بيرحاء، فذكرَ الحديث.
          قال في ((الفتح)): ومرادُه بدار أبي جعفرٍ التي صارَتْ إليه بعد ذلك وعُرِفت به هو أبو جعفرٍ المنصور الخليفة العباسيُّ المشهور، وأمَّا قصر بني حُدَيلة وهو بالمهملة مصغَّراً، ووهِم مَن قال: إنَّه بالجيم فنسب إليهم القصر بسبب المجاورة، وإلَّا فالذي بناه معاوية بن أبي سفيان انتهى.
          تذييل: قال القسطلانيُّ: وهذا الباب وحديثه سقط من أكثر الأصول، وثبت في رواية الكشميهنيِّ فقط، / نعم ثبتت التَّرجمة وبعض الحديث للحموي إلى قوله: ((مما تحبُّون)).