الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير}

          ░24▒ (بَابُ قَولِ اللهِ تَعَالى: {وَيَسْأَلُونَكَ}) أي: في سورة البقرة، كذا للأكثر، ووقع لأبي ذرٍّ: <باب: {يَسْأَلُونَكَ}> ({عَنِ الْيَتَامَى}) روى ابن جريرٍ بسنده إلى ابن عبَّاسٍ وأبو داود والنَّسائيُّ والحاكم عن عطاء قال: لمَّا نزلت: {لَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام:152]، و{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء:10]...الآية انطلقَ مَن كان عنده يتيمٍ يعزلُ طعامَهُ من طعامهِ وشرابُهُ من شرابِهِ، فجعلَ يفضل له الشَّيء من طعامِهِ فيحبسُ له حتى يأكلَه أو يفسدَ، فاشتدَّ ذلك عليهم، فذكرُوا ذلك لرسول الله صلعم فأنزلَ اللهُ تعالى هذه الآية: ({قُلْ إِصْلاَحٌ لَهُمْ}) أي: الإصلاح لأموالهم من غيرِ أجرةٍ ولا عِوَضٍ ({خَيْرٌ}) وقال البيضاويُّ: أي: مداخلتهم لإصلاحِهِم، أو إصلاحِ أموالهم خيرٌ من مجانبتِهِم.
          تنبيهٌ: (({إِصْلَاحٌ} مبتدأٌ، وسوَّغَ الابتداءُ به تعلُّق {لَهُمْ} به، و{خَيْرٌ} خبره، وهو أفعلُ تفضيلٍ، والمفضل عليه محذوفٌ، ويحتملُ أنَّه ضدُّ شرٍّ.
          ({وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ}) أي: تُشاركوهُم في أموَالهِم وتخلطُوها بأموالكُم، فتُصِيبوا من أموَالهم عِوضاً عن قيامِكُم / بأمُورهِم ({فَإِخْوَانُكُمْ}) أي: فهم إخوانُكُم، وحقُّ الأخوَّةِ أن يعينَ بعضُهم بعضاً وينفعوهُم، والجملةُ جواب الشَّرط، والغرضُ منها كما قاله البيضاويُّ: الحثُّ على المخالطَةِ؛ أي: أنَّهم إخوانُكُم في الدِّين، ومِن حقِّ الأخ أن يخالطَ الأخَ، وقيل: المرادُ بالمخالطةِ: المصاهرةُ، انتهى.
          ({وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ}) والجملة حاليَّةٌ أو مستأنفةٌ، و(({الْمُفْسِدَ})) و(({الْمُصْلِحِ})) أسماء فاعلٍ من أفسدَ وأصلحَ؛ أي: أنَّه تعالى يعلم مَن نيَّته وقصدِهِ الإصلاحَ أو الإفسادَ في أموالهم أو مُطْلقاً، وقال العينيُّ كابنِ الملقِّن: ويُقال: وإن تخالطُوهُم في الطَّعامِ والشَّراب والسُّكنى واستخدامِ العبيد فإخوانُكُم، وقالوا لرسولِ الله: بقيت الغنم لا راعيَ لها، والطَّعام ليس له صانعٌ فنزلَتْ ونُسِخ ذلك، وقال البيضاويُّ: وعيدٌ ووعدٌ لِمن خالطَهُم للفسادِ، والصَّلاح: أي: يعلم أمرَهُ فيُجازيهِ عليه.
          ({وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ}) أي: ولو شاء اللهُ إعناتَكُم لأعنتَكُم؛ أي: كلَّفَكُم ما يشقُّ عليكم، من العنَتِ وهي المشقَّةُ، ولم يُجوِّز لكم مداخلتَهُم، بل خفَّف عنكم وأباحَ لكم مخالطتَهُم في الأكلِ والشُّربِ من غيرِ إضرارٍ لهم، قال العينيُّ: وفي ((تفسير النَّسفيِّ)): وعلى هذا اجتماعُ الرُّفقةِ في السَّفر على خلطِ المالِ، ثمَّ اتِّخاذ الأطعمَةِ به، وتناول الكلُّ من ذلك مع توهُّم التَّفاوتِ، فرخَّصَ لهم استدلالاً بهذه الآيةِ.
          ({إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ}) مَن عزَّ: غَلَب؛ أي: غالبٌ للجميعِ يقدر على الإعنات وغيره ({حَكِيمٌ} [البقرة:220]) أي: يحكم بما تقتضيه حكمتُه البالغة، وذكر الآية بتمامها رواية الأكثر، ووقع لأبي ذرٍّ بلفظ: <{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُم}...إلى آخر الآية>، وقوله: ({لأَعْنَتَكُمْ}: لأَحْرَجَكُمْ) وصف من كلام البخاريِّ ذكره تفسيراً {لَأَعْنَتَكُمْ} على عادتِهِ الكثيرة في تفسير ما فيه غرابةٌ، وهذا كما في ((الفتح)) و((العمدة)) تفسير ابن عبَّاسٍ كما أخرجه ابن المنذرِ عنه، وزاد بعد قوله: ((ضيَّق عليكم، ولكنَّه وسَّع ويسَّر))، و((أحرجكم)) بسكون الحاء المهملة وفتح الرَّاء والجيم؛ أي: أوقعكم في الحرج وهو الضِّيق، ولذا قال: وضيَّق تفسيراً لأحرج.
          وعبارة ((الفتح)): قوله: (({لَأَعْنَتَكُمْ} لأحرجكم وضيق)) هو تفسير ابن عبَّاسٍ أخرجه ابن المنذر من طريق عليِّ بن أبي طلحة عنه، وزاد بعد قوله: ضيَّق عليكم، ولكنَّه وسَّع ويسَّر فقال: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ} يقول: يأكلُ الفقيرُ إذا ولِيَ مال اليتيمِ بقدر قيامهِ على مالهِ ومنفعتهِ ما لم يُسرِف أو يُبذِّر، ثمَّ أخرج من طريقِ سعيد بن جبيرٍ قال في قوله: {لَأَعْنَتَكُم}: لأحرجكم، انتهى.
          وقوله: أعنتكم: فعلٌ ماضٍ، من العَنَت بفتح المهملة والنُّون بعدها مثنَّاةٌ والهمزة للتَّعدية؛ أي: أوقعكم في العنَت، انتهى، والعَنَت: المشقَّة، ويجيء بمعنى: الفساد والهلاك والإثم والغلط والخطأ والزَّلل.
          ({وَعَنَت}: خَضَعَتْ) يشير إلى تفسير {عَنَتْ} بـ((خضعت)) في قوله تعالى في سورة طه: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه:111]، قال في ((الفتح)): كذا وقع هنا، واستغرب؛ لأنَّه لا تعلُّق له بقوله: {أَعْنَتَكُم} بل هو فعلٌ ماضٍ، من العُنُوِّ _بضمِّ العين المهملة والنُّون وتشديد الواو_ وليس هو من العَنَت في شيءٍ؛ لأنَّ التَّاء في العنت أصليَّة، وفي عنَت للتَّأنيث، ولام فعله واو، لكنَّها ذهبت في الوصلِ، فلعلَّ / المصنِّف ذكرَ ذلك استطراداً، وتفسير {عَنَتِ الْوُجُوهُ} بـ((خضعت)) أخرجه ابنُ المنذرِ أيضاً من طريقِ مجاهدٍ، وأخرجَهُ من طريق عليِّ بن أبي طلحةَ عن ابن عبَّاسٍ فقال: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ} أي: ذلَّتْ، ومن طريقِ أبي عبيدَةَ قال: {عَنَت}: استأسرَتْ؛ لأنَّ العاني هو الأسيرُ، فكان من فسَّره بـ((خضعت)) فسَّره بلازمِهِ؛ لأنَّ مِن لازمِ الأسرِ الذِّلَّة والخضُوع غالباً.