الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: لا وصية لوارث

          ░6▒ (بَابُ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ) أي: لازمةٌ له أو جائزةٌ على ما سيأتي من أنَّها لا تلزم إلا أن يُجيزها بقيَّة الورثة، أو لا تجوز ولا تصحُّ مطلقاً وإنْ أجازها بقيَّة الورثة.
          قال في ((الفتح)): هذه التَّرجمة لفظ حديثٍ مرفوعٍ كأنَّه لم يثبتْ على شرط البخاريِّ فترجمَ به كعادتهِ، وأخرجَه أبو داود والتِّرمذيُّ وغيرهما عن أبي أُمامة، قال: سمعتُ رسولَ الله صلعم يقول في خطبتهِ في حجَّة الوداعِ: ((إنَّ اللهَ قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصيَّةَ لوارثٍ)) وفي إسنادِهِ إسماعيل بن عيَّاش قوَّى حديثَه عن الشَّاميين جماعةٌ منهم أحمد والبخاريُّ، وقال التِّرمذيُّ: حديثٌ حسنٌ ورواه جماعةٌ كثيرون كالدَّارقطنيِّ عن جابرٍ، وكابنِ أبي شيبة عن عليٍّ، وابنِ ماجه عن أنسٍ قال: ولا يخلو إسنادٌ منها عن مقَالٍ، لكنَّ مجمُوعها يقتضِي أنَّ للحديثِ أصلاً.
          بل جنَحَ الشَّافعيُّ في ((الأمِّ)) إلى أنَّه متواترٌ، فقال: وجدْنَا أهلَ الفُتْيا ومَن حفظنَا عنهم من أهلِ العلمِ بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أنَّ النبيَّ صلعم قال عام الفتح: ((لا وصيَّة لوارثٍ)) ويأثرونه عمَّن حفظُوه، ونقله كافَّةٌ عن كافَّة، لكن نازعَ الفخر الرَّازيُّ في كونهِ متواتراً، وعلى تقديرِ تسليمهِ فالمشهورُ من مذهبِ الشَّافعيِّ أنَّ القرآن لا يُنسَخ بالسُّنَّة، لكنَّ الحُجَّة في هذا الإجماعِ على مقتضَاه، انتهى.
          وأقولُ: الرَّاجحُ عند الشَّافعيَّة أنَّ القرآن يُنسخ بالسُّنَّة؛ / لأنَّ محلَّ النَّسخ الحكم، والدَّلالة عليه بالمتواترِ ظنِّيَّة كالآحادِ.
          ثمَّ قال في ((الفتح)) والمراد بقوله: ((لا وصيَّة لوارثٍ)) عدم اللُّزوم؛ لأنَّ الأكثر أنَّها موقُوفةٌ على إجازةِ بقيَّة الورثةِ؛ لِما روى الدارقطنيُّ عن ابن عبَّاس مرفوعاً: ((لا تجوزُ وصيَّةٌ لوارثٍ إلَّا أن يشاءَ الورثة)) ورجاله ثقاتٌ، لكنَّه معلول بأنَّ أحد رواته عطاء الخراسانيُّ، وكأنَّ البخاريَّ أشار إلى ذلك فترجم بالحديث، وأخرج من طريق عطاءٍ عن ابن عبَّاسٍ حديث الباب، وهو موقوفٌ لفظاً، لكنَّه في حكم المرفوع، انتهى ملخَّصاً.
          وأقولُ: لفظ رواية الترمذيِّ عن عَمرو بن خارجة كما في العينيِّ أنَّ النبيَّ خطب على ناقتهِ وأنا تحت جرانها وهي تقصع بجرتها، وأنَّ لعابها يسيلُ بين كتفي فسمعْتُه يقول: ((إنَّ اللهَ ╡ أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه فلا وصيَّة لوارثٍ، والولدُ للفراشِ وللعَاهِر الحجرُ)) وهذا حسنٌ صحيحٌ.
          وقال أيضاً: وروى الدَّارقطنيُّ عن جعفر بن محمَّد عن أبيهِ قال: قال رسولُ الله صلعم: ((لا وصيَّة لوارثٍ، ولا إقرارَ بدينٍ)).