الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول الله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح}

          ░22▒ (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) ولأبي ذرٍّ: <╡> بدل: ((تعالى)) ({وَابْتَلُوا الْيَتَامَى}) ساق في روايةِ كريمة والأصيليِّ من قولهِ: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} إلى قولهِ: {نَصِيباً مَفْرُوضاً}، ووقعَ في رواية أبي ذرٍّ بعد قوله: {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}: <إلى قولهِ: {مِمَا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً}>، كذا في الفرعِ، ومعنى {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} أي: اختبروهُم في عقولِهم وأديانهم وحفظِ أموالهِم، وذلك أن يُختبَر بعد البلوغِ بشيءٍ من مالهِ، وظاهر القرآن أنَّه قبله، ذكره ابن الملقِّن.
          ({حَتَّى إِذَا بَلَغُوا}) أي: اليتامَى ({النِّكَاحَ}) يعني: الحُلُم بأن يُنزلوا في منامهم أو يقظتِهم الماء الدَّافق، أو يستكملوا خمسة عشر سنةً، خلافاً لأبي حنيفة فعنده ثمانية عشر سنةً، وقال البيضاويُّ: بلوغ النِّكاح كنايةٌ عن البلوغِ؛ لأنَّه يصلحُ للنِّكاح عنده ({فَإِنْ آنَسْتُمْ}) بمدِّ الهمزة فنون؛ أي: أبصرتُم وعلمتُم، وقرئ: {أَحَسْتُم} بحاء مهملة بدل النُّون بمعنى: أحسستُم، قاله / البيضاويُّ ({مِنْهُمْ}) أي: اليتامى ({رُشْداً}) أي: صلاحاً في دِينهم ودُنياهم، كما رُوِي عن ابن عبَّاس ومجاهد والحسن البصريِّ وغير واحد، وقيل: عقلاً، كما قاله أبو حنيفة.
          ({فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}) أي: فوراً، والمخاطَب بذلك الأولياء والأوصياءُ ({وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا}) أي: من غير حقٍّ ({وَبِدَارًا}) أي: قبل بلوغِهم ({أَنْ يَكْبَرُوا}) أي: مخافةَ أن يكبروا، قال البيضاويُّ: أي: مسرفين مبادِرين كبرهم، أو لإسرافكم ومبادرتِكُم كبرهُم، انتهى.
          فـ(({إِسْرَافًا وَبِدَارًا})) حالان أو مفعولان لأجلهِ، وقال ابنُ الملقِّن: {إِسْرَافًا} مجاوزة الحدِّ، فإن فرَّط قيل: أسرف إسرافاً، وإن قصَّر قيل: سرف يسرف، وفي ((المصباح)): أسرف إسرافاً: جاوز القصدَ، والسَّرَف بفتحتَين اسمٌ منه، وسَرِفَ سَرَفاً من باب تَعِب: جهل أو عقل فهو سرفٌ.
          ({وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ}) أي: فلْيمتنع من أكل أموال اليتامى مُطلقاً ({وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}) أي: بقدر حاجتِهِ وأجرة سعيهِ، ولفظ الاستعفاِف والأكلِ بالمعروفِ مُشعِرٌ بأنَّ الوليَّ له حقٌّ في مال الصبيِّ، وروى أبو داود عن ابن عبَّاسٍ: أنَّ رجلاً قال للنبيِّ: إنَّ في حجري يتيماً، أفآكل مِن ماله؟ قال: ((بالمعروفِ غيرَ متأثِّلٍ مالاً ولا واقٍ مالكَ بماله))، كذا في البيضاويِّ، وروى أحمدُ بسندِهِ عن عَمرو بن شعيب عن أبيهِ عن جدِّه: أنَّ رجلاً سأل رسولَ الله صلعم فقال: ليس لي مالٌ، ولي يتيمٌ؟ فقال: ((كُلْ مِن مال يتيمِكَ غير مُسرفٍ ولا مُبذِّرٍ ولا مُتأثِّلٍ مالاً، ومِن غيرِ أن تقيَ مالكَ أو قال: تفدِي))، وقال ابن بطَّالٍ: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} الأمر فيه للنَّدب، وإن أكلَ بالمعروفِ لم يكن عليه حرجٌ، وقال ربيعةُ ويحيى بن سعيدٍ: الأكل هنا لليتيم لا للوليِّ، إن كان فقيراً أنفق عليه بقدر فقره.
          وقال القرطبيُّ: إن كان غنيًّا فأجره على الله، وإن كان فقيراً فليأكلْ بالمعروف ويُنزل نفسه منزلة الأجير فيما لا بدَّ له منه، وقال عمرُ بن الخطَّاب ☺: نزَّلْتُ نفسي من مالِ الله بمنزلة وليِّ اليتيم، فإن استغنَيتُ استعفَفتُ، وإن افتقرتُ أكلتُ بالمعروفِ، وإذا أيسرتُ قضيتُ، وقال الفقهاء: له أن يأكل أقلَّ الأمرين من أُجرة مثله أو قدر حاجتِهِ، وفي ردِّ بدله قولان أصحُّهما لا، وقيل: نعم، فهو قرضٌ عليه، وهو مرويٌّ عن عمر وابن عبَّاس، وهو مذهبُ عطاءٍ وجماعات.
          ({فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}) أي: بعد بلوغهم ({فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ}) أي: بأنَّهم قبضوها، فإنَّه أنفى للتُّهمة وأبعد عن الخصومة ووجوب الضَّمان، وظاهره يدلُّ على أنَّ القيِّم لا يُصدَّق في دعواه الدفع إلَّا ببيِّنة، وهو المختار عندنا وعند مالكٍ خلافاً لأبي حنيفة، قاله البيضاويُّ، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ الإشهاد للنَّدبِ خوف الإنكار، وقيل: إنَّه للوجوبِ، وإنَّه منسوخٌ بقولهِ تعالى: ({وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً}) أي: محاسِباً، فيكفي عن الشُّهود.
          ({لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ}) أي: حظٌّ من الإرث ({مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ}) أي: الأب والأمُّ وإن علَوا ({وَالأَقْرَبُونَ}) أي: الوارثون بالقرابة ({وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ}) قال ابن الملقِّن: نزلت بسبب أنَّ الجاهلية كانوا يُورِّثون الذُّكور دون الإناث ويقولون: لا يرث إلَّا من طعن بالرمح، وقال البيضاويُّ: رُوِي أنَّ أوس بن الصَّامت الأنصاريَّ خلَّف زوجته أمَّ كُحَّة وثلاث بناتٍ، فزوى ابنا عمِّه سويد وعرفطة _أو قتادة وعرفجة_ ميراثه عنهن على سُنَّة الجاهليَّة، فإنَّهم ما كانوا يُورِّثُون النساء والأطفالَ، ويقولون: إنَّما يرثُ من يحارب ويذبُّ عن الحوزة، فجاءت أمُّ كُحَّة إلى رسول الله صلعم في مسجد الفضيخِ، فشكتْ إليه فقال: ارجعِي حتى أنظر / ما يحدثُ اللهُ، فنزلت، فبعثَ إليهما: لا تُفرِّقا من مال أوسٍ شيئاً، فإنَّ الله قد جعلَ لهنَّ نصيباً، ولم يبيِّن، فنزلت: {يُوصِيكُمُ اللهُ} أي: آيات الإرثِ، فأعطى أمَّ كحة الثُّمُن والبنات الثُّلثين، والباقِي ابني العمِّ، انتهى.
          قال الخفاجيُّ: هذا خطأٌ، تبع فيه الزَّمخشريَّ، فإنَّ أوس بنَ الصَّامت بن أصرم بقيَ إلى خلافةِ عثمان، ثمَّ قال نقلاً عن الحافظِ ابن حجرٍ: هذا الحديث رواه مقاتل في ((تفسيره)) وقال: إنَّ أوس بن مالك تُوفِّي يوم أحدٍ وترك امرأته أمَّ كحة وبنتين إلى آخر القصَّة، وقال في ((الإصابة)) في موضعٍ آخر: اختُلف في اسم الميِّت فقيل: أوس بن ثابت، وقيل: أوس بن مالكٍ، وقيل: ثابت بن قيسٍ، انتهى، وقيل: الَّذي في الكتب المعتبرة أوس بن ثابتٍ أخو حسَّان، لكن ردَّ بأنَّه لو كان هذا لكان ابن العمِّ لا يرث شيئاً مع الأخ، وأم كُحَّة بضمِّ الكاف وتشديد الحاء المهملة وهاء تأنيثٍ، وقيل: إنَّها أمُّ كُحْلَة بضمِّ الكاف وسكون الحاء المهملة وفتح اللَّام، انتهى ملخَّصاً.
          وقوله: ({مِمَّا قَلَّ مِنْهُ}) أي: من المال ({أَوْ كَثُرَ}) قال البيضاويُّ: بدل {مِمَّا تَرَكَ} بإعادة العامل ({نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء:6-7]) أي: مقدَّراً، قال البيضاويُّ: فيه دليلٌ على أنَّ الوارث لو أعرض عن نصيبِه لم يسقط حقُّه ({حَسِيبًا} يَعْنِي: كَافِيًا) هذا تفسيرٌ من البخاريِّ، وسقط لأبي ذرٍّ لفظ: <يعني>، وقيل: {حَسِيباً}: محاسِباً ومجازِياً، وقيل: مقتدِراً، وقيل: عالماً، وقيل: شهيداً، وقيل: حافظاً لأعمالِ خلقهِ ومجازِياً عليها.
          تنبيهٌ: {نَصِيبًا} نصب على أنَّه مصدرٌ مؤكِّدٌ، أو حالٌ، أو نصبَ على الاختصَاصِ، وأمَّا {حَسِيبًا} في {وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا} [النساء:6]، فهو إمَّا حالٌ، وإمَّا تمييزٌ، قاله العينيُّ، والحاليَّة أظهرُ.
          (بَابُ وَمَا لِلْوَصِيِّ) كذا للأكثرين، وسقطَ: <باب> ولفظ: <ما> لأبي ذرٍّ، فصار ((وللوصيِّ))، وسقطتْ الواو فقط في بعض النُّسخ، فـ((باب)) غير منوَّنٍ، ويجوزُ تنوينهُ، وعلى رواية الأكثرين فـ((باب)) منوَّنٌ و((ما)) موصُولةٌ أو نكرةٌ موصُوفةٌ (أَنْ يَعْمَلَ) أي: الوصيُّ في مال اليتيمِ (وَمَا يَأْكُلُ مِنْهُ) عطفٌ على ((ما)) على إثباتها (بِقَدْرِ عُمَالَتِهِ) بضمِّ العين المهملة وتخفيف الميم، وهي سعيُه وأجرةُ مثلهِ.
          قال في ((الفتح)): هذا من مسائلِ الخلاف، فقيل: للوصيِّ أن يأخذَ من مال اليتيمِ قدرَ عمالتِهِ، وهو قول عائشةَ وعكرمةَ والحسنِ وغيرهم، وقيل: لا يأكل منه إلَّا عند الحاجةِ، ومذهب الشَّافعيِّ كما مرَّ يأخذ أقلَّ الأمرَين من أجرتهِ ونفقتِهِ، ولا يجب ردُّه على الصَّحيحِ، وعن ابن عبَّاس إن كان ذهباً أو فضَّةً لم يأخذ منه شيئاً إلَّا على سبيل القرضِ، فيجب ردُّه إذا أيسر، وإن كانَ غيرهما جاز بقدر الحاجةِ، ولا يلزم ردُّ قيمته، وحكى ابن التِّين عن ربيعة أنَّ المرادَ بالفقيرِ والغنيِّ في الآية: اليتيم؛ أي: إن كان غنيًّا فلا يُسرف الوليُّ في الإنفاقِ عليه، وإن كانَ فقيراً فليُطعمْهُ من مالهِ بالمعروفِ، ولا دَلالةِ فيها على جوازِ الأكلِ من مالِ اليتيمِ أصلاً، والمشهورُ ما تقدَّم، انتهى ملخَّصاً.