الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول الله تعالى: {وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا}

          ░21▒ (بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى) ولأبي ذرٍّ: <╡> بدل: ((تعالى))، وهذه الآياتُ في أوائل سورةِ النِّساء مذكورةٌ في أكثر الأصُول إلى قوله: {مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3]، ووقعَ لأبي ذرٍّ بعد قولِهِ: {إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء:2]: <إلى قوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ}>، وقال العينيُّ: هذا الباب والثَّلاثة بعده مترجمةٌ بآياتٍ من القرآن، أدخلَها بين أبواب الوقف المذكورة في الوصَايا، وليس لذكرها فيها وجهٌ كما ينبغِي، ولكن من حيث إنَّ الأمرَ في الأوقافِ والنَّظر فيها جُعِل إلى من يليهَا كما جُعِل أموال اليتامَى إلى مَن يلي أمرهُم وينظرهم، فالنَّظر في الأوقافِ كالنَّظر لليتامَى في رعايةِ المصَالح والمباشرةِ بالأماناتِ وإباحةِ تناولِ الجعَالة للنُّظَّار بالمعروف كإباحتِها للأوصياء بالمَعروف، قال: وهذا ممَّا فُتِح لي من الفيض الإلهيِّ زادنا الله بصيرةً في الأمور الدِّينيَّة والدُّنيويَّة، انتهى فاعرفه.
          ({وَآتُوا}) بمدِّ الهمزة؛ أي: أعطوا ({الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ}) أي: ادفعوا ({إِلَيْهِمْ}) إذا بلغوا كاملِين ولا تنقصُوهم منها شيئاً ({وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ}) أي: الحرام عليكم مِن أموالِهم ({بِالطَّيِّبِ}) أي: بالحلال من أموالكُم، قال سعيدُ بن جُبيرٍ والزُّهري: ولا تُعطوا هزيلاً وتأخذوا سميناً، وقال السُّديُّ: كان أحدُهم يأخذ الشَّاة السَّمينة من غنم اليتيمِ ويجعلُ مكانها الشَّاة المهزولة، ويقول: شاةٌ بشاةٍ، ويأخذ الدَّراهم الجيِّدة ويجعل مكانها الزِّيف ويقول: درهمٌ بدرهمٍ.
          ({وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ}) أي: اليتامَى ({إِلَى أَمْوَالِكُمْ}) أي: معها، والأحسنُ أن تكونَ على أصلِها؛ أي: ولا تضمُّوا أموالهم إلى أموالكُم، وهذا معنى قول سعيد بن جُبَير ومجاهدٍ والسُّديِّ وغيرهم؛ أي: ولا تخلطوها فتأكُلوها جميعاً ({إِنَّه}) أي: أكل أموالهم إلى أموالكم، ويحتملُ أن يرجعَ أيضاً إلى ما تقدَّم، وأفرده لتأويله بالمذكور فتأمَّل ({كَانَ حُوباً}) بضمِّ الحاء المهملة: إثماً ({كَبِيراً}) أي: عظيماً، ومثله الحَوب بالفتح، وفي ابن الملقِّن: قال الفرَّاء: الحُوب _بالضمِّ_ لأهل الحجاز، والحَوب _أي: بالفتح_ لتميمٍ، وقال ابن عزيزٍ: هو بالضَّمِّ الاسم، وبالفتح المصدر، انتهى. وقُرِئ بالفتح كما في البيضاويِّ.
          ({وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تُقْسِطُوا}) بضمِّ التَّاء؛ أي: أن لا تعدلوا ({فِي الْيَتَامَى}) جمع يتيمةٍ؛ أي: في أمر اليتامَى وشأنهنَّ، كان المسلمون يسألون عن أمرِ اليتامَى لِما شدَّد في ذلك فنزلَتْ الآية، وقال المبرِّد: التَّقدير: وإن خفتُم أن لا تُقسِطوا في نكاحِ اليتامَى، فحذف المضاف وأُقِيم المضافُ إليه مقامَهُ، والمعنى: وإن خِفْتُم أن لا تعدلوا في اليتامَى فكذلك ينبغِي أن تخافُوا أن لا تعدِلوا بين الأربَعِ، فانكِحُوا واحدةً، وهذا يُناسِبُ الآيةَ الَّتي بعد هذه، والأَولى أن يقالَ ما قيل: كانت قريشٌ في الجاهليَّة تُكثِر التزوُّج بلا حصرٍ، فإذا كثُرَت عليهم المؤن وقلَّ ما بأيديهِم أكلُوا ما عندَهُم مِن أموالِ اليتَامَى، فقيل لهم: إن خفتُم أن لا تُقسِطُوا في اليتَامَى فانكحُوا إلى الأربعِ.
          فقوله: ({فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}) جواب الشَّرط، والمراد بالطَّيِّب من غير اليتامى، وفيه حثٌّ على نكاح الطيِّبة من النِّساء؛ ففي الحديث: ((تخيَّروا لنُطفِكم))، وبعد هذه الآية: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء:3] الآية / .