نجاح القاري لصحيح البخاري

معلق ابن طهمان: رفعت إلى السدرة فإذا أربعة أنهار

          5610- (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ) بفتح الطاء المهملة وسكون الهاء الهروي، وصله أبو عَوانة والإسماعيلي والطَّبراني في «الصغير» من طريقه. فقال الإسماعيليُّ: أخبرنا أبو حاتم مكِّي بن عبدان، وأبو عمران موسى بن العبَّاس، قالا: أخبرنا أحمدُ بن يوسف السَّلمي: حدَّثنا محمدُ بن عقيل: حدَّثنا حفص بن عبد الله: حدَّثنا ابنُ طهمان، به. ورواه أبو نُعيم أيضًا: حدَّثنا أبو بكر الآجري: حدَّثنا عبد الله بن عبَّاس الطَّيالسي: حدَّثنا محمد بن عقيل: حدَّثنا حفص بن عبد الله: حدَّثنا ابن طهمان. وقال الحافظُ العسقلانيُّ: ووقع لنا بعلو في «غرائب شعبة» لابن منده. وقال الطَّبراني: لم يروه عن شعبة إلَّا إبراهيم بن طهمان تفرَّد به حفص بن عبد الله النِّيسابوري عنه.
          (عَنْ شُعْبَةَ) أي: ابن الحجَّاج (عَنْ قَتَادَةَ) أي: ابن دِعامة السَّدوسي (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) ☺، أنَّه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم : رُفِعْتُ إِلَى السِّدْرَةِ) في رواية الأكثرين: بضم الراء وكسر الفاء وفتح العين المهملة وسكون المثناة الفوقية على البناء للمفعول، و«إليَّ» بتشديد الياء، والسِّدرة: مرفوع بقوله: ((رُفِعَتْ)). وفي رواية المستملي: <دفعْتُ> بدال بدل الراء وسكون العين وضم المثناة، و«إلى» بالسُّكون على أنَّه حرف جرٍّ، والمراد: سِدرة المنتهى، وسُمِّيت بذلك؛ لأنَّ علم الملائكة ينتهي إليها، ولم يجاوزها / أحدٌ إلَّا سيدنا رسول الله صلعم وشرَّف وكرَّم.
          وعن ابن مسعود ☺: سُمِّيت بذلك؛ لكونها ينتهي إليها ما يهبط من فوقها، وما يصعدُ من تحتها من أمر الله تعالى، ومعنى الرَّفع: تقريب الشَّيء، وكأنَّه أراد أنَّ سِدرة المنتهى استُبينت له بنعوتها كل الاستبانة حتَّى اطَّلع عليها كلَّ الاطلاع بمثابة الشَّيء المقرَّب إليه.
          (فَإِذَا) كلمة مفاجأة (أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهَرَانِ ظَاهِرَانِ وَنَهَرَانِ بَاطِنَانِ، فَأَمَّا الظَّاهِرَانِ: النِّيلُ) هو: نهر مصر (وَالْفُرَاتُ) بضم الفاء وبالمثناة الفوقية المجرورة(1) . قال الكرمانيُّ: هو نهرُ بغداد. وتعقَّبه العينيُّ: بأنَّه ليس كذلك، بل الفراتُ نهر الكوفة، قاله الجوهريُّ. وأصله من أطراف أرمينيَّة يأتي ويمرُّ (2) بأرض ملطية على مسيرة ميلين منها، ثمَّ على سميساط، وقلعة الرُّوم والبيرة وجسر مَنْبج وبالس وقلعة جَعْبر والرَّقَّة والرَّحبة، وقرقيساء، وعانة والحديثة وهيت والأنبار، ثمَّ يمر بالطُّفوف، ثمَّ بالحلَّة، ثمَّ بالكوفة، وينتهي إلى البطائح، ويصب في البحر الشَّرقي.
          وأمَّا نهر بغداد: فهو دجلة يخرج من أصل جبل بقرب آمد، ثمَّ يمتدُّ إلى ميافارقين، ثمَّ إلى حصن كيفا، ثمَّ إلى جزيرة ابن عُمر، ثمَّ إلى الموصل، وينصب فيه الزَّابَان، ومنهما يعظم، ثمَّ إلى بغداد، ثمَّ إلى واسط، ثمَّ إلى البصرة، ثمَّ ينصب في بحر فارس.
          (وَأَمَّا الْبَاطِنَانِ: فَنَهَرَانِ فِي الْجَنَّةِ) وهما فيما قاله مقاتل: السَّلسبيل والكوثر، والظَّاهر أنَّ النِّيل والفرات يخرجان من أصلها، ثمَّ يسيران حيثُ أرادَ الله، ثمَّ يخرجان من الأرض ويسيران فيها، وهذا لا يمنعه شرعٌ ولا عقلٌ، وهو ظاهرُ الحديث، فوجبَ المصير إليه، كذا ذكر الإمام القسطلاني.
          (فَأُتِيتُ) بفاء وهمزة مضمومة على البناء للمفعول، وفي رواية أبي الوقت: <وأتيت> بواو بدل الفاء (بِثَلاَثَةِ أَقْدَاحٍ) ومفهوم العدد لا اعتبار له، فلا منافاة بين قوله: «ثلاثة أقداح»، وقوله في السَّابق: ((قدحان)) [خ¦4709]. وأيضًا فالقدحان قبل رفعهِ إلى السِّدرة، وهي في بيت المقدس، / والثَّلاثة بعده، وهو عند السِّدرة.
          (قَدَحٌ فِيهِ لَبَنٌ) يجوز في «قدح» الرَّفع والجر، أمَّا الرَّفع فعلى أنَّه خبر مبتدأ محذوفٍ تقديره أحدها قدح فيه لبن، وأمَّا الجرُّ فعلى أنَّه بيان لقوله: «بثلاثة أقداح»، وكذلك الكلام في قوله: (وَقَدَحٌ فِيهِ عَسَلٌ، وَقَدَحٌ فِيهِ خَمْرٌ، فَأَخَذْتُ الَّذِي فِيهِ اللَّبَنُ فَشَرِبْتُ، فَقِيلَ لِي: أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ) أي: علامة الإسلام والاستقامة (أَنْتَ) تأكيد لضمير «أصبت» (وَأُمَّتُكَ) أي: ولتصبْ أمَّتك، وإعرابه كإعراب قوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35] تقديره: ولتسكنْ زوجك.
          قال ابن المُنيِّر: ذكر السِّر في عدوله عن الخمر، ولم يذكره في عدولهِ عن العسل، وظاهرُه تفضيل اللَّبن على العسل، ولعلَّ السِّر في ذلك كون اللَّبن أنفعُ، وبه يُنْشَزُ العظم، ويَنبتُ اللَّحم، وهو بمجرَّده قوت، وليس من الطَّيِّبات التي تدخلُ في السَّرف بوجه، وهو أقربُ إلى الزُّهد.
          ولا منافاة بينه وبين الورع بوجه، والعسل وإن كان حلالًا طيِّبًا، لكنَّه من المستلذَّات التي قد يخشى على صاحبها أن يندرجَ في قوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف:20]، وأمَّا اللَّبن فلا شبهة فيه. وأمَّا ما وردَ في حبه صلعم للعسلِ؛ فعلى وجه الاقتصاد في تناوله، لا أنَّه جعلَه ديدنًا، والنَّبي صلعم مُشرِّع يفعلُ ما يجوز للبيان.
          وقال الحافظُ العسقلانيُّ: ويحتمل أن يكون السِّر فيه: ما وقعَ في بعض طُرق الإسراء: أنَّه صلعم عطشَ فأتي بالأقداح، فآثر اللَّبن دون غيره؛ لما فيه من حصول حاجته دون الخمر والعسل، فهذا هو السَّبب الأصلي في إيثار اللَّبن، وصادف مع ذلك رجحانه عليهما من عدَّة جهات. وفي رواية: قال جبريل ◙ في الخمر: ((غوت أمَّتك)) [خ¦3394]، فيُؤخذ منه: أنَّ الخمرَ ينشأ عنها الغي، ولا يختصُّ ذلك بقدر معيَّن منها، ويُؤخذ من عرض الآنية عليه صلعم إرادة إظهار التَّيسير عليه، وإشارة إلى تفويضِ الأمور إليه، والله تعالى أعلم. /
          (وَقَالَ هِشَامٌ) هو: الدَّستوائي (وَسَعِيدٌ) هو: ابنُ أبي عَروبة (وَهَمَّامٌ) بتشديد الميم الأولى، هو ابن يحيى كلهم (عَنْ قَتَادَةَ) أي: ابن دعامة (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم : فِي الأَنْهَارِ نَحْوَهُ) أي: نحو المذكور في الحديث السَّابق يريد: أنَّهم توافقوا في المتن على ذكر الأنهار، وزادوا قصَّة الإسراء بطولها، وليست في رواية شعبة هذه، ووقع في روايتهم هنا بعد قوله: سدرة المنتهى: ((فإذا نبقها كأنَّه قلالُ هجر، وورقها كأنَّه آذان الفيلة في أصلها أربعة أنهار)) واقتصر سعيد على: ((فإذا أربعة أنهار)).
          (وَلَمْ يَذْكُرُوا ثَلاَثَةَ أَقْدَاحٍ) أي: لم يذكر هؤلاء في روايتهم ثلاثة أقداح، وفي رواية الكُشميهني: <ولم يذكر ثلاثة أقداح> بالإفراد، وظاهر هذا: أنَّه لم يقع ذكر الأقداح في رواية الثَّلاثة. فإن قيل: قد ذكر ثلاثة أقداح في رواية هدبة عن همام في «بدء الخلق»: ((ثمَّ أُتيت بإناء من خمرٍ وإناءٍ من لبنٍ وإناء من عسلٍ)) [خ¦3887]، فالجواب أنَّه يحتمل أن يكون المراد بالنَّفي ذكر لفظ الأقداح بخصوصها، ويحتمل أن تكون رواية الكُشميهني هي الصَّحيحة، ويكون فاعل «لم يذكر» هشام الدَّستوائي، فإنَّه تقدَّم في «بدء الخلق» من طريق يزيد بن زُريع، عن سعيد وهشام جميعًا عن قتادة بطوله، وليس له ذكر الآنية أصلًا [خ¦3207].
          لكن أخرج مسلم من رواية عبد الأعلى عن هشام، وفيه: ((ثمَّ أتيت بإناءين أحدهما خمر، والآخر لبنٌ، فعُرِضا عليَّ)) ثمَّ أخرج من طريق معاذ بن هشام عن أبيه نحوه، ولم يسق لفظه، وقد ساقه النَّسائي من رواية يحيى القطَّان عن هشام، وليس فيه ذكر الآنية أصلًا، فوَضَحَ من هذا: أنَّ رواية هَمَّام فيها ذكر ثلاثة، وإن كان لم يصرح بلفظ العدد، ولا وصف الظَّرف، ورواية سعيد فيها ذكر إناء فقط، ورواية هشام ليس فيها ذكر شيءٍ أصلًا.
          وقد رجَّح الإسماعيلي رواية «إناءين»، فقال عقب حديث شعبة هنا: هذا حديث شعبة، وحديث الزُّهري عن سعيد بن المسيِّب عن أبي هريرة ☺ المذكور أوَّل الباب / أصح إسنادًا من هذا، وأولى من هذا، كذا قال مع أنَّه أخرج حديث همَّام عن جماعة عن هُدْبة، عنه، كما أخرجه البُخاري سواء، والزِّيادة من الحافظ مقبولةٌ، وقد تُوبع، وذِكْرُ إناءين لا ينفي الثَّالث مع أنَّه قد تقدَّم في الكلام على حديث الإسراء: أنَّ عرض الآنية على النَّبي صلعم وقع مرَّتين قبل المعراج، وهو ببيت المقدس، وبعده وهو عند سدرةِ المنتهى [خ¦3887].


[1] كذا وصوابه المضمومة.
[2] في الأصل: (على...) وبعدها فراغ بمقدار كلمة، وبدونهما الكلام تام، وهو الذي في الإرشاد.