نجاح القاري لصحيح البخاري

وقول الله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس}

          ░1▒ (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطف على «الأشربة»، ويُروى: بالرَّفع أيضًا، فالظَّاهر على هذا أنَّه عطف على المضاف ({إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90]) الآية بتمامها مذكورة في رواية الأكثرين، وفي رواية أبي ذرٍّ: <إلى قوله: {رِجْسٌ} الآية>. وذكر البُخاري هذه الآية تمهيدًا لما يذكره من الأحاديث التي وردتْ بتحريم الخمر، وذلك لأنَّ الأشربة منها ما يحلُّ، ومنها ما يحرمُ، فينظر في حكم كلٍّ منهما، وبدأَ بتبيين المحرم منها؛ لقلَّته بالنِّسبة إلى الحلال، فإذا عرف ما يحرم كان ما عداه حلالًا.
          وقد بيَّن في تفسير سورة المائدة الوقت الذي نزلت فيه الآية المذكورة، وأنَّه كان عام الفتح قبل الفتح، وجزم الدِّمياطي في «سيرته» بأنَّ تحريم الخمر كان سنة الحديبية، والحديبية كانت سنة ستٍّ. وذكر ابن إسحاق: أنَّه كان في وقعة بني النَّضير، وهي بعد أُحد، وذلك سنة أربع على الرَّاجح. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ أنسًا ☺ كما سيأتي في الباب الذي بعده: كان السَّاقي يوم حُرِّمت [خ¦5580]، وأنَّه لما سمع المنادي بتحريمها بادرَ فأراقها، فلو كان ذلك سنة أربع؛ لكان أنس يصغِّر عن ذلك.
          وسبب نزول الآية: ما قال الإمام أحمد: حدَّثنا خلف بن الوليد: حدَّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، عن عُمر بن الخطَّاب ☺: أنَّه لمَّا نزل تحريم الخمر، قال: اللَّهمَّ بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت هذه الآية التي في البقرة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة:219]، فدعى عمر فقُرئت عليه، فقال: ((اللَّهمَّ بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا))، فنزلت الآية التي في النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء:43]، فكان منادي رسول الله صلعم إذا قام إلى الصَّلاة ينادي: ((أن لا يقرب الصَّلاة سكران)) فدعى عمر فقُرئت عليه فقال: اللَّهمَّ بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت التي في المائدة، فدعي عمر فقُرئت عليه، / فلمَّا بلغ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91] قال عمر: انتهينا انتهينا.
          وهكذا رواه أبو داود والتِّرمذي والنَّسائي من طرق عن إسرائيل عن أبي إسحاق، وصحَّح هذا الحديث التِّرمذي وعلي ابن المديني. وأخرج النَّسائي والبيهقي بسندٍ صحيحٍ عن ابن عبَّاس ☻ : إنَّما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من الأنصار شربوا، فلمَّا ثملَ القوم عبثَ بعضُهم ببعض، فلمَّا أن أصبحوا جعل الرَّجل يرى في وجههِ ورأسه الأثر، فيقول: صنعَ هذا أخي فلان، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن، فيقول: والله لو كان بي رحيمًا ما صنعَ بي هذا حتَّى وقعت في قلوبهم الضَّغائن، فأنزلَ الله ╡ هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة:90] إلى: {مُنْتَهُونَ} [المائدة:91] قال: فقال ناس من المتكلِّفين: هي رجسٌ، وهي في بطنِ فلان، وقد قتل يوم أُحد، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} إلى: {الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:93].
          ووقعت هذه الزِّيادة في حديث أنس في البُخاري كما مضى في «المائدة» [خ¦4620]، ووقعت أيضًا في حديث البراء عند التِّرمذي وصحَّحه، ومن حديث ابن عبَّاس ☻ عند أحمد: لما حرمت الخمر، قال ناسٌ: يا رسول الله أصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها، وسندُه صحيحٌ، وعند البزَّار من حديث جابر ☺: أنَّ الذي سأل عن ذلك اليهود، وفي حديث أبي هُريرة ☺ الذي مضى في المائدة نحو حديث ابن عبَّاس ☻ الذي عند النَّسائي والبيهقي، وزاد في آخره: قال النَّبي صلعم : ((لو حرَّم عليهم لتركوهُ كما تركتم))، قال أبو بكر الرَّازي في «أحكام القرآن»: يستفادُ تحريم الخمر من هذه الآية، من تسميتها رجسًا، وقد سُمِّي به ما أجمعَ على تحريمه، وهو لحمُ الخنزير.
          ومن قوله: ((من عمل الشَّيطان))؛ لأنَّ ما كان من عمل الشَّيطان حرم تناوله؛ لأنَّه لا يأتي منه إلَّا الشَّر البحت، ومن الأمر بالاجتنابِ وهو للوجوب وما وجبَ اجتنابه حرمَ تناوله، ومن الفلاح المرتب / على الاجتناب، ومن كون الشُّرب سببًا للعداوةِ والبغضاء بين المؤمنين، وتعاطِي ما يوقع ذلك حرام، ومن كونها تصدُّ عن ذكر الله، وعن الصَّلاة.
          ومن ختام الآية بقوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91]، فإنَّه استفهام معناه الرَّدع والزَّجر، ولهذا قال عُمر ☺ لما سمعها: انتهينا انتهينا، وسبقه إلى ذلك الطَّبري.
          وأخرج ابن مَرْدويه من طريق طَلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس ☻ قال: لمَّا نزل تحريم الخمر مشى أصحاب رسول الله صلعم بعضهم إلى بعض، فقالوا: حرمت الخمرُ وجعلت عدلًا للشِّرك. قيل: يشيرُ إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ} الآية [المائدة:90]، فإنَّ الأنصاب والأزلام من عمل المشركين بتزيين الشَّيطان فنسبَ العمل إليه.
          وقال أبو اللَّيث السَّمرقندي: المعنى: أنَّه لما نزل فيها: أنَّها رجسٌ من عمل الشَّيطان، وأمر باجتنابها عادلت قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج:30]. وذكر أبو جعفر النَّحَّاس: أنَّ بعضهم استدلَّ لتحريم الخمر بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:33]. وقد قال تعالى في الخمر والميسر: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219]، فلمَّا أخبر أنَّ في الخمر إثمًا كبيرًا، ثمَّ صرَّح بتحريم الإثم ثبتَ تحريم الخمر بذلك.
          قال: وقول من قال: إنَّ الخمر يسمَّى الإثم، لم نجد له أصلًا في الحديث، ولا في اللُّغة.
          ولا دَلالة أيضًا في قول الشَّاعر:
شَرِبْتُ الإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي                     كَذَاكَ الإِثْمُ يَذْهَبُ بِالعُقُولِ
          فإنَّه أطلق الإثم على الخمر مجازًا بمعنى أنَّه ينشأ عنها الإثم، ثمَّ إنَّ اللُّغة الفصحى تأنيث الخمر. وقال أبو حنيفة: هي مؤنثة.
          وأثبت أبو حاتمٍ السَّجستاني وابن قتيبة وغيرهما: جواز التَّذكير، ويقال لها: الخمرة أثبته فيها جماعة من أهل اللُّغة منهم الجوهري، وقال ابنُ مالك في «المثلث»: الخمرة: هي الخمرُ في اللُّغة، وأوَّل الآية قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ} [المائدة:90] وهو المعتصر من العنب إذا غلا وقذف بالزَّبد من غيرِ ماء، واختلف أهل اللُّغة في اشتقاق / اسم الخمر على ألفاظ قريبة المعاني، فقيل: سمِّيت خمرًا؛ لأنَّها تخمِّر العقول؛ أي: تغطيها وتسترها، ومنه خمار المرأة؛ لأنَّه يغطي رأسها. وقيل: مشتقَّةٌ من المخامرة وهي المخالطةُ؛ لأنَّها تخالطُ العقل. وقيل: سمِّيت خمرًا؛ لأنَّها تُرِكت حتَّى أدركت، يقال: خمر العجين (1) ؛ أي: بلغ إدراكه، وقيل: سُمِّيت خمرًا لتغطيتها الدِّماغ، ولها أسماء كثيرة، وذكر صاحب «التلويح»: ما يناهز تسعين اسمًا، وذكر ابنُ المعتز: مائة وعشرين اسمًا، وذكر ابنُ دحية: مائة وتسعين اسمًا.
          {وَالْمَيْسِرُ} وهي: القمارُ، وعن عطاء ومجاهد وطاوس: كلُّ شيءٍ من القمار فهو الميسر حتَّى لعب الصِّبيان بالجوز. وقال راشدُ بن سعيد وحمزة بن حبيب: حتَّى الكعاب والجوز والبيض التي يلعب بها الصِّبيان. وقال الزَّمخشري: الميسر: القمار مصدر من يسر كالموعد، والمرجع من فعلهما، يقال: يسرته: إذا قمرته، واشتقاقه من اليسر؛ لأنَّه أخذ مال الغير بيسر وسهولة من غير كدٍّ، ولا تعبٍ، أو من اليسار؛ لأنَّه يسلب يساره.
          {وَالأَنْصَابُ} جمع: نُصب _بضم الصاد وسكونها_، وهو حجرٌ كانوا ينصبونه في الجاهليَّة يتخذونه صنمًا، فيعبدونه، وقيل: كانوا ينصبونه ويذبحون عليه فيخمَّر بالدَّم.
          {وَالأَزْلاَمُ} جمع: زَلم _بفتح الزاي_، وهي: عبارةٌ عن القِدَاح كانوا إذا أرادوا أمرًا عمدوا إلى قداحٍ ثلاثةٍ مكتوبٌ على أحدها: أمرني ربِّي، وعلى الآخر: نهاني ربِّي، والثَّالث: غفل، فإن خرج الأمر مضى لحاجته، وإن خرج النَّهي أمسك، وإن خرجَ الغفل أعاد الاستقسام.
          {رِجْسٌ} خبرٌ عن المذكورات؛ أي: قذرٌ تعاف عنه العقول، ويستشكلُ من حيثُ إنَّه أخبر عن جمع بمفرد، وأجابَ الزَّمخشري: بأنَّه على حذف مضاف؛ أي: إنَّما شأن الخمر...إلى آخره. قيل: ولا حاجة إلى هذا، بل الحكم على هذه الأربعة أنفسها بأنَّها رجسٌ أبلغ من هذا المضاف، كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28]. / وقال العينيُّ: ونعت الخمر بأنَّها رجس؛ أي: نجسةٌ وقذرةٌ، ولا عين توصف بذلك، فالمراد أنَّها محرَّمة كالميتة والدَّم، وقد ورد الرِّجس في كتاب الله ╡ بمعنى الكفر، قال تعالى: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة:125] يعني: الكفر.
          ولا يصحُّ أن يكون الرِّجس المذكور في آية الخمر يرادُ به الكفر؛ لأنَّ الأعيان لا تصحُّ أن تكون إيمانًا ولا كفرًا، ولأنَّ الخمر لو كانت كفرًا؛ لوجب أن يكون العصير إيمانًا؛ لأنَّ الكفر والإيمان طريقهما الاعتقاد والقول، وإنَّما أطلق عليها الرِّجس؛ لكونها أقوى في التَّحريم، وأوكد عند العُلماء.
          {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} في موضع رفع صفة «لرجس»، ولمَّا كان يحمل على فعل ما ذكر كأنَّه يعمله، والضَّمير في قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ} للرِّجس، أو إلى عمل الشَّيطان، أو إلى المذكور، أو إلى المضاف المحذوف، كأنَّه قيل: إنَّما تعاطي الخمر والميسر...إلى آخره.
          {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أكَّد تحريمَ الخمر والميسر...إلى آخره، وقد صدرت الجملة بـ((إنَّما))، وقرنت المذكورات بعبادة الأصنام، ومنه الحديث: ((شارب الخمرِ كعابد الوثن)).


[1] في هامش الأصل: في نسخة: اختمر العجين.