نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الخمر من العنب

          ░2▒ (بابٌ الْخَمْرُ) وفي نسخة: <أنَّ الخمر> (مِنَ الْعِنَبِ) قوله: ((الخمر من العنب)) يحتمل وجهين من حيثُ الإعراب: أحدهما: أن يكون لفظ باب مضافًا إلى الخمر، فالتَّقدير: هذا باب بيان الخمر الكائنة من العنب، وهذا لا ينافي أن يكون خمرٌ من غير العنب. والآخر: أن يكون ((الخمر)) مرفوعًا بالابتداء، و((من العنب)) خبره، وهذا صورته صورةُ الحصر، وهو يتمشَّى على مذهبِ أبي حنيفة ☼ ، فإنَّ مذهبه: الخمر: هي ماءُ العنب إذا غلا واشتدَّ وقذفَ بالزَّبد، والخمرُ من غير العنب لا يسمَّى خمرًا حقيقة، وعلى مذهب غيره: لا يراد منه الحصر، وإن كانت صورته صورة الحصر، كما في قوله صلعم : ((الخمر من هاتين الشَّجرتين النَّخلة والعنب)) رواه مسلم من حديث أبي هُريرة ☺، فإنَّ ظاهره يقتضي أن ينحصرَ الخمر على هاتين الشَّجرتين؛ لأنَّ قوله: الخمر اسم جنسٍ فاستوعبَ بذلك جميع ما سُمِّي خمرًا، فانتفى بذلك أن يكون الخارج من غيرهما أن يسمَّى باسم الخمر مع أنَّه ورد في حديث ابن عُمر ☻ : ((نزلَ تحريمُ الخمر وهي من خمسة أشياء: العنب والتَّمر والحنطة والشَّعير والعسل)) [خ¦5581] على ما يجيءُ عن قريب، فإذا كان الأمر كذلك يأوَّل الحديث.
          وقد أوَّلوه بتأويلات:
          الأوَّل: أن يكون المراد من قوله: ((من هاتين الشَّجرتين)) إحداهما كما في قوله ╡: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130] والرُّسل من الإنس لا من الجنِّ، وقوله ╡: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22]، وإنَّما يخرج من أحدهما، فيكون المقصود من قوله: الخمر هي الكائنة من العنب، لا من النَّخلة، وكذلك الكلام في حديث ابن عُمر المذكور، فافهم.
          الثَّاني: أن يكون عنى به / الشَّجرتين جميعًا، ويكون ما خُمِّر من ثمرهما خمرًا.
          الثَّالث: أن يكون المراد كون الخمر من هاتين الشَّجرتين، وإن كانت مختلفة، ولكن المراد من العنب: هو الَّذي يفهم [منه] الخمر حقيقة، ولهذا يسمَّى خمرًا سواء كان قليلًا أو كثيرًا، أسكر أو لم يسكر، ويكون المراد من التَّمر ما يكون مسكرًا، فلا يكون غير المسكرِ منه داخلًا فيه، وكذا الكلام في كلِّ ما جاء من إطلاق الخمر على غير العنب.
          فإن قيل: كلُّ ما أسكرَ يُطلق عليه أنَّه خمرٌ، ألا ترى إلى حديث ابن عُمر ☻ عن النَّبي صلعم ، أنَّه قال: ((كلُّ مُسكرٍ خمر، وكلُّ مُسكر حرام)). فالجوابُ: أنَّ المعنى في هذا الخبر وفيما جاء مثله من الأخبار أنَّه يسمَّى خمرًا حالة وجود السُّكر دون غيرها، بخلاف ماء العنب المشتد، فإنَّه خمر سواء أسكر أو لم يسكر. والدَّليل عليه قوله صلعم : ((الخمرُ ما خامر العقل)) [خ¦5581] على ما يجيء عن قريب، فإنَّه إنَّما يسمَّى خمرًا عند مخامرةِ العقل، بخلاف ماء العنب المشتد هذا ما قرره العينيُّ.
          وقد تبجَّح به حيثُ قال: وهذا هو التَّحقيق في هذا المقام، فإنِّي ما رأيت أحدًا من الشُّرَّاح حرَّر هذا الموضع، بل أكثرهُم غضوا عنه أعينهم، غير أنِّي رأيت في شرح ابن بطَّال كذا: <باب الخمر من العنب وغيره>، فإن صحَّ هذا من البُخاري فلا يحتاجُ إلى كلام أصلًا، وإلَّا فالمخلصُ فيه ما ذكرناه، فما فتح لنا من الفيضِ الإلهي، فله الشُّكر والمنَّة. انتهى.
          وقال الحافظُ العسقلانيُّ: ولم أرَ لفظ: ((وغيره)) في شيءٍ من نسخِ «الصحيح»، ولا «المستخرجات»، ولا «الشروح» سواه. قال ابن المُنيِّر: غرض البُخاري: الرَّد على الكوفيِّين، إذ فرقوا بين ماء العنب وغيره، فلم يحرموا من غيره إلَّا القدر المسكر خاصَّة، وزعموا: أنَّ الخمر ماء العنب خاصَّة، لكن في استدلاله يقول ابن عُمر ☻ يعني الذي أورده في الباب: ((حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء)) [خ¦5579] على أنَّ الأنبذةَ التي كانت يومئذٍ تسمَّى خمرًا نظر، بل هو بأن يدل على أنَّ الخمر من العنب خاصَّة أجدر؛ لأنَّه قال: وما منها بالمدينة شيءٌ؛ يعني: الخمر، وقد كانت الأنبذة من غير العنب موجودة حينئذٍ بالمدينة، فدلَّ على أنَّ الأنبذة ليست خمرًا، إلَّا أن يقال: / إنَّ كلام ابن عُمر ☻ يتنزَّل على جواب قول قائل: ((لا خمر إلَّا من العنب)) فيقول له: لقد حرِّمت الخمر، وما بالمدينة من خمر العنب شيء، بل كان الموجود بها من الأشربة ما يصنع من البُسر والتَّمر ونحو ذلك، وفهم الصَّحابة من تحريمِ الخمر تحريم ذلك كله، ولولا ذلك ما بادروا إلى إراقتها. انتهى.
          وقال الحافظُ العسقلانيُّ: ويحتمل أن يكون مراد البُخاري بهذه التَّرجمة وما بعدها: أنَّ الخمر يطلق على ما يتَّخذ من عصير العنب، ويطلقُ على نبيذ البُسر والتَّمر، ويطلق على ما يُتَّخذ من العسل، فعقد لكلِّ واحد منها بابًا، ولم يُرِد حصر التَّسمية في العنب بدليل ما أورده بعده، ويحتمل أن يريد بالتَّرجمة الأولى الحقيقة، وبما عداها المجاز، والأوَّل أظهر من تصرفه.
          وحاصله: أنَّه أراد بيان الأشياء التي وردت فيها الأخبار على شرطه؛ لما يُتَّخذ منه الخمر، فبدأ بالعنب؛ لكونه المتَّفق عليه، ثمَّ أردفه بالبُسر والتَّمر، والحديث الذي أورده فيه عن أنس ☺ [خ¦5580] ظاهر في المراد جدًا، ثمَّ ثلث بالعسل [خ¦558قبل5] إشارة إلى أنَّ ذلك لا يختصُّ بالبُسر والتَّمر، ثمَّ أتى بترجمة عامَّة لذلك وغيره، وهي: ((الخمرُ ما خامر العقل)) [خ¦74/5-8315].
          وفيه: إشارةٌ إلى أنَّ الحديث الذي جاء عن أبي هُريرة ☺ مرفوعًا: ((الخمرُ من هاتين الشَّجرتين النَّخلة والعنبة)) ليس المراد به الحصر فيهما، والمجمع على تحريمهِ عصير العنب إذا اشتدَّ، فإنَّه يحرمُ تناوله قليله وكثيرهُ بالاتِّفاق. وما حكى ابنُ قتيبة عن قومٍ من مجان أهل الكلام: أنَّ النَّهي عنها للكراهة فهو قولٌ باطلٌ مهجور لا يلتفت إلى قائله، وحكى النَّحَّاس عن قوم: أنَّ الحرام ما أجمعوا عليه، وما اختلفوا فيه ليس بحرام، قال: وهذا عظيمٌ من القول يلزم منه القول بحلِّ كلِّ شيء اختلف في تحريمه، ولو كان مستند الخلاف واهيًا.
          ونقل الطَّحاوي في «اختلاف العُلماء» عن أبي حنيفة: الخمرُ حرامٌ قليلها وكثيرها، والسُّكر من غيرها حرام، وليس كتحريم الخمر والنَّبيذ المطبوخ لا بأس به من أيِّ شيء كان، وإنَّما يحرم منه القدح المسكر. /
          وعن أبي يوسف: لا بأس بالنَّقيع من كلِّ شيءٍ، وإنَّ غلا إلَّا الزَّبيب والتَّمر، قال: وكذا حكاه محمد عن أبي حنيفة، وعن محمد: ما أسكر كثيره فأحبُّ إليَّ أن لا أشربه ولا أحرمه.
          وقال الثَّوري: أكره نقيع التَّمر، ونقيع الزَّبيب إذا غلا، قال: ونقيعُ العسل لا بأس به، والله تعالى أعلم.