نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: الخمر من العسل وهو البتع

          ░4▒ (بابٌ الْخَمْرُ مِنَ الْعَسَلِ) الكلام فيه كالكلام في باب «الخمر من العنب» [خ¦74/2-8304] فتذكَّر (وَهْوَ الْبِتْعُ) بكسر الباء الموحدة وسكون المثناة الفوقية وبالعين المهملة، وهي لغة يمانية. قال القزَّاز: هو شيء يُتَّخذ من العسل صلب يُكره شربه؛ لدخولهِ في جملة ما يُكره من الأشربة؛ لصلابتهِ، وفي كتاب «الواعي»: صلابته كصلابةِ الخمر. وقال أبو حنيفة: البِتْعُ خمرٌ يمانية، وأهلُ اليمن يفتحون تاءه. وقال ابنُ مُحيريز: سمعت أبا موسى ☺ يخطبُ على منبر البصرة: ألا إنَّ خمر أهل المدينة البُسر والتَّمر، وخمر أهل فارس العنب، وخمر أهل اليمن البِتْع، وخمرُ الحبش السُّكركة، وهو الأرزُّ.
          (وَقَالَ مَعْنٌ) بفتح الميم وسكون العين المهملة وبالنون، هو: ابنُ عيسى القَزَّاز _بالقاف وتشديد الزاي الأولى_. قال ابنُ سعد: مات بالمدينة في شوَّال سنة ثمان وتسعين ومائة، وقال صاحب «التَّلويح» (1) : هذا التَّعليق أخذه البُخاري عن معن مُذاكرة فيما قاله بعض العُلماء.
          وتعقَّبه العينيُّ: بأنَّه كيف يتصوَّر أخذ البُخاري عن معن، ومولده في شوَّال سنة أربع وتسعين ومائة، وكان عمره يوم مات معن أربع سنين، وهو حينئذٍ ببخارى، وكأنَّه غرَّه ما حكاه ابن الصَّلاح في تعاليق البخاري عن شيوخه مطلقًا، لا في خصوص هذا الأثر، وأراد ببعض العُلماء: ابن الصَّلاح. وأبعد صاحب «التَّوضيح» (2) حيثُ قال: أخذ البُخاري هذا التَّعليق عن معن مذاكرة، وهو قلد / صاحب «التلويح»، وزاد في البعد مسافة.
          (سَأَلْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ) الإمام (عَنِ الْفُقَّاعِ) بضم الفاء وتشديد القاف وآخره عين مهملة. قال الكرمانيُّ: المشروب المشهور، وقال العينيُّ: الفقاع لا يشربُ، بل يمصُّ من كوزه. وقال الحافظُ العسقلانيُّ: الفقاع معروفٌ قد يصنعُ من العسل، وأكثر ما يصنعُ من الزَّبيب.
          وتعقَّبه العينيُّ: بأنَّه لم يقل أحدٌ أنَّ الفقاع يصنعُ من العسل، بل أهل الشَّام يصنعونه من الدِّبس، وفي عامَّة البلاد لا يصنع إلَّا من الزَّبيب المدقوق، وحكم شربه حكم سائر الأنبذة ما دام طريًّا يجوز شربه ما لم يشتدَّ، والمعنى: سألتُه عنه أيجوز شربه أم لا؟
          (فَقَالَ) أي: مالك مجيبًا له (إِذَا لَمْ يُسْكِرْ فَلاَ بَأْسَ بِهِ) أي: وإذا أسكر حرَّم قليله وكثيره. قيل: الفقاع لا يُسكر. نعم، إذا بات في إنائه الذي يصنعونه فيه ليلة في الصَّيف، أو ليلتين في الشِّتاء يشتدُّ جدًا، ومع هذا لا يسكر.
          قال العينيُّ: وقد سُئل بعض مشايخنا ما قول السَّادة العُلماء في فقاع يُتَّخذ من زبيب بحيثُ إنَّه إذا قُلِعَ سداد كوزه لا يبقى فيه شيءٌ من شدَّته يخرج وينتثر؟ فقال: لا بأس به، وأمَّا إذا صار بحيثُ أنَّه يسكر من شدَّته فيحرمُ حينئذٍ قليلًا أو كثيرًا.
          (وَقَالَ ابْنُ الدَّرَاوَرْدِيِّ) هو: عبدُ العزيز بن محمد، وهذا من رواية معن بن عيسى عنه أيضًا (سَأَلْنَا عَنْهُ) أي: عن الفقاع أيجوزُ شربه أم لا؟ قال الحافظُ العسقلانيُّ: لم أعرف الذي سألهم ابن الدَّراورديِّ عن ذلك، لكنَّ الظَّاهر أنَّهم فقهاء أهل المدينة في زمانه، وهو قد شارك مالكًا في لقاء أكثر مشايخ المدنيين (فَقَالُوا: لاَ يُسْكِرُ، لاَ بَأْسَ بِهِ) والحكمُ في الفقاع على ما أجابوه به؛ لأنَّه لا يُسمَّى فقاعًا، إلَّا إذا لم يشتد، وهذا الأثرُ ذكره معن بن عيسى القزَّاز في «الموطأ» روايةً عن مالك.
          قال الحافظُ العسقلانيُّ: وكأنَّ البُخاري أراد بذكر هذا الأثر في التَّرجمة: أنَّ المراد بتحريم قليلِ ما أسكر وكثيره أن يكون الكثير في تلك الحالة / مسكرًا، فلو كان الكثير في تلك الحالة لا يسكرُ لم يحرم قليلُه ولا كثيرُه، كما لو عصر العنب وشربَ في الحال.


[1] في هامش الأصل: مغلطاي.
[2] في هامش الأصل: ابن الملقن.