نجاح القاري لصحيح البخاري

باب شرب اللبن

          ░12▒ (بابُ شُرْبِ اللَّبَنِ) وضع المصنِّف هذه التَّرجمة للرَّد على قول من زعم أنَّ الكثير منه يسكر، وهو ليس بشيءٍ. قال المهلَّب: شرب اللَّبن حلالٌ بكتاب الله تعالى، وليس قول من قال: إنَّ الكثير منه يُسْكر بشيء. وقال ابن المُنيِّر: أطال في هذه التَّرجمة ليردَّ قول من زعم: أنَّ اللَّبن يسكر كثيرهُ فردَّ بذلك بالنُّصوص، وهو قولٌ غير مستقيم؛ لأنَّ اللَّبن لا يسكر بمجرَّده، وإنَّما يتَّفق فيه ذلك نادرًا لصفة تحدث فيه، فحينئذٍ يحرمُ شربه إن علمَ ذهاب عقلهِ به.
          وقال غيرُه: قد زعمَ بعضُهم: أنَّ بعض اللَّبن إذا طالَ العهد به وتغيَّر صار يسكر، وهذا ربما يقعُ نادرًا إن ثبتَ وقوعه، ولا يلزم منه تأثيم شاربه، إلَّا إن علم أن عقلَه يذهب به، فشربه لذلك. نعم، قد يقع السُّكر باللَّبن إذا جعل فيه ما يصيرُ باختلاطه معه مسكرًا فيحرم.
          وقد أخرج سعيد بن منصور بسندٍ صحيحٍ، عن ابن سيرين: أنَّه سمع ابن عُمر ☻ يسأل عن الأشربةِ، فقال: إنَّ أهل كذا يتَّخذون من كذا وكذا خمرًا، حتَّى عدَّ خمسة أشربة لم أحفظ منها إلَّا العسل والشَّعير واللَّبن.
          قال: فكنت أهاب أن أحدث باللَّبن حتَّى أنبئت أنَّه بأرمينية يصنعُ شراب من اللَّبن لا يلبث صاحبه أن يصرعَ. واستدلَّ بالآية المذكورة أوَّل الباب على أنَّ الماء إذا تغير ثمَّ طالَ مُكثه حتَّى زال التَّغير بنفسه، ورجعَ إلى ما كان عليه أنَّه يطهر بذلك، وهذا في الكثير، وبغير النَّجاسة من القليل متَّفق عليه.
          وأمَّا القليلُ المتغير بالنَّجاسة ففيما إذا زال تغيُّره بنفسه خلاف هل يطهرُ، والمشهور عند المالكيَّة: يطهرُ، وظاهر الاستدلال يقوي القول بالتَّطهير، لكن في الاستدلال به لذلك نظرٌ، وقريب منه في البعد استدلال من استدلَّ به على طهارة المنيِّ.
          وتقريره: أنَّ اللَّبن / خالطَ الفرث والدَّم، ثمَّ استحالَ فخرجَ خالصًا طاهرًا، وكذلك المني ينعصرُ من الدَّم، فيصيرُ على غير صفة الدَّم فلا يكون نجسًا.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) وفي نسخة: <╡> بالجرِّ عطفًا على قوله: «شرب اللَّبن» ({مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ}) ووقع في أكثر النُّسخ: <يخرج {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ}> هذا المقدار، وزاد في رواية أبي ذرٍّ: <{لَبَنًا خَالِصًا}>، وفي رواية غيره: وقع تمام الآية، وقوله: «يخرج» ليس في القرآن، والذي في القرآن: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} [النحل:66].
          وأمَّا لفظ <يخرج> فهو في الآية الأخرى من السُّورة: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} [النحل:69]، والظَّاهر أنَّ زيادة لفظ «يخرج» هنا ليست من البُخاري، بل هو (1) ممَّن دونه، وبدون لفظ ((يخرج)) جرى الإسماعيلي وابن بطَّال وغيرهما، وهذه الآية صريحة في إحلال شربِ ألبان الأنعام بجميع أنواعها لوقوع الامتنان به فيعمُّ جميع ألبان الأنعامِ في حال حياتها، والفَرْث _بفتح الفاء وسكون الراء بعدها مثلثة_، هو ما يجتمعُ في الكرش.
          وقال القزَّاز: هو ما أُلقي من الكرش، تقول: فرثت الشَّيء إذا أخرجتَه من وعائه وبعد خُروجه يقال له: السَّرقين (2) وزبل. وأخرج عن ابن عبَّاس ☻ : أنَّ الدَّابة إذا أكلتِ العلف واستقلَّ في كرشها طبخته، فكان أسفله فرثًا، وأوسطه لبنًا، وأعلاه دمًا، والكبدُ مسلَّطة عليه فتقسم الدَّم وتجريه في العروق، وتجري اللَّبن في الضِّرع، ويبقى الفَرْث في الكرش وحدَه، وفي ذلك عبرةٌ لمن اعتبر، وقيل: يخلقُ اللَّبن وسطًا بين الفرث والدَّم يكنفانه، وبينه وبينهما برزخٌ لا يبغي أحدُهما عليه بلونٍ ولا طعمٍ ولا رائحةٍ، بل هو خالصٌ من ذلك كلِّه.
          وسُئل شقيق عن الإخلاص، فقال: تمييزُ العمل من العيوبِ كتمييز اللَّبن من بين فرثٍ ودمٍ.
          وقوله: {خَالِصًا}؛ أي: من حمرة الدَّم، وقذارةِ الفرث وقوله: {سائغًا للشَّاربين}؛ أي: لذيذًا هنيئًا سهل المرور في الحلق. ويقال: لم يغصَّ أحد باللَّبن قط، ومن الأولى للتَّبعيض؛ لأنَّ اللَّبن بعض ما في البطون، والثَّانية لابتداء الغاية.


[1] في هامش الأصل: هي.
[2] في هامش الأصل: سرجين. نسخة.