نجاح القاري لصحيح البخاري

باب شهادة القاذف والسارق والزاني

          ░8▒ (باب) حكم (شَهَادَةِ الْقَاذِفِ) وهو الذي يقذف أحدًا بالزِّنا، وأصل القذف: الرَّمي، يقال: قذف يقذف من باب ضرب يضرب، قذفًا فهو قاذف (وَالسَّارِقِ وَالزَّانِي) أي: هل تقبل بعد توبتهم أم لا؟، ولم يصرِّح بالحكم؛ لمكان الخلاف فيه.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ ╡) بالجر عطفًا على قوله: ((شهادة القاذف)) ({وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} [النور:4-5]) الآية في سورة النور، وأولها: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ} [النور:4]؛ أي: العفائف بأن يكنَّ حرائر بالغات عاقلات مسلماتٍ عفيفات عن الزِّنا.
          والمراد بالرَّمي هنا: هو القذف بالزِّنا، لا يقال: ظاهر الآية لا يدلُّ على الشَّيء الذي به رموا المحصنات، وذكر الزَّاني لا يدلُّ على القذف بالزِّنا، إذ قد يرمى الزَّاني بسرقة وشرب خمر؛ لأنَّا نقول: هاهنا قرائن دلَّت عليه، وهي تقدَّم ذكر الزِّنا.
          وذكر / المحصنات التي هي العفائف، وكذا اعتبار أربعة شهداءٍ لقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}، إذ معلومٌ أنَّ أربعة شهداء غير مشروطٍ، إلَّا في الزِّنا، ولقوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}، إذ انعقد الإجماع على أنَّه لا يجب جلد ثمانين بالرَّمي بغير الزِّنا، فإنَّ القذف بغيره مثل: يا فاسق ويا شارب الخمر يوجب التَّعزيز كقذف غير المحصن، والخطاب في قوله: {فَاجْلِدُوهُمْ} للأئمة.
          ثمَّ إنَّه لا فرق فيه بين الذَّكر والأنثى، وتخصيص المحصنات لخصوص الواقعة، أو لأنَّ قذف النِّساء أغلب وأشنع، ولا يشترط اجتماع الشُّهود عند الأداء، ولا تعتبر شهادة زوج المقذوفة خلافًا لأبي حنيفة ☼ ، وليكن ضربه أخفَّ من ضرب الزِّنا؛ لضعف سببه واحتماله، ولذلك نقص عدده.
          {وَلَا تَقْبَلُوا لَهْمُ شَهَادَةً}: أيَّ شهادةٍ كانت؛ لأنَّه مفتر، وقيل: شهادتهم في القذف، ولا يتوقف ذلك على استيفاء الجلد عند الشَّافعي، فإنَّ الأمر بالجلد والنَّهي عن القبول سيَّان في وقوعهما جوابًا للشَّرط لا ترتيب بينهما، فيترتِّبان عليه دفعة، كيف وحاله قبل الجلد أسوأ ممَّا بعده.
          فعند الشَّافعي: يتعلَّق رد شهادته بنفس القذف، فإذا تاب عن القذف بأن يرجع عنه عاد مقبول الشَّهادة، وأمَّا عند أبي حنيفة ☼ : ردُّ شهادة القاذف معلَّقٌ باستيفاء الحدِّ، فإذا شهد قبل الحدِّ، أو قبل تمام استيفائه قبلت شهادته، وإذا استوفي لم تقبل شهادته.
          {أَبَدًا} إلى آخر عمره وإن تاب، وكان من الأبرار الأتقياء، وعند الشَّافعي: ما لم يتب، فأبو حنيفة ☼ جعل جزاء الشَّرط الذي هو الرَّمي الجلد، ورد الشَّهادة عقيب الجلد على التَّأبيد، فكانوا مردودي الشَّهادة عنده في أبدهم، وهو مدَّة حياتهم.
          وجعل قوله: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} كلامًا مستأنفًا غير داخلٍ في حيِّز جزاء الشَّرط كأنَّه حكاية حال الرَّامين عند الله تعالى بعد انقضاء الجملة الشَّرطية.
          وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} عن القذف {وَأَصْلَحُوا} / أعمالهم بالتَّدارك، ومنه: الاستسلام للحدِّ، أو الاستحلال عن المقذوف.
          {فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:4-5] علَّة للاستثناء، جعله أبو حنيفة استثناء من الفاسقين، ويدلُّ عليه قوله: {فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فإنَّ المغفرة تمحو الفسق، وأمَّا الشَّافعي فجعل جزاء الشَّرط الجملتين أيضًا، غير أنَّه صرف الأبد إلى مدَّة كونه قاذفًا، وهي تنتهي بالتَّوبة والرُّجوع عن القذف، فإنَّ أبد كلِّ شيءٍ على ما يليق به كما لو قيل: لا تقبل شهادة الكافر أبدًا، فإنَّ المراد ما دام كافرًا، وجعل الاستثناء متعلقًا بالجملة الثَّانية، وحقُّ المستثنى عنده أن يكون مجرورًا بدلًا من هم في لهم.
          وحقه عند أبي حنيفة: أن يكون منصوبًا؛ لأنَّه عن موجب، وقال صاحب «الكشاف»: والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها: أن تكون الجمل الثَّلاث بمجموعهنَّ جزاء الشَّرط، كأنَّه قيل: ومن قذف المحصنات فاجلدوهم، وردُّوا شهادتهم وفسقوهم؛ أي: فاجمعوا لهم الجلد والرَّد والتَّفسيق، إلَّا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا فإنَّ الله يغفر لهم، فينقلبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسّقين. انتهى.
          وما قاله صاحب «الكشاف» لا ينطبق لا على مذهب أبي حنيفة، ولا على مذهب الشَّافعي كما لا يخفى. وقال بعضهم: الاستثناء راجعٌ إلى أصل الحكم، وهو اقتضاء الشَّرط لهذا الأمر، ولا يلزمه سقوط الحدِّ به كما قيل، لأنَّ من تمام التَّوبة الاستسلام له، أو الاستحلال عن المقذوف.
          هذا وقال الشعبي: إذا تاب القاذف قبل إقامة الحدِّ سقط عنه، وكذا عند أصحابنا، وقال آخرون: إنَّ الاستثناء منقطعٌ، ووجهه أنَّ المتصل هو إخراج عن حكم المستثنى منه بمعنى المنع عن دخول بعض ما تناوله صدر الكلام في حكمه؛ أي: في حكم صدر الكلام، وهنا ليس كذلك؛ لأنَّ حكم الصدر أنَّ من قذف فهو فاسقٌ.
          وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} لا يخرج عن عين ذلك الحكم، بل معناه: أنَّ من تاب لا يبقى فاسقًا بعد التَّوبة فهذا حكمٌ آخر، ولا يخفى أنَّه إنَّما يتمُّ إذا لم يكن معنى هم الفاسقون الثَّبات على الفسق والدَّوام، وإلَّا فلا تعذر للاتصال، وتحقيقه في الأصول.
          قال العينيُّ: وأمَّا شهادته فلا تقبل أبدًا عند الحنفية؛ / لأنَّ ردَّ الشَّهادة من تمام الحدِّ؛ لأنَّه يصلح جزاء، فيكون مشاركًا للأول في كونه حدًّا.
          وقوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} لا يصلح جزاء؛ لأنَّه ليس بخطابٍ للأئمة، بل هو إخبارٌ عن صفة قائمة بالقاذفين، فلا يكون من تمام الحدِّ، بل هو كلام مبتدأ على سبيل الاستئناف منقطعٌ عمَّا قبله؛ لعدم صحَّة عطفه على ما سبق؛ لأنَّ قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} جملة إخبارية ليس بخطابٍ للأئمَّة، وما قبله جملة إنشائية خطاب للأئمَّة، فيصلح أن يكون عطفًا على قوله: {فَاجْلِدُوا}.
          والشَّافعي قطع قوله: {وَلَا تَقْبَلُوا} عن قوله: {فَاجْلِدُوا} مع دليل الاتصال، وهو كونه جملة إنشائية صالحة للجزاء مفوَّضة إلى الأئمَّة مثل الأولى، وأوصل قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} مع قيام دليل الانفصال، وهو كونه جملة اسميَّة غير صالحةٍ للجزاء.
          هذا ثمَّ إنَّ التَّوبة من القذف إكذابه نفسه على ما قاله الشَّافعي، وقال الاصطخري: معناه: أن يقول: كذبتُ فلا أعود إلى مثله.
          وقال أبو إسحاق: لا يقول كذبت؛ لأنَّه ربما كان صادقًا فيكون قوله كذبت كذبًا، والكذب معصية، والإتيان بالمعصية لا يكون توبةً عن معصيةٍ أُخرى، بل يقول: القذفُ باطلٌ نَدِمت على ما قلت ورجعت عنه ولا أعود إليه.
          ثمَّ قوله: {وَأَصْلِحُوا} قال أصحابنا: إنَّه بعد التَّوبة لا بدَّ من مضيِّ مدة عليه في حسن الحال حتَّى قدَّروا ذلك بسنةٍ؛ لأنَّ الفصول الأربعة تتغيَّر فيها الأحوال والطِّباع كما في العنين، والله تعالى أعلم.
          فإن قيل: الكافر يقذف فيتوب عن الكفر فتقبل شهادته بالإجماع، والقاذف من المسلمين يتوب عن القذف، فلا تقبل شهادته عند أبي حنيفة كأنَّ القذف مع الكفر أهون من القذف مع الإسلام.
          فالجواب: أنَّ المسلمين لا يعبؤون بسبِّ الكفار؛ لأنَّهم شهروا بعداوتهم، والطَّعن فيهم بالباطل، فلا يلحق المقذوف بقذف الكافر من الشَّيْنِ والشَّنار ما يلحقه / بقذف مسلمٍ مثله، فشدَّد على القاذف من المسلمين رَدْعًا وكفًّا عن إلحاق الشنار.
          فإن قيل: هل للمقذوف أو للإمام أن يعفوَ عن حدِّ القذف.
          فالجواب: أنَّ لهما قبل أن يشهد الشُّهود، ويثبت الحد ذلك، والمقذوف مندوبٌ إلى أن لا يرافع القاذف ولا يطالبه بالحدِّ، ويحسن من الإمام أن يحملَ المقذوف على كظم الغيظ، ويقول له: اعرض عن هذا ودعه لوجه الله قبل ثبات الحدِّ، فإذا ثبت لم يكن لواحدٍ منهما أن يعفو؛ لأنَّه خالص حق الله، أو الغالب فيه حقُّ الله، ولهذا لم يصح أن يصالح عنه بمالٍ.
          فإن قيل: هل يورث الحد؟.
          فالجواب: عند أبي حنيفة: لا يورث؛ لقوله صلعم : ((الحدُّ لا يورث))، ويورث عند الشَّافعي.
          فائدة: قيل: نزلت هذه الآية في حسَّان بن ثابت ☺ حين تاب ممَّا قال في عائشة ♦.
          (وَجَلَدَ عُمَرُ ☺ أَبَا بَكْرَةَ) هو: نُفيع، مصغر نفع _بالفاء_ ابن الحارث بن كَلَدَة _بالكاف واللام والدال المهملة المفتوحات_ ابن عمر بن علاج بن أبي سلمة، واسم أبي سلمة: عبد العزى، ويقال: ابن عبد العزى بن غيرةَ بن عوف بن قصي، وهو ثقيف الثَّقفي صاحب رسول الله صلعم .
          وقيل: كان أبوه عبدًا للحارث بن كلدة، وإنَّما قيل له: أبو بكرة؛ لأنَّه تدلى إلى النَّبي صلعم ببكرة من حصن الطَّائف، فكني أبا بكرة، فأعتقه رسول الله صلعم يومئذٍ، روى له عن رسول الله صلعم مائة حديث واثنان وثلاثون حديثًا اتَّفقا على ثمانية، وانفرد البخاريُّ بخمسة ومسلم بحديث، وكان ممَّن اعتزل يوم الجمل، ولم يقاتل مع أحدٍ من الفريقين، مات بالبصرة سنة إحدى وخمسين، وصلَّى عليه أبو برزة الأسلميُّ ☺.
          (وَشِبْلَ) بكسر الشين المعجمة وسكون الموحدة (ابْنَ مَعْبَدٍ) بفتح الميم وسكون العين المهملة وفتح الموحدة، ابن عبيد بن الحارث بن عَمرو بن علي بن أسلم بن أحمس بن الغوث / بن أنمار البجلي، قاله الطَّبري، وهو أخو أبي بكرة لأمِّه.
          (وَنَافِعًا) هو: ابن الحارث أخو أبي بكرة لأبيه وأمِّه نزلا من الطَّائف فأسلما وله رواية، قاله الذَّهبي.
          وقال الكرمانيُّ: الثَّلاثة يعني: أبا بكرة وشبل بن معبد ونافعًا، أخوة صحابيُّون شهدوا مع أخٍ آخر لأبي بكرة اسمه زياد _بتخفيف التحتانية_ على المغيرة بن شعبة الثَّقفي بالزِّنا، لكن لم يجزم زياد بالشَّهادة بحقيقة الزِّنا، فلم يثبت، فلم يحد المغيرة، وجلد الثلاثة.
          وزياد ليست له صحبة ولا رواية، وكان من دُهاة العرب وفصحائهم، مات سنة ثلاث وخمسين.
          (بِقَذْفِ الْمُغِيرَةِ) أي: المغيرة بن شعبة الثَّقفي (ثُمَّ اسْتَتَابَهُمْ، وَقَالَ: مَنْ تَابَ قَبِلْتُ شَهَادَتَهُ) وقصَّتهم رويت من طرقٍ كثيرة، ومحصِّلها: أنَّ المغيرة بن شعبة كان أمير البصرة لعمر بن الخطَّاب ☺، فاتَّهمه أبو بكرة وشبل ونافع وزياد الذي يقال له: زياد بن أبي سفيان، وهم أخوة من أمٍّ تسمَّى سُمَيَّة _بضم المهملة وفتح الميم_ مولاة الحارث بن كَلَدَة، فاجتمعوا جميعًا فرأوا المغيرة متبطِّن المرأة، وكان يقال لها: الرقطاء أمُّ جميل بنت عَمرو بن الأفقم الهلالية، وزوجها الحجَّاج بن عتيك بن الحارث بن عوف الجشمي، فرحلوا إلى عمر ☺، فشكوه فعزله عمر ☺، وولَّى أبا موسى الأشعريَّ، وأحضر المغيرة فشهد عليه الثَّلاثة بالزِّنا، وأمَّا زياد فلم يثبت الشَّهادة، وقال: رأيتُ منظرًا قبيحًا، وما أدري أخالطها أم لا، فأمر عمر ☺ بجلد الثَّلاثة حدَّ القذف، وقال ما قال.
          وروى الحاكم في «المستدرك» من طريق عبد العزيز بن أبي بكرة القصَّة مطوَّلة وفيها: فقال زياد: رأيتُهما في لحافٍ، وسمعتُ نفسًا عاليًا، ولا أدري ما وراء ذلك.
          والتَّعليق الذي رواه البخاري وصله الشَّافعي في «الأم» عن سفيان قال: سمعت الزُّهري يقول: زعم أهلُ العراق أنَّ شهادة المحدود لا تجوزُ، فأشهد لأخبرني فلان: أنَّ عمر بن الخطَّاب ☺ قال لأبي بكرة: تُبْ وأقبلُ شهادتك. /
          قال سفيان: سمَّى الزُّهري الذي أخبره فحفظته، ثمَّ نسيته، فقال لي عمر بن قيس: هو ابن المسيَّب، ورواه ابنُ جرير من وجهٍ آخر عن سفيان فسمَّاه ابن المسيَّب، ورواهُ ابن جرير أيضًا في «التفسير» من طريق ابنِ إسحاق عن الزُّهري عن سعيد بن المسيَّب أتمَّ من هذا، ولفظه: أنَّ عمر بن الخطَّاب ☺ ضرب أبا بكرة وشِبل بن معبد ونافع بن الحارث بن كَلَدة الحدَّ، وقال لهم: من أكذب نفسه قبلت شهادته فيما يستقبلُ ومن لم يفعلْ لم أُجز شهادته، وأكذبَ شِبل نفسه ونافع وأبى أبو بَكرة أن يفعلَ.
          قال الزُّهري: هو والله سنَّة فاحفظوه، وروى سليمان بن كثيرٍ عن الزُّهري عن سعيد: أنَّ عمر ☺ حيث شهد أبو بكرة ونافع وشبل على المغيرة، وشهد زياد على خلاف شهادتهم، فجلدهم عمر ☺ واستتابهم وقال: من رجع منكم عن شهادته قبلت شهادته، فأبى أبو بكرة ☺ أن يرجعَ. أخرجه عمر بن شبَّة في «أخبار البصرة» من هذا الوجه.
          وقال الطَّحاوي: إنَّ ابن المسيَّب لم يأخذه عن عمر ☺ إلَّا بلاغًا؛ لأنَّه لا يصحُّ له عنه سماع، وروى أبو داود الطَّيالسي قال: حدَّثنا قيس بن سالمٍ الأفطس، عن قيس بن عاصم قال: كان أبو بَكرة ☺ إذا أتاه رجلٌ ليشهده، قال: أَشهِد غيري فإنَّ المسلمين قد فسَّقوني.
          والدَّليل على أنَّ الحديث لم يكن عند سعيد بالقويِّ: أنَّه كان يذهب إلى خلافه روى عنه قتادة، وعن الحسن: أنَّهما قالا: القاذف إذا تاب توبةً فيما بينه وبين ربِّه ╡ لا تقبل له شهادةٌ، ويستحيل أن يسمعَ شيئًا من عمر ☺ بحضرة الصَّحابة، ولا ينكرونه عليه ولا يخالفونه ثمَّ يتركه إلى خلافه.
          وقد ذكر الإسماعيليُّ في كتابه «المدخل»: أنَّ بعضَهُم استشكلَ إخراج البخاري هذه القصَّة، واحتجاجه بها مع كونه احتجَّ بحديث أبي بكرة في عدَّة مواضع.
          وأجاب الإسماعيليُّ: بالفرق بين الشَّهادة / والرِّواية، وأنَّ الشَّهادة يطلب فيها مزيد تثبُّت لا يطلب في الرِّواية كالعدد والحرية وغير ذلك.
          ومن هذا لم يتوقف أحدٌ من البصريِّين عن الرِّواية عنه، ولا طعن أحدٌ على روايته من هذه الجهة مع إجماعهم أن لا شهادة لمحدودٍ في قذف غير تائبٍ، فصار قبول خبره جاريًا مجرى الإجماع، فليتأمل.
          قال المهلَّب: إنَّ إكذاب القاذف نفسه ليس شرطًا في قبول توبته؛ لأنَّ أبا بكرة ☺ لم يكذب نفسه، ومع ذلك فقد قبل المسلمون روايته وعلموا بها.
          وقال ابن المنيَّر: اشتراط توبة القاذف إذا كان عند نفسه محقًّا في غاية الإشكال، بخلاف ما إذا كان كاذبًا في قذفه فاشتراطها واضحٌ.
          ويمكن أن يقال: بأنَّ المعاين للفاحشة مأمورٌ بأن لا يكشف صاحبها إلَّا إذا تحقَّق كمال النِّصاب معه، فإذا كشفه قبل ذلك فقد عصى، فيتوب من المعصية في الإعلان، لا من الصِّدق في علمه، ويعكِّر عليه: أنَّ أبا بكرةَ لم يكشف حتَّى يحقق كمال النِّصاب معه كما تقدَّم، ومع ذلك أمره عمر بالتَّوبة لتقبل شهادته.
          ويجاب عن ذلك: بأنَّ عمر ☺ لعلَّه لم يطلع على ذلك فأمره بالتَّوبة، ولذلك لم يقبل أبو بكرة ما أمره به؛ لعلمه بصدقه عند نفسه، والله أعلم.
          (وَأَجَازَهُ) أي: أجاز الحكم المذكور، وهو قبولُ شهادة المحدود في القذف (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ) بضم العين المهملة وسكون المثناة الفوقية، ابن مسعودٍ الهذلي، وصله الطَّبري من طريق عمران بن عُمير قال: كان عبدُ الله بن عتبة يجيزُ شهادة القاذف إذا تابَ.
          (وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) الخليفة المشهور، وصله الطَّبري والخلال من طريق ابنِ جُريج عن عمران بن موسى: سمعت عمر بن عبد العزيز أجازَ شهادة القاذف، ومعه رجلٌ.
          ورواه عبد الرَّزاق عن ابن جريجٍ، فزاد مع عمر بن عبد العزيز أبا بكر بن محمد بن عَمرو بن حزم.
          (وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ) التَّابعي المشهور، وصله الطَّبري من طريقه بلفظ: تقبل شهادة القاذف إذا تاب، وروى ابنُ أبي حاتم من وجهٍ آخر عنه: لا تقبل، لكن إسناده ضعيفٌ.
          (وَطَاوُسٌ) هو: ابنُ كيسان اليماني (وَمُجَاهِدٌ) هو: ابنُ جبرٍ المكِّي، وصل ما روي عنهما سعيد بن منصور والشَّافعي والطَّبري من طريق ابنِ أبي نجيح قال: القاذفُ إذا تاب تقبلُ شهادته، قيل له: من يقوله؟ قال: عطاء وطاوس ومجاهد.
          (وَالشَّعْبِيُّ) هو: عامرُ بن شراحيل، وصل ما روى عنه الطَّبري من طريق ابنِ أبي خالدٍ عنه أنَّه كان يقول: يقبلُ الله توبته وتردُّون شهادته، وكان يقبل شهادته إذا تاب.
          وفي / «الجعديَّات»: عن شعبة عن الحكم في شهادة القاذف: أنَّ إبراهيم قال: لا تجوز، وكان الشَّعبي يقول: إذا تاب قبلت.
          (وَعِكْرِمَةُ) أي: مولى ابن عبَّاس ☻ ، وصله البغويُّ في «الجعديات» عن شعبة عن يونس هو: ابنُ عبيد عن عكرمة قال: إذا تاب القاذف قبلت شهادته.
          (وَالزُّهْرِيُّ) هو: محمدُ بن مسلم بن شهاب، وصله ابنُ جرير عنه أنَّه قال: إذا حدَّ القاذف فإنَّه ينبغي للإمام أن يستتيبه، فإن تاب قبلت شهادتُه وإلَّا لم تقبل. وقد تقدَّم قوله في قصَّة المغيرة: ((هو سنة)).
          (وَمُحَارِبُ) بضم الميم وبالحاء المهملة وكسر الراء (ابْنُ دِثَارٍ) بكسر الدال المهملة وتخفيف المثلثة الكوفي قاضيها (وَشُرَيْحٌ) بضم الشين المعجمة القاضي المشهور (وَمُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ) بضم القاف وتشديد الراء، ابن إياس البصريُّ، أدرك جماعة من الصَّحابة.
          قال الحافظ العسقلانيُّ: هؤلاء الثَّلاثة من أهل الكوفة، فدلَّ على أنَّ مراد الزُّهري الماضي في قصَّة المغيرة ممَّا نسبه إلى الكوفيين من عدم قبولهم لشهادة القاذف بعضهم لا كلهم، ولم أروِ عن أحدٍ من الثَّلاثة المذكورين التَّصريح بالقبول.
          نعم الشَّعبي من أهل الكوفة، وقد ثبتَ عنه القول كما تقدَّم، وروى ابن جريرٍ بإسنادٍ صحيح عن شريح أنَّه كان يقول في القاذف: يقبلُ الله توبته ولا أقبل شهادته، وروى ابن أبي حاتم بإسنادٍ ضعيفٍ عن شريح: أنَّه كان لا يقبل شهادته. انتهى.
          وتعقَّبه العينيُّ: بأنَّ معاوية ليس من أهل الكوفة، بل هو من أهل البصرة.
          هذا قال العينيُّ: فهؤلاء أحد عشر نفسًا ذكرهم البخاريُّ تقويةً لمذهب من يرى بقبول شهادة القاذف، وردًّا لمذهب من لا يرى بذلك.
          ومن لا يرى بذلك أيضًا رووا عن ابن عبَّاس ☻ ، ذكره ابنُ حزم عنه بسندٍ جيدٍ من طريق ابنِ جُريج عن عطاء الخراساني عنه أنَّه قال: شهادةُ القاذف لا تجوز وإن تابَ، وهذا واحدٌ يُساوي هؤلاء المذكورين بل / يفضل عليهم، وكفى به حجَّة.
          وقال ابنُ حزم أيضًا: وصحَّ ذلك أيضًا عن الشَّعبي في أحدِ قوليه، والحسن البصريُّ ومجاهد في أحد قوليه، وعكرمة في أحدِ قوليه، وشريح وسفيان بن سعيد.
          وروى ابنُ أبي شيبة في «مصنفه»: حَدَّثَنَا أبو داود الطَّيالسي، عن حمَّاد بن سلمة عن قتادة عن الحسن وسعيد بن المسيِّب، قالا: لا شهادة له، وتوبته بينه وبين الله تعالى. وهذا سندٌ صحيحٌ على شرط مسلم.
          وروى البيهقيُّ من حديث المثنى بن الصَّبَّاح وآدم بن فائد عن عَمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه: أنَّ رسول الله صلعم قال: ((لا تجوزُ شهادة خائنٍ، ولا محدودٍ في الإسلام)).
          فإن قلت: قال البيهقيُّ: آدمُ والمثنَّى لا يحتجُّ بهما.
          فالجواب: أنَّ في «مصنف ابن أبي شيبة»: حَدَّثَنَا عبد الرَّحيم بن سليمان، عن حجَّاج، عن عَمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه قال: قال رسول الله صلعم : ((المسلمون عدولٌ بعضُهم على بعضٍ إلَّا محدودًا في قذف))، فقد تابع الحجَّاج _وهو: ابنُ أرطاة_ آدمُ والمثنَّى، والحجَّاج أخرج له مسلمٌ مقرونًا بآخر.
          ورواه أبو سعيد النَّقاش في كتاب «الشهود» تأليفه من حديث حجَّاج، ومحمد بن عُبيد الله العزرمي وسليمان بن موسى عن عَمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه.
          ورواه أحمدُ بن موسى بن مردويه في «مجالسه» من حديث المثنَّى عن عَمرو عن أبيه عن عبد الله بن عَمرو ☻ .
          (وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ) بكسر الزاي وتخفيف النون، عبدُ الله بن ذكوان المدنيُّ المشهور (الأَمْرُ عِنْدَنَا بِالْمَدِينَةِ: إِذَا رَجَعَ الْقَاذِفُ عَنْ قَوْلِهِ، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ) وهذا التَّعليق وصلَه سعيدُ بن منصورٍ من طريق حصين بن عبد الرَّحمن، قال: رأيتُ رجلًا جلد حدًّا في قذف بالزِّنا، فلمَّا فرغ من ضربه أحدث توبةً فلقيتُ أبا الزِّناد فقال لي: الأمر عندنا، فذكره.
          (وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ: إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ جُلِدَ، وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ) وصله الطَّبري عنهما مفرقًا، وروى ابنُ أبي حاتم / من طريق داود بن أبي هند عن الشَّعبي قال: إذا أكذبَ القاذف نفسَه قُبِلت شهادته.
          هذا وقد صحَّ عن الشَّعبي في أحدِ قوليه: أنَّه لا تقبل، كما مرَّ آنفًا.
          (وَقَالَ الثَّوْرِيُّ) هو: سفيان الثَّوري (إِذَا جُلِدَ الْعَبْدُ، ثُمَّ أُعْتِقَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنِ اسْتُقْضِيَ الْمَحْدُودُ فَقَضَايَاهُ جَائِزَةٌ) رواه عنه عبدُ الله بن الوليد العدني في «جامعه».
          وروى عبد الرَّزاق عن الثَّوري عن واصل عن إبراهيم قال: لا تقبل شهادة القاذف توبته فيما بينه وبين الله، وقال الثَّوري: ونحن على ذلك.
          (وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَاذِفِ وَإِنْ تَابَ) أراد ببعض النَّاس: أبا حنيفة ☼ فيما ذهب إليه، ولكن هذا لا يمشي ولا يبرد به قلب المتعصِّب، فإنَّ أبا حنيفة مسبوقٌ بهذا القول، وليس هو بمخترعٍ له، وقد مرَّ آنفًا عن ابن عبَّاس ☻ نحوه، وعن جماعةٍ من التَّابعين أيضًا.
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: هذا منقولٌ عن الحنفية؛ يعني: عدم قبول شهادة المحدود في القذف، وقال: واحتجُّوا في ذلك بأحاديث قال الحفاظ: لا يصحُّ منها شيءٌ، وأشهرها: حديث عَمرو بن شعيب عن أبيه، عن جدِّه مرفوعًا: ((لا تجوز شهادة خائنٍ ولا خائنة، ولا محدود في الإسلام)). أخرجه أبو داود وابن ماجه، ورواه التِّرمذي من حديث عائشة ♦ نحوه، وقال: لا يصح. وقال أبو زُرعة: منكر. انتهى.
          وقال العينيُّ: لما أخرجه أبو داود وسكت عنه، وهذا دليل الصِّحة عنده. وقد أخرجه ابنُ أبي شيبة في «مصنفه» أيضًا، وقد مرَّ عن قريبٍ.
          (ثُمَّ قَالَ: لاَ يَجُوزُ نِكَاحٌ بِغَيْرِ شَاهِدَيْنِ، فَإِنْ تَزَوَّجَ بِشَهَادَةِ مَحْدُودَيْنِ جَازَ، وَإِنْ تَزَوَّجَ بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ لَمْ يَجُزْ) أي: ثمَّ قال بعض النَّاس: المذكور، وأراد به إثبات التَّناقض فيما ذهب إليه أبو حنيفة ☼ .
          ولكن هذا ليس بشيءٍ؛ لأنَّ حالة التَّحمل لا تشترط العدالة، كما ذكر عن بعض الصَّحابة: أنَّه تحمَّل في حال كفره، ثمَّ أدَّى بعد إسلامه؛ وذلك / لأنَّ الغرض شهرة النِّكاح، وذلك حاصلٌ بالعدل وغيره عند التَّحمل وأمَّا عند الأداء، فلا يقبل إلَّا العدل.
          وأمَّا قوله: فإن تزوَّج بشهادة عبدين...إلى آخره، فأراد به إثبات التَّناقض أيضًا ولا تناقض؛ لأنَّ عدم جواز النِّكاح بغير شاهدين ثابتٌ بالنَّص، وقد عرفت أنَّ المراد من ذلك شهرة النِّكاح، وذلك حاصلٌ بشهادة المحدودين. وأمَّا عدم جوازه بشهادة عبدين فلأنَّ الأصل فيه أنَّ كلَّ من كان من أهل الولاية كان أهلًا للشَّهادة ومن لا فلا، والعبد لا ولاية له، فلا شهادة له كالصَّبي والمجنون. وأمَّا المحدود في القذف فهو من أهل الولاية، فيكون أهلًا للشَّهادة عند التَّحمل، فعليك بالتَّأمل.
          (وَأَجَازَ شَهَادَةَ الْمَحْدُودِ وَالْعَبْدِ وَالأَمَةِ لِرُؤْيَةِ هِلاَلِ رَمَضَانَ) أي: وأجاز بعض النَّاس المذكور شهادتهم لذلك، يعني: وهل هذا إلَّا تناقض. وهذا أيضًا ليس بشيءٍ؛ لأنَّ أبا حنيفة ☼ أجرى ذلك مجرى الخبر، والخبرُ يخالف الشَّهادة في المعنى، كما لا يخفى، وقال بهذا أيضًا غير أبي حنيفة.
          وأمَّا ما قاله صاحب «التوضيح» من أنَّه غلطٌ؛ لأنَّ الشَّاهد على هلال رمضان لا يزول عنه اسم الشَّاهد ولا يسمَّى مخبرًا، فحكمه حكم الشَّاهد في المعنى؛ لاستحقاقه ذلك بالاسم، وأيضًا الشَّهادة على هلال رمضان حكم من الأحكام، ولا يجوز أن يقبلَ في الأحكام إلَّا من تجوز شهادته في كلِّ شيءٍ، ومن جازت شهادته في هلال رمضان ولم تجز في القذف فليس بعدلٍ، ولا هو ممَّن يُرضَى، وأنَّ الله تعالى إنَّما تعبدنا من نرضى من الشُّهداء. انتهى.
          فقد تعقَّبه العينيُّ: بأنَّ قوله الشَّاهد على هلال رمضان لا يزول عنه اسم الشَّاهد، ولا يسمَّى مخبرًا تحكم، وعدم زوال اسم الشَّاهد عن الشَّاهد على هلال رمضان لا يدلُّ عليه دليل عقليٌّ ولا نقلي، فمن ادَّعى ذلك فعليه البيان.
          وقوله: فحكمه حكم الشَّاهد في المعنى يناقض كلامه الأول؛ لأنَّه قال لا يسمَّى مخبرًا، ثمَّ كيف يقول فحكمه حكم الشَّاهد في المعنى.
          هذا ونحن نقول أيضًا بذلك، لكنَّه ليس بشهادةٍ حقيقة، إذ لو كانت شهادة حقيقة / لما جاز الحكم بشهادة واحدٍ في هلال رمضان مع أنَّه يكتفى بشهادة واحدٍ عند اعتلال المطلع بشيءٍ، وهو قول عند الشَّافعي أيضًا ورواية عند أحمد، والله تعالى تعبدنا بمن نرضى من الشُّهداء عند الشَّهادات الحقيقية، والإخبار بهلال رمضان ليس من ذلك، والله أعلم.
          (وَكَيْفَ تُعْرَفُ تَوْبَتُهُ) أي: كيف تعرف توبة القاذف، هذا من كلام البخاريِّ من تمام التَّرجمة.
          قال الكرمانيُّ: هذا عطفٌ على أوَّل التَّرجمة، وكثيرًا ما يفعل البخاري مثله؛ يردف ترجمة على ترجمة، وإن بعد ما بينهما. انتهى.
          وأشار بذلك إلى الاختلاف في ذلك؛ فعن أكثر السَّلف: أنَّه لا بدَّ أن يكذبَ نفسه، وبه قال الشَّافعي، وقد تقدَّم التَّصريح به عن الشَّعبي وغيره، وأخرج ابنُ أبي شيبة عن طاوس مثله، وعن مالكٍ: إذا ازداد خيرًا، ولا يتوقَّف على تكذيب نفسه؛ لجواز أن يكون صادقًا في قذفه، وإلى هذا مالَ البخاري حيث استدلَّ على ذلك بقوله:
          (وَقَدْ نَفَى النَّبِيُّ صلعم الزَّانِيَ سَنَةً) أي: عن البلد وهو التَّغريب، ووجه الدَّلالة منه: أنَّه لم ينقل عنه صلعم أنه كلَّفه بعد التَّوبة بقدرٍ زائدٍ على النَّفي من اعترافه بأنَّه عصى الله ╡ في مدَّة تغريبه، وسيأتي نفي الزَّاني موصولًا في آخر الباب إن شاء الله تعالى [خ¦2649].
          (وَنَهَى النَّبِيُّ صلعم عَنْ كَلاَمِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ) وهما: مرارة بن الرَّبيع وهلال بن أميَّة الذين خلفوا حتَّى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبتْ (حَتَّى مَضَى خَمْسُونَ لَيْلَةً) وهذا أيضًا ممَّا استدلَّ به البخاريُّ على ما ذهب إليه مثل ما ذهب مالك.
          ووجه دَلالته عليه: أنَّه لم ينقل عنه صلعم أنَّه كلَّفه بقدرٍ زائدٍ على الهجران، وقصَّة كعب وصاحبيه ستأتي بطولها في آخر تفسير براءة وغزوة تبوك إن شاء الله تعالى [خ¦4418] [خ¦4677].
          وقال الكرمانيُّ: فإن قلت: ما وجه تعلق قصَّتهم بالباب؟.
          قلت: تخلَّفوا عن رسول الله صلعم في غزوة تبوك، والتَّخلف عنه بدون إذنه معصية؛ كالسَّرقة ونحوها.
          قال شارح «التَّراجم» لفظ: وكيف تعرف توبته إشارة إلى أنَّها تعرف بالقرائن، وفي قصَّة كعب دليلٌ عليه، فإنَّه لم تعرف توبته إلَّا بعد مدَّة. وقال الحافظ العسقلانيُّ: وأشار المصنف إلى أنَّ ذلك يختلف بالأشخاص والأحوال بشرط مضي مدَّة يظن بها صحَّة توبته، وقدَّرها الأكثرون بسنةٍ، ووجَّهوه: بأنَّ للفصول الأربعة في النَّفس تأثيرًا، فإذا مضت أشعر ذلك بحسن السَّريرة، ولهذا اعتبرت في مدَّة تغريب الزَّاني، والمختار: أنَّ هذا في الغالب، وإلَّا ففي قول عمر ☺ لأبي بكرة: (تب أقبل شهادتك) دَلالة للجمهور.