نجاح القاري لصحيح البخاري

باب من أقام البينة بعد اليمين

          ░27▒ (باب) حكم (مَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ الْيَمِينِ) أي: بعد يمين المدَّعى عليه، ويروى: <بابٌ> بالتنوين فحينئذٍ جواب من محذوف تقديره: هل تقبل البيِّنة أم لا؟ وإنَّما لم يصرِّح به، لمكان الخلاف فيه كما هو عادته، فالجمهور على أنَّها تقبل، وإليه ذهب الثَّوري والكوفيُّون والشَّافعي والليث وأحمد وإسحاق، وقال مالكٌ في «المدونة»: إن استحلفه وهو لا يعلم بالبينة، ثمَّ علمها قضى له بها وإن استحلفه ورضي بيمينه تاركًا لبيِّنته وهي حاضرة أو غائبة، فلا حقَّ له إذا شهدت له، قاله مطرِّف وابن الماجشون.
          وقال ابن أبي ليلى: لا تسمع البيِّنة بعد الرِّضا باليمين، واحتجَّ بأنَّه إذا حلف فقد برئ، وإذا برئ فلا سبيل عليه، وبه قال أبو عبيد وأهل الظَّاهر.
          وتعقِّب بأنَّه إنَّما يبرأ / في الصُّورة الظَّاهرة لا في نفس الأمر.
          (وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم : لَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ) أي: أفطنُ وأزكى (بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ) هذا طرفٌ من حديث أمِّ سلمة ♦ الموصول في هذا الباب، وذكره أيضًا في المظالم، في باب إثم من خاصم في باطلٍ وهو يعلمه [خ¦2458].
          ومناسبة ذكره في هذا الباب من حيث إنَّه إذا اختصم اثنان، أو أكثر لا بدَّ أن يكون لكلٍّ منهم حجة حتَّى يكون بعضُهم ألحن بحجَّته من بعضٍ، وذلك لا يكون إلَّا فيما إذا جاز إقامة البيِّنة بعد اليمين، كذا ذكره العينيُّ تبعًا للكرمانيِّ، وفيه تأمُّل.
          (وَقَالَ طَاوُسٌ) هو: ابنُ كيسان (وَإِبْرَاهِيمُ) هو: ابنُ يزيد النَّخعي (وَشُرَيْحٌ) القاضي المشهور (الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ أَحَقُّ مِنَ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ) قال الحافظ العسقلانيُّ: أمَّا قول طاوس وإبراهيم فلم أقف عليهما موصولين، وأمَّا قول شريح فوصله البغويُّ في «الجعديات» عن علي بن الجعد: أنا شريك عن عاصم عن محمَّد بن سيرين عن شريح قال: من ادَّعى قضائي فهو عليَّ حتَّى يأتي ببيِّنة، الحقُّ أحق من قضائي، الحقُّ أحقُّ من يمين فاجرة. وذكر ابن حبيب في الواضحة بإسنادٍ له عن عمر ☺ قال: البينة العادلة خيرٌ من اليمين الفاجرة.
          قال أبو عبيد: إنَّما قيَّد اليمين بالفاجرة إشارةً إلى أنَّ محلَّ ذلك ما إذا شهدا على حالفٍ بأنَّه أقرَّ بخلاف ما حلف عليه، فتبيَّن حينئذٍ أنَّ يمينه فاجرة، وإلَّا فقد يوفي الرَّجل ما عليه من الحقِّ ويحلف على ذلك وهو صادقٌ، ثم تقوم عليه البينة التي شهدت.
          وقال العيني: قد طوَّل الشراح في معنى كلام هؤلاء، وحاصل معنى كلامهم أنَّ المدعى عليه إذا حلف دفع المدَّعي باليمين، ثمَّ إذا أقام المدعي البيِّنة المرضية، وهو معنى: العادلة، على دعواه ظهر أنَّ يمين المدعى عليه كانت فاجرةً؛ أي: كاذبةً فسماع هذه البينة العادلة أولى بالقبول من تلك اليمين الفاجرة، فتسمع هذه البينة ويقضي بها، والله تعالى أعلم.
          فإن قيل: البينة قد تكون عادلة وقد تكون غير عادلةٍ فلم رجَّح جانب البيِّنة.
          فالجواب: ما ذكر أنَّ المراد بالبينة المرضيَّة، على أنَّ كذب شخصٍ واحدٍ أقرب إلى الوقوع من كذب اثنين، سيِّما في الشَّخص الذي يريد جرَّ المنفعة إلى نفسه، أو دفع الضرِّ عنه.