نجاح القاري لصحيح البخاري

باب ما جاء في البينة على المدعي

          ░1▒ (باب مَا جَاءَ أَنَّ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي) كذا في رواية الأكثر، وسقط في رواية بعضِهم لفظ: <باب>، وفي بعض النُّسخ: <باب ما جاء في البيِّنة على المدَّعِي> والمدَّعي: هو ذاكرُ أمرٍ خفيٍّ، أو من إذا تَرَك تُرِك، ولم يذكر في هذا الباب حديثًا اكتفاءً بذكر الآيتين. وقال الحافظ العسقلانيُّ: وإمَّا إشارة إلى الحديث الماضي قريبًا في ذلك في آخر باب الرَّهن، انتهى.
          وهو حديث ابن عبَّاس ☻ : ((أنَّ النَّبي صلعم قضى أنَّ اليمين على المدَّعى عليه)) [خ¦2514]، وحديث عبد الله: ((فيه شاهداك أو يمينه)) [خ¦2515] ولا يخفى بعده، وستأتي ترجمة الشقِّ الآخر، وهو اليمين على المدَّعى عليه قريبًا إن شاء الله تعالى.
          والآية الأولى مكتوبة بتمامها في رواية الأكثرين، وإلى قوله: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} في روية ابن شبويه، وفي رواية أبي ذرٍّ بعد قوله: {فَاكْتُبُوهُ} إلى قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:282].
          (لِقَوْلِ اللهِ تَعَالىَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ}) أي: إذا داين بعضكم بعضًا تقول: داينته، إذا عاملته نسيئة معطيًا أو آخذًا، ويقال: دان فلانٌ يدين دينًا، استقرض وصار عليه دين، ورجل مديونٌ: كثر ما عليه من الدَّين.
          ومِدْيان _بكسر الميم_: إذا كان عادته أن يأخذَ بالدين.
          وقال ابنُ الأثير: المديان الكثير الدين الذي عليه الدُّيون، وهو مفعالٌ من الدين للمبالغة، ويقال للمديون: مِدْين أيضًا. وقال سفيان الثوريُّ: عن ابنِ أبي نجيح، عن مجاهدٍ، عن ابن عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة:282] أي: إذا تبايعتُم بدين.
          هذا والحاصل: أنَّ الدين ما كان مؤجلًا، والعين ما كان حاضرًا.
          وفائدة ذكر الدَّين أن لا يتوهم من التَّداين المجازاة، وأن يعلم تنوعه إلى المؤجَّل والحال، وأنَّه الباعث على الكتبة، وأن يكون مرجع ضمير {فَاكْتُبُوْهُ}.
          ({إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}) معلوم بالأيام والأشهر، لا بالحصاد وقدوم الحاج ({فَاكْتُبُوهُ}) أي: أثبتوه في كتابٍ بيِّنٍ، فيه قدْر الحقِّ والأجل؛ ليرجع إليه وقت التَّنازع والنِّسيان، ولأنَّه يحصل منه الحفظ والتَّوثقة، والحاصل: أنَّ الكتب أوثق وآمن من النِّسيان وأدفع للنِّزاع وأبعدَ من الجحود.
          فإن قيل: {فَاكْتُبُوهُ} أمرٌ من الله تعالى بالكتابة، وقد ثبت في «الصحيحين» عن ابن عمر ☻ قال: قال رسول الله صلعم : ((إنَّا أمَّةٌ أمِّيَّة لا نكتبُ ولا نحسبُ)) فما الجمع بينهما [خ¦1913].
          فالجواب: أنَّ الدين من حيث هو غير مفتقرٍ / إلى الكتابة أصلًا؛ لأنَّ كتاب الله قد سهَّل الله حفظه على النَّاس، والسنن أيضًا محفوظةٌ عن رسول الله صلعم والذي أمر بكتبه إنَّما هو أشياء جزئيَّة تقع بين الناس، فأمروا أمر إرشادٍ واستحباب لا أمر إيجاب، وهو مذهبُ الجمهور فإن كتب فحسن، وإن ترك فلا بأس.
          وقال أبو سعيد والشَّعبي والرَّبيع بن أنس والحسن وابن جُريج وابن زيد وآخرون: إنَّه كان ذلك واجبًا، ثمَّ نسخ بقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة:283].
          وذهب بعضهم إلى أنَّه محكم، وعن ابن عبَّاس ☻ أنَّ المراد به السَّلَم، وقال: لمَّا حرَّم الله الرِّبا أباح السَّلَم.
          ({وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}) أي: بالحقِّ والإنصاف؛ أي: من يكتب بالسويَّة لا يزيد ولا ينقص ولا يقدِّم الأجل ولا يؤخِّره، وهو في الحقيقة أمرٌ للمتداينين باختيار كاتب دينٍ فقيهٍ عالم باختلاف العلماء أديب مميَّز بين الألفاظ المتشابهة حتَّى يجيء كتابه موثوقًا به معدَّلًا بالشرع.
          وقيَّده بقوله: {بَيْنَكُمْ}؛ ليكون أبعد عن الاشتباه والتُّهمة، والتَّنكير في {كَاتِبٌ} للتَّنبيه على أنَّ المعتبر هو كون الكتابة على الوجه المعهود، لا كون الكاتب معهودًا، ولهذا فسَّره بقوله: {بِالْعَدْلِ}.
          ({وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ}) أي: ولا يمتنع أحدٌ من الكتَّاب إذا سئل ({أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} [البقرة:282]) أي: مثل ما علَّمه الله من كتبة الوثائق، أو لا يأب أن ينفعَ النَّاس بكتابته، كما نفعَه الله بتعليمها، كقوله تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77].
          ({فَلْيَكْتُبْ} [البقرة:282]) تلك الكتابة المعلَّمة أمر بها بعد النَّهي عن الإباء عنها تأكيدًا، ويجوز أن يتعلَّق الكاف بالأمر فيكون النَّهي عن الامتناع عنها مطلقة، ثمَّ الأمر بها مقيَّدة.
          هذا والمعنى أنَّه لا ضرورة عليه في ذلك فكما علَّمه الله ما لم يكن يعلم فليتصدَّق على غيره ممَّن لا يحسن الكتابة، كما جاء في الحديث: ((إنَّ من الصدقة أن تعين صانعًا أو تصنع لأخرق))، / وفي الحديث الآخر: ((من كتم علمًا يعلمه أُلجم يوم القيامة بلجامٍ من نار)).
          وقال مجاهد وعطاء: واجبٌ على الكاتب أن يكتب.
          ({وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ}) الإملال والإملاء بمعنى: إلقاء الكلام على الكاتب للكتابة، وهما لغتان جاء بهما القرآن قال تعالى: {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} [الفرقان:5]، وقال: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة:282] أي: وليكن المملِي من عليه الحق؛ لأنه المقرُّ المشهود عليه وذلك بأن يقرَّ على نفسه بما عليه.
          ({وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}) أي: المملي أو الكاتب ({وَلاَ يَبْخَسْ}) أي: ولا ينقص ({مِنْهُ}) أي: من الحقِّ على أن يكون الأمر بالاتقاء للمُملي، أو ممَّا أملى عليه على أن يكون الأمر بالاتقاء للكاتب.
          ({شَيْئًا}) قال القاضي إسماعيل بن إسحاق: ظاهر قوله ╡: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} يدلُّ على أنَّ القولَ قول من عليه الحق. وقال غيره: لأنَّ الله تعالى لما أمره بالإملاء اقتضى تصديقه فيما عليه، فإذا كان مصدِّقًا، فالبينة على من يدَّعي تكذيبه، فقوله تعالى: {وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} كالتَّفسير لقوله: {وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ} والله أعلم.
          ({فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا}) ناقص العقل مبذِّرًا، أو محجورًا عليه بتبذيره ونحوه، كما فسَّره أبو يوسف ومحمد والشافعي ▓، فإنَّهم يرون الحجر على العاقل البالغ الذي هو غير رشيدٍ بناءً على تبذيره، وقيل: جاهلًا بالإملاء، وفيه نظرٌ؛ لأنَّه يندرج في قوله: {أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ} [البقرة:282].
          ({أَوْ ضَعِيفًا}) أي: صبيًّا أو شيخًا مختلًّا عاجزًا عن مصالحه، وكذا المجنون ({أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ}) أو غير مستطيعٍ للإملاء بنفسه لعيٍّ، أو خرسٍ، أو جهلٍ بموضع صواب من خطأ.
          ({فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ}) أي: الذي يلي أمره ويقوم مقامه، من قيِّمٍ إن كان صبيًّا، أو مختل عقلٍ، أو وكيل، أو مترجم إن كان غير مستطيع.
          قال القاضي: وهو دليل جريان النيابة في الإقرار، ولعلَّه مخصوصٌ بما تعاطاه القيم أو الوكيل، وقيل: المراد بالوليِّ هو صاحب الدين يملي دينه، وفيه نظرٌ: لأنَّ فيه ريبة.
          ({وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ}) أي: واطلبوا أن يشهد على الدين شاهدان ({مِنْ رِجَالِكُمْ}) أي: من أهل ملَّتكم المسلمين من الأحرار البالغين، وهو دليلُ اشتراط إسلام الشُّهود، وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي وسفيان وأكثر الفقهاء. وأجاز شريح وابن سيرين شهادة / العبد، وهذا قول أنس بن مالكٍ ☺، وأجاز بعضهم شهادته في الشَّيء التافه. وقال أبو حنيفة ☼ : تسمع شهادة الكفار بعضهم على بعض، وإنَّما أمر بالإشهاد مع الكتابة لزيادة التوثقة.
          ({فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ}) أي: فإن لم يكن الشهيدان رجلين ({فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ})أي: فليشهد أو فالمستشهد رجلٌ وامرأتان، وأقيمت المرأتان مقام الرجل الواحد لنُقصان عقل المرأة، كما جاء ذلك في «الصحيح»، وهذا مخصوصٌ بما عدا الحدود والقصاص عند أبي حنيفة وبالأموالِ عند الشافعيِّ.
          ({مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}) أي: ممن كان مرضيًّا في دينه وأمانته وكفايته عندكم.
          ({أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282]) علة اعتبار العدد؛ أي: لأجل أن إحداهما إن ضلَّت الشهادة بأن نسيتها ذكرتها الأخرى، والعلَّة في الحقيقة التَّذكير ولكن لمَّا كان الضلال سببًا له نزل منزلته، كقولهم: أعددت السلاح أن يجيء عدوٌّ فأدفعه، وكأنه قيل: إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلَّت، والضَّلال هنا عبارة عن النسيان. وقابل النِّسيان بالتذكُّر؛ لأنَّه يعاد له وفيه إشعارٌ بنقصان عقلهنَّ وقلَّة ضبطهنَّ.
          وقرأ حمزة: ((إن تضل)) على الشَّرط ((فتذكِّرُ)) بالرفع، وابن كثير وأبو عَمرو ويعقوب: ((فتذكِر)) بالتخفيف، من الإذكار، يقال: أذكرته، جعلته ذاكرًا للشَّيء بعد نسيانه فهمزة أذكرته للنَّقل والتَّعدية، والفعل قبل النقل متعدٍّ إلى مفعولٍ واحدٍ فلا بدَّ بعد النقل من مفعولٍ آخر، وليس في الآية إلا مفعول واحدٌ فلا بدَّ من القول بأنَّ الثاني محذوفٌ، والتقدير: فتذكر إحداهما الأخرى الشَّهادة بعد نسيانها إن نسيت.
          ({وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}) أي: ولا يمتنع الشُّهود إذا ما طلبوا لتحمِّل الشَّهادة وإثباتها في الكتاب، أو لأدائها عند الحاكم، أو للتحمُّل والأداء جميعًا، وسمُّوا شهداء قبل التَّحمل تنزيلًا لما يشارف منزلة الواقع، و{مَا} مزيدة، وهذا أمر ندبٍ، وقيل: فرض كفايةٍ، وقيل: فرض عينٍ وهو قول قتادة والربيع، / وقال مجاهد وأبو مجلز وغير واحدٍ: إذا دُعيتَ لتشهدَ فأنت بالخيار، وإذا شهدت فدعيت فأجب.
          ({وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ}) أي: ولا تملُّوا من كثرة مدايناتكم أن تكتبوا الدين، أو الحق، أو الكتاب، وقيل: كني بالسأم عن الكسل؛ لأنَّه صفة المنافق، ولذلك قال صلعم : ((لا يقول المؤمن كسلت)).
          ({صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا}) صغيرًا كان الحقُّ أو كبيرًا؛ أي: قليلًا كان المالُ أو كثيرًا، أو مختصرًا كان الكتاب أو مشبعًا ({إِلَى أَجَلِهِ}) أي: إلى وقت حلوله الذي أقرَّ به المديون، أو إلى الوقت الَّذي اتَّفق الغريمان على تسميته ({ذَلِكُمْ}) إشارة إلى أن تكتبوه؛ لأنَّه في معنى المصدر؛ أي: ذلكم الكتب ({أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ}) أي: أكثر قسطًا وأعدل ({وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ}) أي: وأثبت لها وأعون على إقامتها، وهما مبنيَّان من أقسط وأقام على غير قياسٍ على مذهب سيبويه، أو من قاسط بمعنى ذي قسطٍ وقويم، وإنما صحَّت الواو في {أَقْوَمُ} كما صحَّت في التعجب لجموده حيث يقال: ما أقومه وأقوله.
          والحاصل: أنَّه صحَّ باب ما أفعله؛ لأنه لمَّا لم يتصرَّف تصرُّف الأفعال المتصرِّفة لم يحمل عليها في الإعلال، وحمل أفعل للتَّفضيل عليه لإجرائهما مجرى واحدًا فيما يجب ويمتنع ويجوز، فإنَّه يجب بناؤهما من الثلاثي المجرَّد، ويمتنع أن يكونا من اللون والعيب، ويجوز من كلِّ ثلاثيٍّ مجرَّدٍ ليس بلونٍ ولا عيب على ما تقرَّر في الصَّرف.
          ({وَأَدْنَى أَنْ لاَ تَرْتَابُوا}) أي: وأقرب في أن لا تشكُّوا في جنس الدين وقدره وأجله والشهود، ونحو ذلك فإنَّه قد يشكُّ في أمرٍ ممَّا يتعلَّق بعقد المداينة، وإذا روجع إلى المكتوب زال الارتياب، ولفظ: {أَدْنَى} لا يتعدَّى بنفسه فلا بدَّ من تقدير حرف جرٍّ (كفي)، وقيل: من، والمعنى: وأقرب من انتفاء الارتياب، وقيل: اللام؛ أي: أدنى لئلا ترتابوا.
          ({إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةًحَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ لاَ تَكْتُبُوهَا}) استثناءٌ عن الأمر بالكتابة، وقيل: من الاستشهاد، وقيل: من كليهما، والتَّجارة الحاضرة تعم المبايعة بدينٍ أو عين؛ لأنَّ كون أحد العوضين دينًا ثابتًا في الذِّمة لا يُنافي كون التِّجارة حاضرة؛ لأنَّ التِّجارة عبارةٌ عن التصرُّف / وإدارتها بينهم تعاطيهم إيَّاها يدًا بيد؛ أي: إلَّا أن تتبايعوا يدًا بيدٍ ليس فيه أجل ولا نسيئة، فلا بأس أن لا تكتبوا؛ لبعده عن التَّنازع والنِّسيان.
          ونصب عاصم تجارة على أنَّه خبر، والاسم مضمر تقديره: إلا أن تكون التِّجارة تجارة حاضرة كقوله:
بَنِي أَسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بَلاءَنَا                     إِذَا كَانَ يَومًا ذا كَوَاكِبَ أَشْنَعًا
          أي: إذا كان اليوم، ورفعها الباقون على أنَّه الاسم والخبر تديرونها، أو على أنَّ كان التامة.
          ({وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ})أي: هذا التَّبايع، وهو التجارة الحاضرة، فإن أكثر المفسِّرين على أن الكتابة وإن رفعت عنهم في التجارة الحاضرة لا ترفع عنهم الإشهاد؛ لأنَّ الإشهاد من غير كتابةٍ أخفُّ مؤنة وأقربُ احتياطًا، ويحتملُ أن يكون الآمر بالإشهاد على التَّبايع مطلقًا سواء كان بدينٍ أو عينٍ؛ لأنَّه أحفظ.
          روي عن جابر بن زيد ومجاهد وعطاء والضَّحَّاك: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} إذا كان فيه أجلٌ أو لم يكن فأشهدوا على حقِّكم على كلِّ حالٍ. والأوامر التي في هذه الآية للاستحباب عند أكثر الأئمَّة، وقيل: إنَّها للوجوب.
          ثمَّ اختلف في إحكامها ونسخها؛ أي: بعد القول بالوجوب اختلف في بقاء الوجوب بحاله ونسخه، قال بعضُهم: بالبقاء، وبعضُهم: بالنسخ، وقد فصَّلناه تفصيلًا.
          ({وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ}) بأن يزيد، أو ينقص، أو يحرف، أو يشهد بما لم يستشهد، أو يمتنع عن إقامة الشَّهادة، وقيل: أن يمتنعَ الكاتب أن يكتبَ والشَّاهد أن يشهدَ هذا على كون قوله: {وَلاَ يُضَارَّ} مبنيًا للفاعل كما يدلَّ عليه أن قرئ: (▬ولا يضارِر↨) بالكسر والإظهار، وقرئ أيضًا: (▬ولا يضارَر↨) بالفتح والإظهار، فهذا يدلُّ على كونه مبنيًّا للمفعول، فالمعنى حينئذٍ النَّهي عن الضِّرار بهما؛ مثل أن يعجلا عن مهمٍّ كانا مشغولين به ويكلَّفا الخروج عمَّا حدَّ لهما من كتابة الباطل وشهادةِ الزُّور، ولا يعطى الكاتب جُعله، والشَّهيد مؤنةَ مجيئه من بلده حيث كان إلى مجلسِ الأداء.
          ({وَإِنْ تَفْعَلُوا}) الضِّرار، أو ما نهيتم عنه ({فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ}) أي: خروجٌ عن الأمر والطاعة لاحقٌ بكم ({وَاتَّقُوا اللَّهَ}) في مخالفة أمره ونهيه، فاتبعوا أمره واتركوا نهيه ({وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ}) أحكامه المتضمِّنة لمصالحكم ({وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:282]) أي: عالمٌ بحقائق الأمور ومصالحها / وعواقبها، ولا يخفى عليه شيءٌ من الأشياء بل علمُه محيطٌ بجميع الكائنات، وكرَّر لفظة: الله، في الجمل الثلاث لاستقلالها فإنَّ الأولى حثٌّ على التَّقوى، والثانية وعدٌ بإنعامه، والثَّالثة تعظيمٌ لشأنه، ولأنَّه أدخل في التعظيم من الكناية، والله تعالى أعلم.
          ثمَّ وجهُ الاستدلال بالآية للترجمة على ما قاله ابن المنير أنَّه لو كان القول قول المدَّعي من غير بيِّنةٍ لما احتيج إلى الكتابة والإملاء والإشهاد عليه، فلمَّا احتيج إليه دلَّ على أن البيِّنة على المدعي.
          وقال ابن بطَّال: الأمر بالإملاء يدلُّ على أنَّ القول قول المدَّعى عليه، وأيضًا أنَّه يقتضي تصديقه فيما عليه، فالبيِّنة على مدَّعي تكذيبه.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ ╡) عطف على قوله: لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ} ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء:135]) والآية بتمامها مذكورةٌ في أكثر الأصول، وفي رواية أبي ذرٍّ وابن شبويه هكذا: <{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ} إلى قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيْرًا}>. والآية في سورة النساء فقوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ باِلْقِسْطِ} أي: بالعدل مواظبين عليه، مجتهدين في إقامته، فلا تعدلوا عنه يمينًا ولا شمالًا، ولا يأخذكم في الحقِّ لومة لائم.
          ({شُهَدَاءَ لِلَّهِ}) بالحقِّ تقيمون شهاداتكم لوجه الله تعالى، كما أمرتم بإقامتها، وهو خبرٌ ثانٍ أو حالٌ ({وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}) أي: ولو كانت الشَّهادة على أنفسكم بأن تقرُّوا عليها؛ لأنَّ الشَّهادة بيان الحقِّ سواءٌ كان عليه أو على غيره، وقيل: معناه: اشهدوا بالحقِّ إذا سُئلتم ولو عاد ضررها، فإنَّ الله سبحانه سيجعل لمن أطاعه فرجًا ومخرجًا من كلِّ أمرٍ يضيق عليه.
          ({أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}) أي: ولو كانت الشِّهادة على والديكم وأقاربكم، فلا تراعوهم، بل اشهدوا بالحقِّ وإن عاد ضَرَرها عليهم، فالحقُّ حاكم عليهم وعلى كلِّ واحدٍ.
          ({إِنْ يَكُنْ}) أي: المشهود عليه أو كلُّ واحد منه ومن المشهود له ({غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا}) فلا تمتنعوا عن إقامة الشَّهادة على غنيٍّ لغناه، ولا على فقيرٍ لفقره، أو لا تجوروا فيها ميلًا أو ترحيمًا.
          ({فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا}) بالغنيِّ والفقير / وبالنَّظر لهما منكم، وأعلم بما فيه صلاحهما فلو لم تكن الشَّهادة عليهما أو لهما صلاحًا لما شرعها.
          وهو علَّةُ الجواب أقيمت مقامه، والضَّمير في بهما راجع إلى ما دلَّ عليه المذكور وهو جنسا الغني والفقير لا إليه وإلا لوحَّد، ويشهد عليه أنَّه قرئ: (▬فالله أولى بهم↨).
          ({فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا}) أي: لأن تعدلوا عن الحقِّ، أو كراهة أن تعدلوا من العدل.
          ({وَإِنْ تَلْوُوا}) من اللَّيِّ، وهو التَّحريف وتعمُّد الكذب؛ أي: وإن تلووا ألسنتكُم عن شهادة الحقِّ، أو حكومة العدل، وقرأ ابن عامر وحمزة: ({وَإِنْ تَلُوا}) بضم اللام، بمعنى: وإن وليتم إقامة الشَّهادة.
          ({أَوْ تُعْرِضُوا}) عن أدائها وتمنعوها ({فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:135]) فيجازيكم عليه، ووجه دَلالة هذه الآية على الترجمة أنَّ الله تعالى قد أخذ على المؤمنين أن يقرُّوا بالحقِّ ولو على أنفسهم، فالقول قولُ المدَّعى عليه، فإذا كذَّبه المدعي فعليه البيِّنة، والله تعالى أعلم.