نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: إذا زكى رجل رجلًا كفاه

          ░16▒ (باب إِذَا زَكَّى رَجُلٌ رَجُلًا كَفَاهُ) أي: كفى رجلًا الذي هو المزكَّى _بفتح الكاف_، يعني: لا يحتاج إلى آخر معه، وقد ذكر في أوائل الشهادات: باب تعديل كم يجوز فتوقَّف في جوابه، وهاهنا صرَّح بالاكتفاء بالواحد. وفيه خلاف؛ فعند محمد بن الحسن: يشترط اثنان كما في الشهادة، وهو المرجَّح عند الشافعية والمالكيَّة، واختاره الطَّحاوي، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف: يكتفي بالواحد والاثنان أحبُّ، وكذا الخلاف في الرِّسالة والترجمة.
          وقال أبو عبيد: لا يقبل في التزكية أقل من ثلاثة، واحتجَّ بحديث قَبيصة الذي أخرجه مسلم / فيمن تحلُّ له المسألة حتَّى يقوم ثلاثةٌ من ذوي الحِجَى فيشهدون له، قال: فإذا كان هذا في حقِّ الحاجة فغيره أولى، وهذا كلُّه في الشهادة.
          أمَّا الرواية فيقبل فيها قول الواحد على الصَّحيح؛ لأنَّه إن كان ناقلًا عن غيره فهو من جملةِ الأخبار، ولا يشترط العدد فيها، وإن كان من قبل نفسه فهو بمنزلة الحاكم، ولا يتعدَّد أيضًا. وكذا بطانة الحاكم عند الأكثر؛ لأنَّه نائبه فينزَّل قوله منزلة الحكم، والله أعلم.
          (وَقَالَ أَبُو جَمِيلَةَ) بفتح الجيم وكسر الميم، واسمه: سُنَيْن _بضم السين المهملة وبنونين أولاهما مفتوحة مخففة بينهما مثناة تحتية على صيغة التصغير_، كذا ضبطه عبدُ الغني بن سعيد والدَّارقطني وابن ماكولا. قال الحافظ العسقلانيُّ: ووهم من شدَّد التحتانيَّة كالداودي، وتعقَّبه العينيُّ: بأنَّه كيف ينسب الدَّاودي إلى الوهم، ولم ينفرد هو بالتَّشديد، فإنَّ البخاري ذكر في «تاريخه»: كان ابنُ عيينة وسليمان بن كثير يثقِّلان سُنيِّنًا، واقتصر عليه ابن التِّين، فافهم.
          هذا وقيل: اسم أبيه فرقد، وقال ابن سعد: هو سلميٌّ، وقال غيره: هو ضمري، وقيل: سُليطي، وقد ذكره العجليُّ وجماعةٌ في التابعين. وسيأتي في غزوة الفتح ما يدلُّ على صحبته، وأنَّه أدرك النَّبي صلعم وخرج معه عام الفتح، وأنَّه التقط منبوذًا فأتى عمر ☺ فسأل عنه فأثنى عليه خيرًا، وأنفقَ عليه من بيت المال وجعل ولاءه له.
          وقال الكرمانيُّ: أبو جميلة سُنَين، وقيل: ميسرة ضدُّ الميمنة، ابنُ يعقوب الطُّهَوي _بضم الطاء المهملة وفتح الهاء_ وقيل: بسكونها، وقد يفتحون الطاء مع سكون الهاء، ففيه ثلاث لغات.
          وردَّ عليه الحافظ العسقلانيُّ: بأنَّ أبا جميلة الَّذي ذكره وترجمه ليس بأبي جميلة المذكور في البخاري، فإنَّه تابعيٌّ طهويٌّ كوفيٌّ، روى عن عثمان وعلي ☻ وليست له صحبةٌ اتِّفاقًا، وذاك صحابيٌّ عند الأكثرين، وإن كان العجليُّ ذكره في التابعين، وقد ذكره الذهبي في الصحابة.
          وقال أبو جميلة: سُنَين السُّلمي أدرك النَّبي صلعم ، وحديثه في الترمذي / روى عنه الزهريُّ، وقال العينيُّ: تفرَّد الزُّهري بالرواية عنه.
          (وَجَدْتُ مَنْبُوذًا) بفتح الميم وسكون النون وضم الموحدة وسكون الواو بعدها ذال معجمة؛ أي: شِخصًا منبوذًا؛ أي: لقيطًا (فَلَمَّا رَآنِي عُمَرُ ☺) فيه حذف إيجاز؛ أي: فأتيتُ به عمر ☺. والدَّليل على ذلك: أنَّ البخاري روى هذا التَّعليق من طريق مَعمر، عن الزُّهري، عن سنين أبي جميلة: أنَّه أدرك النَّبي صلعم ، وخرج معه عام الفتح، وأنَّه التقط منبوذًا، فأتى عمر ☺ فسأل عنه فأثنى عليه خيرًا، وأنفقَ عليه من بيت المال، وجعل ولاءه له.
          (قَالَ: عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا) كذا في رواية الأصيليِّ، وفي رواية أبي ذرٍّ عن الكُشْميهنيِّ، وسقط في رواية الباقين، وكذا رواه ابنُ أبي شيبة فقال: حدَّثنا ابن عُليَّة، عن الزُّهريِّ: أنَّه سمع سُنَيْنًا أبا جميلة يقول: وجدت منبوذًا، فذكره عريفي لعمر ☺، فأتيتُه فقال: هو حرٌّ، وولاءه لك، ورضاهُ علينا، والغُوير بالمعجمة مصغَّر غار، وأبؤسًا جمع: بائس، وهو الشدَّة.
          ويقال: الأبؤس: الدَّاهية، وانتصب أبؤسًا بعامل مقدَّر تقديره: عسى الغوير يصير أبؤسًا؛ أي: عسى أن يأتي الغوير بشر، وقال أبو علي: جعل عسى بمعنى كان ونزَّل منزلته، وهو مثلٌ مشهور يقال فيما ظاهره السَّلامة، ويخشى منه العطب.
          وقال الأصمعيُّ: إنَّ أصل هذا المثل: أنَّ ناسًا دخلوا غارًا يبيتون فيه، فانهارَ عليهم فقتلهم، وقيل: وجدوا فيه عدوًّا لهم فقتلوهم، فقيل ذلك لكلِّ من دخل في أمرٍ لا يعرف عاقبته.
          وفي «علل الخلال»: قال الزهريُّ: هذا مثلٌ يضربه أهلُ المدينة، وقال سفيان: إنَّ أصله: أنَّ ناسًا كان بينهم وبين آخرين حربٌ، فقالت لهم عجوزٌ: احذروا واستعدُّوا من هؤلاء، فإنهم لا يألونكم شرًّا، فلم يلبثوا أن جاءهم فزع، فقالت العجوزُ: عسى الغوير أبؤسًا؛ تعني: لعلَّه أتاكُم الناس من قبل / الغوير، وهو الشَّعب.
          وقال ابنُ الكلبي: غوير: ماءٌ لبني كلبٍ معروفٌ في ناحية السَّماوة كان فيه ناسٌ يقطعون الطَّريق، فكان من يمرُّ يتواصون بأن يحرسُوهم؛ لئلَّا يؤتوا منه، وروى الحربيُّ عن عَمرو، عن أبيه: أنَّ الغوير نفق في حصن الزَّبَّاء.
          وأوَّل من تكلَّم بهذا القول: الزَّبَّاء (1) _بفتح الزاي وتشديد الموحدة وبالمدِّ_ لما قتلت جذيمة الأبرش، فأراد قُصِير _بفتح القاف وكسر المهملة_ أن يقتصَّ منها فيتواطأ قصير وعمرو ابن أخت جذيمة على أنَّ قطع عمروٌ أنفَ قُصيرٍ، فأظهر أنَّه هرب منه إلى الزبَّاء فأمنتْ إليه، ثمَّ أرسلته تاجرًا، فرجع إليها بربحٍ كثير مرارًا، ثمَّ رجع المرة الأخيرة ومعه الرجال في الأعدال معهم السلاح، فنظرت إلى الجمال تمشي رويدًا لثقل مَنْ عليها، فقالت: عسى الغوير أبؤسًا؛ أي: لعلَّ الشر يأتيكم من قبل الغوير، وكان قُصير، أعلمها أنَّه سلك في هذه الطريق الغوير، فلما أدخل الأحمال قُصيرٌ خرج الرجال من الأعدال، فهلكت.
          ثمَّ معنى تمثيل عمر ☺ بهذا المثل: أنَّ عمر ☺ اتَّهمه بأن يكون الولد له، وإنَّما أراد نفي نسبه عنه لمعنى من المعاني، فأراد مع ذلك أن يتولَّى هو تربيته، وأن يفرض له في بيت المال، ويأخذ ما يفرض له، ويصنع ما شاء.
          وهذا معنى قوله: (كَأَنَّهُ يَتَّهِمُنِي، قَالَ عَرِيفِي) العريف: النَّقيب، وهو دون الرئيس.
          قال ابن بطال: وكان عمر ♥ قسَّم الناس أقسامًا، وجعل على كلِّ ديوان عَريفًا ينظر عليهم، وكان الرجل النَّابذ من ديوان الذي زكَّاه عند عمر ☺.
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: لم أقف على اسم هذا العريف، إلَّا أنَّ الشيخ أبا حامد ذكر في «تعليقه»: أنَّ اسمه سنان، وفي «الصحابة» لابن عبد البر: سنان الضمري استخلفه أبو بكر الصديق ☺ مرَّةً على المدينة، فيحتمل أن يكون هو ذا.
          وقد قيل: أنَّ أبا جميلة ضمري، فإن كان أبو جميلة سلميًّا فينظر من كان عريف بني سليم في عهد عمر ☺؟ والله أعلم.
          (إِنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ، قَالَ: كَذَاكَ) أي: قال عمر ☺ / لعريفه: هو صالح مثل ما تقول، وزاد مالك في روايته: <قال نعم كذلك>(اذْهَبْ وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ) وفي رواية مالك: <اذهب فهو حرٌّ ولك ولاؤه، وعلينا نفقته>، وكذلك في رواية البيهقيِّ، يعني: من بيت المال.
          وقد أخرج البيهقيُّ هذه القصة موصولةً من طريق يحيى بن سعيدٍ الأنصاري، عن الزهريِّ، عن أبي جميلة: أنَّه خرج مع النَّبي صلعم عام الفتح، وأنَّه وجد منبوذًا في خلافة عمر ☺ فأخذه، قال: فذكر ذلك عريفي لعمر ☺، فلما رأى عمر قال فذكره، وزاد: ما حملك على أخذ هذه النسمة؟ قلت: وجدتها ضائعةً فأخذتها.
          وقد أخرج مالك في «الموطأ» هذه الزِّيادة عن الزهريِّ أيضًا، وصدر هذا الخبر سيأتي موصولًا في أواخر المغازي من وجهٍ آخر عن الزُّهري، قال ابن بطَّال: في هذه القصة: أنَّ القاضي إذا سألَ في مجلس نظره عن أحدٍ فإنَّه يجتزئ بقول الواحد كما صنع عمر ☺، وأمَّا إذا كلف المشهود له أن يعدِّل شهودَه فلا يقبلُ أقل من اثنين.
          قال الحافظ العسقلانيُّ: غايته أنَّه حمل القصَّة على بعض محتملاتها، وقصَّة التَّكليف تحتاج إلى دليلٍ من خارج.
          وفيه: جواز الالتقاط وإن لم يُشْهِد، وأنَّ نفقته إذا لم يُعرف في بيت المال، وأنَّ ولاءه لملتقطه، وذلك ممَّا اختلف فيه، وسيأتي الإشارة إلى ذلك في كتاب الفرائض إن شاء الله تعالى.
          وفيه: أنَّ اللَّقيط حرٌّ. وقال قوم: أنَّه عبدٌ، وممَّن قال أنَّه حرُّ علي بن أبي طالب ☺ وعمر بن عبد العزيز وإبراهيم والشعبي.
          وفيه: تثبُّت عمر ☺ في الأحكام، وأنَّ الحاكم إذا توقف في أمر أحدٍ لم يكن ذلك قادحًا فيه.
          وفيه: رجوعُ الحاكم إلى قول أمنائه.
          وفيه: أنَّ الثَّناء على الرَّجل في وجهه عند الحاجة لا يكره، وإنَّما يُكره الإطناب في ذلك، ولهذه النُّكتة ترجم البخاري عَقيب حديث أبي بكرة بحديث أبي موسى فقال: ما يُكره من الإطناب في المدح، والله أعلم.
          ومطابقة الحديث للترجمة / تؤخذ من قوله: ((قال عريفيٌّ: إنَّه رجلٌ صالحٌ، قال كذلك اذهب...إلى آخره)) فإنَّه يدلُّ على أنَّ عمر ☺ قبل تزكية الواحد، واكتفَى به.


[1] في هامش الأصل: الزباء: اسم ملكة، وجذيمة: اسم ملك كان قد قتل أباها، وقتل زوجها واستولى على ملكه، وبعد رجوعه استولت زبَّاء على مملكة المقتول فأرسلت إلى جذيمة أنِّي رغبت فيك، وأردتُ أن تتزوجني وتضم مُلكي إلى ملكك فسرَّ بذلك، وشاور أهل الرأي من ثقاته وهو يومئذ ببقة من شاطئ الفرات، فأجمعوا على أنَّ المصلحة أن يسيرَ إليها وخالفهم قُصِير بن سعد، وقال المصلحة: أن تكتب إليها وتطلبها، فخالفه وسار إليها، واستخلف على مملكته عمرو بن عدي، فلما قرب قال لقصير: ما الرأي؟ قال: ببقَّة خلَّفت الرأي، ثم أدخل بعد اللتيا والتي على زبَّاء فأسرت به فأقعد على نطع وجيءَ بطست من ذهب وشدَّ عضداهُ بالأديم، كما يفعله الفصَّادون فقطعتْ راهشاه وهما العرقان في باطن الذِّراعين، فلما ضعفت يداه من سيلان الدم سقطتا، فقطر بعض الدم خارج الطِّست فقالت: لا تضيِّعوا دم ملكٍ فقال جذيمة: دعوا وما ضيعه أهله، وفي ذلك يقول عدي بن الأبرش:
~وقَدَدْتُ الأَدِيمَ لِرَاهِشِيهِ                     وأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا ومَيْنَا. منه.