نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: كيف يستحلف؟

          ░26▒ (باب) بالتنوين (كَيْفَ يُسْتَحْلَفُ) / على البناء للمفعول؛ أي: كيف يستحلفُ من يتوجَّه عليه اليمين (وَقَوْلُ اللهِ ╡: {ثُمَّ جَاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء:62]) والآية في سورة النِّساء وقبلها: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء:60] عن ابن عبَّاس ☻ : ((أنَّ منافقًا خاصم يهوديًّا فدعاه اليهوديُّ إلى النَّبي صلعم ، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف، ثمَّ إنَّهما احتكما إلى رسول الله صلعم ، فحكم لليهوديِّ فلم يرض المنافقُ، وقال: نتحاكمُ إلى عمر ☺ فقال اليهوديُّ لعمر ☺: قضَى لي رسول الله صلعم فلم يرض بقضائهِ وخاصم إليك، فقال عمر ☺ للمنافق: أكذلك؟ فقال: نعم. فقال: مَكانكما حتَّى أخرجَ إليكما، فدخلَ فأخذ سيفه، ثمَّ خرج فضرب به عُنق المنافق حتَّى برد وقال: هكذا أقضي لمن لم يرضَ بقضاء الله ورسوله فنزلت، وقال جبريل ◙: إنَّ عمر فرق بين الحقِّ والباطل، فسمِّي الفاروق)).
          والطَّاغوت على هذا كعب بن الأشرف، وفي معناه: من يحكم بالباطل ويؤثر لأجله، سمِّي بذلك لفرط طُغيانه أو لشبهه بالشَّيطان، أو لأنَّ التَّحاكم إليه تحاكمٌ إلى الشَّيطان من حيث إنَّه الحامل عليه؛ كما قال تعالى: {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء:60] وقرئ: (▬أن يكفروا بها↨) على أنَّ الطَّاغوت جمع لقوله تعالى: {أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ} [البقرة:257].
          {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:61] وهو مصدرٌ أو اسم للمصدر الذي هو الصَّدُّ، والفرق بينه وبين الصَّدِّ أنَّه غير محسوسٍ، والصَّد محسوس، ويصدُّون في موضع الحال {فَكَيْفَ} [النساء:62] يكون حالهم {إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} كقتل عمر المنافق / أو النَّقمة من الله {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} من التَّحاكم إلى غيرك وعدم الرِّضا بحكمك {ثُمَّ جَاؤُوكَ} حين يصابون للاعتذار عطفٌ على أصابتهم، وقيل: على يصدُّون وما بينهما اعتراضٌ {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} حال {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء:62] ما أردنا بذلك إلَّا الفصل بالوجه الحسن، والتَّوفيق بين الخصمين، ولم نردْ مخالفتك.
          وقيل: جاء أصحابُ القتيل طالبين بدمهِ، وقد أهدره الله تعالى، وقالوا: ما أردنا بالتَّحاكم إلى عمر إلَّا أن يحسنَ إلى صاحبنا ويوفِّق بينه وبين خصمه {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [النساء:63] من النِّفاق فلا يغني عنهم الكتمان والحلف الكاذب من العقاب {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} عن عقابهم لمصلحة في استبقائهم، أو عن قبول معذرتهم {وَعِظْهُمْ} بلسانك وكفهم عمَّا هم عليه {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ} أي: في معنى أنفسهم، أو خاليًا بهم، فإنَّ النُّصح في السِّرِّ أنجع {قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:61-63] يبلغ منهم ويؤثِّر فيهم، أمره بالتَّجافي عن ذنوبهم والنُّصح لهم والمبالغة فيه بالتَّرغيب والترهيب، وذلك مقتضى شفقة الأنبياء ‰.
          وفي بعض النُّسخ زيادة قوله: <وقول الله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ}>؛ أي: المنافقون <{بِاللِه إِنَّهُمْ لَمِنْكُم}[التوبة:56] > أي: لمن جملة المسلمين.
          وزيادة قوله: <{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ} [التوبة:62]> أي: على معاذيرهم فيما قالوا، أو تخلَّفوا <{لِيُرْضُوكُمْ} [التوبة:62]> أي: لترضوا عنهم والخطاب للمؤمنين، وزيادة قوله: <{فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} [المائدة:107]> أي: أصدق منها وأولى بأن تقبل.
          ذكر هذه الآيات التي فيها الحلف بالله المناسبة للتَّرجمة؛ إشارةً إلى أنَّ أصل اليمين أن تكون بلفظ: الله، لما يذكر عن قريب عن عبد الله بن مسعود ☺: أنَّ النَّبي صلعم قال: ((من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت)).
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: وغرضه بذلك أي: بذكر هذه الآيات أنَّه لا يجب تغليظ الحلف بالقول، وقد مرَّ القول في ذلك في باب: يحلف المدَّعى عليه حيث ما وجبت عليه اليمين.
          (يُقَالُ: بِاللَّهِ وَتَاللَّهِ وَوَاللَّهِ) / أشار بذلك إلى الاسم الذي يحلف به، وإلى حروف القسم، أمَّا الاسم الذي يحلف به فهو لفظة: الله، وهو الأصل فيه.
          وأمَّا حروف القسم فهي: الباء الموحدة، نحو: بالله، والتاء المثناة الفوقية، نحو تالله، والواو نحو والله، والكل ورد في القرآن. أمَّا الباء فكقوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} [النساء:62] وقد تقدَّم، وأمَّا التَّاء فكقوله تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف:91]، وأمَّا الواو فكقوله تعالى: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23].
          (وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم : وَرَجُلٌ حَلَفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا بَعْدَ الْعَصْرِ) هو طرفٌ من حديث أبي هريرة ☺ المتقدِّم قريبًا موصولًا في باب: اليمين بعد العصر [خ¦2672] لكن بالمعنى. وسيأتي في الأحكام بلفظ [خ¦7212]: ((فحلف لقد أعطي بها كذا فصدَّقه رجلٌ ولم يعط بها)) والمقصود من ذكره هنا قوله: ((حلف بالله)).
          (وَلاَ يُحْلَفُ بِغَيْرِ اللَّهِ) هو من كلام البخاريِّ لا من الحديث، ذكره تكميلًا للتَّرجمة، وذلك مستفادٌ من حديث ابنِ عمر ☻ ثاني حديثي الباب حيث قال: ((من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت)).