نجاح القاري لصحيح البخاري

باب بلوغ الصبيان وشهادتهم

          ░18▒ (باب) حدِّ (بُلُوغِ الصِّبْيَانِ وَ) حكم (شَهَادَتِهِمْ) التَّرجمة مشتملةً على حكمين:
          الأوَّل: بلوغ الصِّبيان. قال ابن بطَّال: أجمع العلماء على أنَّ الاحتلام في الرِّجال، والحيض في النِّساء هو البلوغ الذي تلزم به العبادات والحدود والاستئذان وغيره. وقال الحافظ العسقلانيُّ: والاحتلام: هو إنزال الماء الدَّافق سواء كان بجماعٍ أو غيره، وسواءٌ كان في اليقظة أو المنام، وأجمعوا على أنْ لا أثر للجماع في النوم إلَّا مع الإنزال.
          واختلفوا فيمن تأخَّر احتلامه من الرِّجال، أو حيضه من النِّساء: فقال اللَّيث وأحمد وإسحاق ومالك: الإنبات، أو أن يبلغ من السنِّ ما يعلم أنَّ مثله قد بلغ.
          وقال ابنُ القاسم: وذلك سبع عشرة، أو ثمان عشرة سنة، وفي النِّساء هذه الأوصاف، أو الحبل. إلَّا أنَّ مالكًا لا يُقيم الحدَّ بالإنبات إذا زنى، أو سرق ما لم يحتلم، أو يبلغ من السنِّ ما يعلم أنَّ مثله لا يبلغه حتَّى يحتلم، فيكون عليه الحدُّ، وأمَّا أبو حنيفة ☼ : فلم يعتبر الإنبات، وقال: حدُّ البلوغ في الجارية سبع عشرة، وفي الغلام تسع عشرة، وفي رواية: ثماني عشرة، مثل قول ابن القاسم، وهو قول الثوريِّ، ومذهب الشافعيِّ: أنَّ الإنبات علامة بلوغ الكافر لا المسلم، واعتبر خمس عشرة سنة في الذكور والإناث، ومذهب أبي يوسف ومحمد: كمذهب الشافعيِّ، وبه قال الأوزاعي وابن وهب وابن الماجشون على ما في حديث ابن عمر ☻ في هذا الباب، وفي «الكشاف»: وعن علي ☺: أنَّه كان يعتبر القامة ويقدِّره بخمسة أشبار. وبه أخذَ الفرزدق في قوله:
مَا زَالَ مُذْ عَقدَتْ يَدَاهُ إِزَارَهُ                     وَسَمَا فَأَدْرَكَ خمْسَةَ الأَشْبَار
          واعتبر بعضهم الإنبات.
          وعن عثمان ☺: أنَّه سأل عن غلامٍ فقال: هل اخضرَّ إزاره، أطلق اسم الحال على المحلِّ. انتهى.
          الثاني: شهادة الصِّبيان، واختلفوا فيها: نصَّ النَّخعي على أنَّه يجوز شهادتهم بعضهم على بعض، وعن عليِّ بن أبي طالبٍ ☺ وشريح والحسن والشعبي مثله. وعن شريح أنَّه كان يجيز شهادة الصبيان في السنِّ والموضحة، ويأباه فيما سوى ذلك، وفي رواية: أنَّه أجاز شهادة غلمان في أمة، وقضى فيها بأربعة آلاف. وكان عروة يجيز شهادتهم، وقال عبد الله بن الزُّبير ☻ : هم أحرى إذا سئلوا عمَّا رأوا أن يشهدوا، وقال مكحول: إذا بلغ خمس عشرة سنة فأجز شهادته، وقال القاسم وسالم: / إذا أنبت، وقال عطاء: حتَّى يكبروا. وقال ابن المنذر: وقالت طائفة: لا تجوز شهادتهم، روي هذا عن ابن عباس والقاسم وسالم وعطاء والشَّعبي والحسن وابن أبي ليلى والثَّوري والكوفيين والشَّافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأبي عبيد. وقالت طائفةٌ: تجوز شهادتهم بعضهم على بعض في الجراح والدم، روي ذلك عن عليٍّ وابنِ الزُّبير ♥ وشُريح والنَّخعيُّ وعروة والزُّهري وربيعة ومالك إذا لم يتفرَّقوا.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ ╡) بالجرِّ عطفًا على بلوغ الصِّبيان، وفي رواية: <وقول الله تعالى> بدل: ((╡)) ({وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا}[النور:59]) أي: وفي بيان قوله تعالى في أواخر سورة النور: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ} جمع: طفل، وهو الصَّبيُّ، ويقعُ على الذَّكر والأنثى والجماعة، ويقال: طفلة وأطفال، قاله ابن الأثير.
          وقال الجوهريُّ: الطِّفل: المولود، والجمع: أطفال، وقد يكون الطِّفل واحدًا وجمعًا، مثل الجنب، قال تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} [النور:31].
          وذكر في كتاب «خلق الإنسان» لثابت: ما دام الولد في بطن أمِّه فهو جنين، فإذا ولدته يسمَّى صبيًا ما دام رضيعًا، فإذا فطم سمِّى غلامًا إلى سبع سنين، ثمَّ يصير يافعًا إلى عشر حجج، ثم يصير خرورًا إلى خمس عشرة سنة، ثمَّ يصير قُمَّدًا إلى خمسٍ وعشرين سنة، ثمَّ يصير عَنَطْنَطًا إلى ثلاثين سنة، ثمَّ يصير صُمُلًّا إلى أربعين سنة، ثمَّ يصير كهلًا إلى خمسين سنة، ثمَّ يصير شيخًا إلى ثمانين سنة، ثمَّ يصير همًّا بعد ذلك فانيًا كبيرًا. انتهى.
          قال العينيُّ: فعلى هذا لا يقال الصبيُّ: إلَّا للرضيع ما دام رضيعًا، وعلى قول ابن الأثير: الصبيُّ والطِّفل واحد.
          {مِنْكُمُ} قال النسفيُّ: أي: من الأحرار دون المماليك هذا، فخرج العبدُ البالغ وسيِّدته من هذا الحكم، فافهم.
          {الْحُلُمَ} أي: البلوغ، ومنه: الحالم، وهو الَّذي يبلغُ مبلغَ الرِّجال، وهو من حلَم، بفتح اللام، والحِلم _بالكسر_: الأناة، وهو من حلُم، بضم اللام.
          {فَلْيَسْتَأذِنُوا} في جميع الأوقات في الدُّخول عليكم {كَمَا اسْتَأذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم}[النور:59] / أي: الأحرار الذين بلغوا الحلم من قبلهم وهم الرِّجال، أو الذين ذكروا من قبلهم في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27].
          فيه وجهان:
          أحدهما: أنَّه من الاستئناس الظَّاهر الذي هو خلاف الاستيحاش؛ لأنَّ الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذنُ له أم لا، فهو كالمستوحش من خفاء الحالِ عليه، فإذا أذن له استأنسَ. فالمعنى: حتَّى يؤذن لكم، كقوله تعالى: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب:53]، وهذا من باب الكناية والإرداف؛ لأنَّ هذا النوع من الاستئناس يَرْدف الإذن، فوضع موضع الإذن.
          والثاني: أن يكون من الاستئناسِ الذي هو الاستعلام والاستكشاف استفعال، من آنَسَ الشيء إذا أبصرهُ ظاهرًا مكشوفًا. والمعنى: حتَّى تستعملوا وتستكشفُوا الحال هل يراد دخولكم أم لا؟.
          ومنه قولهم: استأنِسْ هل ترى أحدًا، واستأنستُ فلم أر أحدًا؛ أي: تعرَّفتُ واستعملتُ، ويجوز أن يكون من الإِنْس، وهو أن يتعرَّف هل ثمَّة إنسان.
          {وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]: وعن أبي أيُّوب الأنصاري ☺: قلنا: يا رسول الله ما الاستئناس؟ قال: ((يتكلَّمُ الرَّجل بالتَّسبيحة والتَّكبيرة والتَّحميدة يتنحنحُ يؤذن أهل البيت، والتَّسليم أن يقول: السلام عليكم أأدخلُ؛ ثلاث مرَّات، فإن أذن له وإلا رجع)).
          وعن أبي موسى الأشعري ☺: أنَّه أتى باب عمر ☺ فقال: السَّلام عليكم أأدخل؟ قالها ثلاثًا، ثمَّ رجع وقال: سمعتُ رسول الله صلعم يقول: ((الاستئذانُ ثلاث)).
          واستأذن رجلٌ على رسول الله صلعم فقال: أألج؟ فقال صلعم لامرأةٍ يقال لها روضة: ((قومي إلى هذا فعلِّميه، فإنَّه لا يحسن أن يستأذنَ، قولي له يقول: السَّلام عليكم أأدخل)) فسمعَها الرَّجل، فقالها، فقال: ((ادخل)).
          وكان أهل الجاهليَّة يقول الرَّجل منهم إذا دخل بيتًا غير بيته: حُيِّيتم صباحًا، وحيِّيتم مساء، ثمَّ يدخل، فربَّما أصاب الرَّجل مع امرأتهِ في لحافٍ واحدٍ، فصدَّ الله عن ذلك، وعلَّم الأحسن الأجمل.
          وكم من باب من أبواب الدِّين هو / عند الناس كالشَّريعة المنسوخة قد تركوا العمل به، وباب الاستئذان من ذلك.
          بَيْنا أنت في بيتك، إذ رعَف عليك الباب بواحدٍ من غير استئذان ولا تحيَّة من تحايا إسلام ولا جاهليَّة، وهو ممَّن سمعَ ما أنزل الله فيه، وما قال رسول الله صلعم ، ولكن أين الأذن الواعية؟.
          وفي قراءة عبد الله: ((حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا)). وعن ابن عبَّاس ☻ وسعيد بن جبير: إنَّما هي: {حَتَّى تَسْتَأذِنُوا} فأخطأ الكاتبُ، قالوا: ولا يعوَّل على هذه الرِّواية، وفي قراءة أُبي: ((حتى تستأذنوا))، {ذَلِكُم} الاستئذان والتَّسليم {خَيْرٌ لَكُمْ} من تحيَّة الجاهليَّة، والدُّمُور، وهو الدُّخول بغير إذن، واشتقاقه من الدَّمار، وهو الهلاك، كأنَّ صاحبه دامر لعظم ما ارتكبَ. وفي الحديث: ((من سبقت عينه استئذانه فقد دَمر)). وروي: أنَّ رجلًا قال للنَّبي صلعم : أأستأذن على أمِّي؟ قال: ((نعم))، قال: إنَّها ليس لها خادمٌ غيرِي، أأستأذنُ عليها كلَّما دخلتُ؟ قال: ((أتحبُّ أن تراها عريانةً)) قال الرَّجل: لا، قال: ((فاستأذن)).
          {لَعَلَّكُم تَذَكَّرُونَ} [النور:27]: أي: أنزل عليكم، أو قيل لكم هذا إرادة أن تذكروا وتتَّعظوا، وتعملوا بما أمرتم به في باب الاستئذان.
          {فَإِنْ لَم تَجِدُوا فِيْهَا أَحَدًا} [النور:28] من الآذنين {فَلَا تَدْخُلُوهَا} واصبروا {حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} أي: حتَّى تجدوا من يأذن لكم، ويحتمل أن يكون المعنى: فإن لم تجدوا فيها أحدًا من أهلها، ولكم فيها حاجة فلا تدخلوها إلَّا بإذن أهلها، وذلك أنَّ الاستئذان لم يشرعْ؛ لئلَّا يطَّلع الدَّامر على عورة، ولا تسبق عينه إلى ما لا يحلُّ النَّظر إليه فقط، وإنَّما شرع؛ لئلا يوقف على الأحوال التي يَطويها الناس في العادة عن غيرهم، ويتحفَّظون من اطِّلاع أحد عليها، ولأنَّه تصرُّفٌ في ملك غيرك، فلا بدَّ من أن يكون برضاه، وإلَّا أشبه الغصب والتغلُّب.
          {وَإِنْ قِيْلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} أي: لا تُلِحُّوا في إطلاق الإذن، ولا تلجُّوا في تسهيل الحجاب، ولا تقفوا على الأبواب منتظرين؛ لأنَّ هذا ممَّا يجلب الكراهة، ويقدحُ / في قلوب الناس، خصوصًا إذا كانوا ذوي مروءة ومرتاضين بالآدابِ الحسنة، فإذا نهي عن ذلك لأدائه إلى الكراهية وجب الانتهاء عن كلِّ ما يؤدِّي إليها من قرع الباب بعُنْفٍ، والتَّصييح بصاحب الدَّار، وغير ذلك ممَّا يدخل في عادات من لم يتهذَّب من أكثر النَّاس.
          وعن أبي عُبيد: ما قرعتُ بابًا على عالمٍ قط، فإن قلت: فإذا عرض أمرٌ في دار من حريق، أو هجوم سارقٍ، أو ظهور منكرٍ يجب إنكاره؟.
          قلت: ذلك مستثنى بالدَّليل.
          {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} أي: الرُّجوع لكم وأطهر؛ لما فيه من سلامة الصُّدور، والبُعد من الرِّيبة، أو أنفع وأنمى خيرًا لدينكم ودنياكُم.
          {وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [النور:28] فيعلمُ ما تأتون وما تذرون ممَّا خوطبتُم به، فيُجازيكم عليه.
          رجعنا إلى ما نحن فيه فمعنى الآية والله أعلم: أنَّ الأطفال مأذونٌ لهم في الدُّخول بغير إذنٍ إلَّا في العورات الثَّلاث، فإذا اعتادَ الأطفال ذلك، ثمَّ خرجوا من حدِّ الطُّفولية بأن يحتلموا، أو يبلغوا السن الذي يحكم فيه عليهم بالبلوغ، وجب أن يفطموا عن تلك العادة، ويحملوا على أن يستأذنوا في جميع الأوقات كالرِّجال الكبار الَّذين لم يعتادوا الدُّخول عليكم إلَّا بإذنٍ، وهذا ممَّا النَّاس منه في غفلةٍ، وهو عندهم كالشَّريعة المنسوخة.
          وعن ابن عبَّاس ☻ : آية لا يؤمنُ بها أكثر الناس آية الإذن، وإنِّي لآمر جارتي (1) أن تستأذن عليَّ، وسأله عطاء: أأستأذن على أختي؟ قال: نعم، وإن كانت في حجرك تمونها، وتلا هذه الآية.
          وعنه: ثلاث آيات جحدهنَّ النَّاس: الإذن كله، وقوله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، فقال ناس: أعظمكم (2) بيتًا، وقوله: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} [النساء:8].
          وعن ابن مسعودٍ ☺: عليكم أن تستأذنوا على آبائكم وأمَّهاتكم وأخواتكم. وعن الشعبيِّ: ليست منسوخة، فقيل له: إنَّ الناس لا يعملون بها، فقال: الله المستعان.
          وعن سعيد بن جبير: يقولون: هي منسوخةٌ، لا والله ما هي منسوخةٌ، ولكن النَّاس تهاونوا بها، ووجه دخول هذه الآية في الترجمة: أنَّ فيها تعليق الحكم ببلوغ الحلم، والترجمة في بلوغ الصِّبيان. /
          ثم كمَّل الله تعالى الآية بقوله:
          {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ} أي: أحكامه {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بأحوالكم {حَكِيمٌ}[النور:58] فيما يشرع لكم، كرَّره بعد ما ذكره في الآية المتقدِّمة تأكيدًا ومبالغة في الأمر بالاستئذان، ثمَّ اعلم أنَّه تبارك وتعالى قد أمرَ أن يستأذنَ العبيد والأطفال الذين لم يحتلموا في الدُّخول على الموالي والأولياء ثلاث مرَّات في اليوم واللَّيلة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} [النور:58] خطاب للرِّجال والنِّساء غلب فيه الرِّجال.
          {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور:58] من العبيد، وقيل: من العبيد والإماء {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} والصِّبيان الَّذين لم يبلغوا من الأحرار، فعبَّر عن البلوغ بالاحتلام؛ لأنَّه أقوى دَلائله.
          {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} في اليوم واللَّيلة مرَّةً {مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ} لأنَّه وقت القيام من المضاجع، وطرح ثياب النَّوم، ولُبس ثياب اليقظة، ومحلُّه النَّصب بدلًا من ثلاث مرَّات، أو الرفع خبرًا لمحذوفٍ؛ أي: هي من قبل.
          {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ}؛ أي: ثيابكم لليقظةِ للقيلولةِ {مِنَ الظَّهِيرَةِ} بيان للحين {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} لأنَّه وقت التجرُّد من ثياب اليقظةِ، والالتحاف بثياب النُّوم واللَّحاف.
          {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} أي: هي ثلاثُ أوقات يختلُّ فيها تسترُّكم وتحفُّظكم، والعورة الخلل.
          ومنها: أعور الفرس: إذا بدا فيه خللٌ، وأعور المكان، والأعور: المختلُّ العين. ويجوز أن يكون قوله: {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} مبتدأ، وخبره: قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} أي: بعد هذه الأوقات في ترك الاستئذان، وليس فيه ما ينافي آية الاستئذان فينسخها؛ لأنَّه في الصِّبيان ومماليك المدخول عليه، وتلك في الأحرارِ البالغين.
          {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} أي: هم طوَّافون استئناف لبيان العذر المرخَّص في ترك الاستئذان بعد هذه الأوقات؛ يعني _والله أعلم_: أنَّ بكم وبهم حاجة إلى المخالطةِ والمداخلةِ.
          {بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} يطوفون عليكم للخدمةِ، وتطوفون / عليهم للاستخدامِ، فلو جزم الأمر بالاستئذان في كلِّ وقتٍ؛ لأدَّى إلى الحرج.
          وقوله تعالى: {بَعْضُكُمْ} مرفوعٌ بالابتداء خبره على بعض على معنى طائف على بعض، وحذف؛ لأنَّ طوافون يدلُّ عليه، ويجوز أن يرتفعَ بيطوف مضمرًا لتلك الدَّلالة.
          {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:58] روي: أنَّ مُدْلِج بن عَمرو وكان غلامًا أنصاريًّا أرسله رسول الله صلعم وقت الظُّهر إلى عمر ☺ ليدعوه، فدخل عليه وهو نائمٌ وقد انكشفَ عنه ثوبه، فقال عمر ☺: لوددت أنَّ الله ╡ نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا أن لا يدخلوا علينا هذه السَّاعات إلَّا بإذن، ثمَّ انطلق معه إلى النَّبي صلعم ، فوجده وقد أنزلت عليه هذه الآية، وهي إحدى الآيات المنزلة بسبب عمر ☺.
          وقيل: نزلت في أسماء بنت أبي مرثد قالت: إنا لندخل على الرَّجل والمرأة، ولعلَّهما يكونان في لحافٍ واحد. وقيل: دخل عليها غلامٌ كبيرٌ لها في وقت كرهت دخوله، فأتتْ رسول الله صلعم فقالت: إنَّ خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها، فنزلت.
          تتمة: في «فتاوى قاضي خان»: والعبدُ في النَّظر إلى مولاته الحرَّة التي لا قرابة بينه وبينها بمنزلة الرَّجل الأجنبيِّ ينظر إلى وجهها وكفَّيها، ولا ينظرُ إلى ما لا ينظر الأجنبي من الحرَّة الأجنبية، سواء كان العبد خصيًّا أو فحلًا إذا بلغ مبلغَ الرِّجال.
          وفي «تتمة الفتاوى»: العبدُ يدخل على مولاته بغير إذنها بالإجماع، وهو في النظر إليها بمنزلة الأجنبيِّ حتَّى ينظر إلى وجهها وكفَّيها، ولا ينظر إلى مواضع زينتها الباطنة عندنا.
          وقال مالك، وهو أحدُ قولي الشَّافعي: يحلُّ له في سيِّدته ما يحلُّ للمحرم، وأجمعوا أنَّه لا يسافر بها، والله تعالى أعلم.
          (وَقَالَ مُغِيرَةُ) بضم الميم وكسرها وبالألف واللام وبدونها / هو: ابنُ مقسمٍ الضَّبي الكوفيُّ الفقيه الأعمى، وكان من فقهاء إبراهيم النَّخعيِّ، وعن يحيى: ثقةٌ مأمونٌ، وكان عثمانيًا، مات سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وكان ممَّن أخذ عن أبي حنيفة ☼ ، وكان يُفتى بقوله، ويحتجُّ به.
          (احْتَلَمْتُ وَأَنَا ابْنُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً) وجاء مثله عن عَمرو بن العاص، فإنَّهم ذكروا: أنَّه لم يكن بينه وبين ابنه عبد الله بن عَمرو ☻ في السنِّ سوى اثنتي عشرة سنة.
          (وَبُلُوغُ النِّسَاءِ فِي الْحَيْضِ) هو من الترجمة. وقوله: ((وبُلُوغ)) بالجرِّ عطفًا على قوله: ((وشهادتهم)) أي: وفي حكم بلوغ النساء في الحيض، ويجوز رفعه على أن يكون مبتدأ خبره في الحيض.
          (لِقَوْلِهِ ╡) وفي نسخة: <تعالى> بدل: ╡ ({وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} [الطلاق:4] إِلَى قَوْلِهِ: {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}) والآية في سورة الطلاق: {وَاللَّائِي} أي: النِّساء اللاتي {يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} أي: لا يرجون أن يحضن {مِنْ نِسَائِكُمْ} لكبرهنَّ {إِنِ ارْتَبْتُم} [الطلاق:4] أي: إن شككتُم في عدتهنَّ.
          وقال القاضي: أي: جهلتُم، وقال السعديُّ: الظَّاهر: أنَّه لا منع عن إبقاء الشكِّ على حقيقته، بل يؤيِّد الرواية ذلك؛ لأنَّ الظاهر أنَّ سؤالهم لتردِّدهم في عدتهنَّ. انتهى.
          وذلك أنَّه روي: لما نزل قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] قالوا: قد عرفنا عدة ذات الأقراء، فما عدَّة اللَّائي لا يحضنَ، فنزلت، فتأمل.
          {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق:4]خبر مبتدأ هو قوله: {واللائي يئسن} وقوله: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} اعتراضٌ، وجواب الشَّرط محذوفٌ؛ أي: إن ارتبتم فيها فاعلموا أنَّها ثلاثة أشهر، كذا قالوا.
          وقيل: معنى {إِنِ ارْتَبْتُمْ}؛ أي: شككتُم في دم البالغات مبلغ اليأس، وقد قدَّروه بستين سنة وبخمس وخمسين سنة، أهو دم حيضٍ أو استحاضة؟ فعدَّتهن ثلاثة أشهر، وإذا كانت هذه عدَّة المرتاب بها، فغير المرتاب بها أولى بذلك.
          {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ}[الطلاق:4] أي: واللَّائي لم يحضنَ بعدُ كذلك.
          وقال الزمخشريُّ: واللَّائي لم يحضنَ من الصِّغار، والمعنى: فعدَّتهن / ثلاثة أشهر، فحذف؛ لدَلالة المذكور عليه. انتهى.
          والأوَّل أولى؛ أي: لأنَّ فيه تقليل الحذف ما أمكن، ولو عطف قوله: واللَّائي لم يحضنَ على المبتدأ، وجعل قوله: {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} خبرًا عنهما لم يبعد كما أشار إليه أبو حيَّان.
          {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ} أي: الحبالى {أَجَلُهُنَّ} أي: منتهى عدَّتهن {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] اللَّفظ مطلقٌ في أولات الأحمال، فاشتمل على المطلقات والمتوفَّى عنهنَّ زوجهنَّ، والمحافظة على عمومهِ، والعمل بحكمه في جميع ما تناوله أولى من محافظةِ عموم قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة:234]، والعملُ بعمومه، وذلك لأنَّ عموم ذوات الأحمال بالذَّات، فإنَّ الجمع المعرَّف من صيغ العُموم.
          وعموم أزواجًا بالعرض؛ أي: بكونه واقعًا في حيِّز صلة العام، وإلَّا فالجمع المنكر لا عموم له في المختار، وكون التَّقدير: وأزواج الذين يتوفون ليس بمتعيَّنٍ حتى يقال: إنه جمع معرَّف أيضًا، ولِمَا بالذَّات رجحانٌ على ما بالعرض، على أنَّ الحكم هاهنا معلَّل بكون المعتدَّة ذات حمل، فبراءة الرَّحم عن حقِّ الغير تصلح أن تكون مبيحًا للتزوُّج بآخر، ويعقل ذلك وهو ظاهر، بخلاف الآية الأخرى حيث لا يعقل تأثير كون المرأة متوفَّى عنها زوجها في تربُّصها أربعة أشهر وعشرًا، وإنَّما هو أمر تعبُّدي، وللمعلَّل قوَّةً على غيره(3) .
          ولأنه صحَّ أنَّه روت أمُّ سلمة ♦: أنَّ سُبَيعة بنت الحارث الأسلميَّة ولدت بعد وفاةِ زوجها بليالٍ، فذكرتْ ذلك لرسول الله صلعم فقال لها: ((قد حللت فانكحي)).
          وكان ابن مسعود وأبيٌّ وأبو هريرة ♥ لا يفرقون، ولأنَّه متأخِّرُ النزول؛ لقول ابن مسعود ☺: من شاء باهلته أنَّ سورة النساء القصرى نزلت بعد سورة النساء الطولى، يعني: سورة البقرة، فتقديمه وترجيحه والعمل بعمومه / تخصيص ونسخ لعموم الآية الأخرى، وتقديم الآخر بناء للعام على الخاص؛ أي: تخصيص له مع تأخُّره نزولًا.
          والمراد بالعام هنا: قوله: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ} [الطلاق:4]؛ لأنَّ له جهة عموم أيضًا، وبالخاص آية البقرة؛ لأنَّها خاصٌّ من وجهٍ، والأوَّل أرجح للوفاق عليه، فإن الحنفيَّة يجعلون المتأخر المتراخي ناسخًا لا مخصَّصًا، والشافعيَّة يبنون العام على الخاصِّ ويخصصونه به، سواء علم تأخُّر الخاص أم لا.
          هذا وإن ارتفعت حيضة المرأة، وهي شابَّة، فإن ارتابت أحاملٌ هي أم لا، فإن استبان حملها فأجلها أن تضعَ حملها، وإن لم يستبن فاختلف فيه: فقال بعضهم: يستأنى بها، وأقصى ذلك سنة، وهذا مذهب مالك وأحمد وإسحاق وأبي عبيد، ورووا ذلك عن عمر ☺ وغيره. وأهل العراق يرون عدَّتها بثلاث حيض بعدما كانت حاضت في باقي عمرها، وإن مكثت عشرين سنة إلى أن تبلغَ من الكبر مبلغًا تيأس من الحيض، فتكون عدتها بعد الإياس ثلاثة أشهر.
          وهذا هو الأصحُّ من مذهب الشافعيِّ، وعليه أكثر العلماء، وروي ذلك عن ابن مسعودٍ ☺، وأصحابه، ووجه دخول الآية في الترجمة: أنَّ فيها تعليق الحكم في العدة بالأقراء على حصول الحيض، وأمَّا قبله وبعده فبالأشهر، فدلَّ على أنَّ وجود الحيض ينقل الحكم، والله أعلم.
          (وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ) بن حي بن مسلم بن حبَّان، أبو عبد الله الهمداني الكوفيُّ العابد أحد الأعلام، ولد سنة مائة، ومات سنة تسع وتسعين ومائة.
          (أَدْرَكْتُ جَارَةً لَنَا جَدَّةً) بالنصب على أنَّه بدل من جارة (بِنْتَ) منصوب على أنَّه صفة لجدة (إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً) وتصوير ذلك: أنَّ هذه حاضت وهي بنت تسع سنين، ووضعت بنتًا لاستكمال عشر، ووقع لبنتها كذلك، وأقلُّ ما يمكن مثله في تسع عشرة سنة.
          وقد ذكر الشافعيُّ أيضًا: أنَّه رأى جدَّة بنت إحدى وعشرين، وأثر الحسن هذا روي موصولًا في «المجالسة» للدينوريِّ من طريق يحيى بن آدم عنه، وزاد فيه: أقلَّ أوقات الحمل تسع سنين.


[1] في هامش الأصل: جارتي أي: امرأتي. منه.
[2] في هامش الأصل: أي: لا يعتبرون التقوى.
[3] يقصد التمييز بين (عموم بالذات) و(عموم بالعرض)، ينظر: البحر الرائق 4/227.