نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الشهداء العدول

          ░5▒ (بابٌ) بالتنوين (الشُّهَدَاءُ الْعُدُولُ) الشُّهداء جمع: شهيد، بمعنى الشَّاهد، والعدول جمع: عدل، والعدل المرضي عند الجمهور من يكون مسلمًا مكلَّفًا حرًا غير مرتكب كبيرة، ولا مصر على صغيرة. زاد الشَّافعي: وأن يكون ذا مروءة.
          ويشترط في قبول شهادته أن لا يكون عدوًا للمشهود عليه، ولا متَّهمًا فيها بجرِّ نفع أو دفع ضرٍّ، ولا أصلًا للمشهود له ولا فرعًا منه. واختلف في تفاصيل من ذلك فقيل: العدل من ظهر منه الخير. وقال إبراهيم: العدلُ الذي لم يظهر فيه ريبة.
          قال ابن بطَّال: وهو مذهبُ أحمد وإسحاق، وروى ابنُ أبي شيبة عن جرير، عن منصور، عن إبراهيم قال: العدلُ في المسلمين من لم يطعنْ في بطنٍ ولا فرجٍ.
          وقال الشَّعبي: تجوز شهادة المسلم ما لم يصب حدًّا، أو يعلم عنه جريمة في دينه، وكان الحسن يجيز شهادة من صلَّى إلَّا أن يأتيَ الخصم بما يجرحه.
          وعن حبيب قال: سأل عمر ☺ رجلًا عن رجل فقال: لا نعلم إلَّا خيرًا، قال: حسبك.
          وقال شريح: ادَّع وأكثرْ وأطنبْ وائت على ذلك بشهودٍ عدولٍ، فإنَّا قد أمرنا بالعدل، وأنت فسل عنه، فإن قالوا: الله يعلم؛ يفرَقوا أن يقولوا: هو مريبٌ، ولا تجوز شهادة المريب، وإن قالوا: علمناه عدلًا مسلمًا، فهو إن شاء الله كذلك، وتجوز شهادته.
          وقال أبو عبيد في كتاب «القضاء»: من ضيَّع شيئًا ممَّا أمرهُ الله ╡ به، أو ركب شيئًا ممَّا نهى الله عنه فليس بعدل. وعن أبي يوسف ومحمَّد والشَّافعي: من كانت طاعته أكثر من معاصيه، وكان الأغلب عليه الخير. وزاد الشَّافعي: والمروءة ولم يأت كبيرة يجب الحد بها، أو ما يشبهُ الحد قُبلت شهادته؛ لأنَّ أحدًا لا يسلم من ذنب، ومن أقام على معصيةٍ أو كان كثير الكذبِ غير مستترٍ لم تجز شهادته.
          وقال الطَّحاوي: / لا يخلو ذكر المروءة أن يكون ممَّا يحل، أو ممَّا يحرم، فإن كان ممَّا يحلُّ فلا معنى لذكرها، وإن كان ممَّا يحرمُ فهي من المعاصي.
          وقال الدَّاودي: العدلُ أن يكون مستقيمَ الأمر مؤدِّيًا لفروضه غير مخالفٍ لأمر العدول في سيرته وخلائقه، وغير كثير الخوض في الباطلِ، ولا متَّهم في حديثه، ولم يطَّلع منه على كبيرة أصرَّ عليها، ويختبر ذلك في معاملته وصحبته في السَّفر.
          قال: وزعم أهل العراق أنَّ العدالة المطلوبة في إظهار الإسلام مع سلامته من فسق ظاهر أو طعن خصم فيه فيتوقَّف في شهادته حتى تثبت له العدالة.
          وفي «الرسالة» عن الشَّافعي: صفة العدل هو العامل بطاعةِ الله، فمن رئي عاملًا بها فهو عدل، ومن عمل بخلافها كان خلاف العدل. وقال أبو ثور: من كان أكثر أعماله الخير، وليس بصاحب جريمة في دين، ولا مصرٍّ على ذنب وإن صغر قُبل وإن كان مستورًا، وكل من كان مقيمًا على ذنب لم تقبل شهادته.
          وقال ابن بطَّال: واتَّفق مالك والكوفيون والشَّافعي على أنَّ الشهود اليوم على الجرح حتى تثبت العدالة بخلاف عهد رسول الله صلعم . وقال أبو حنيفة: إلَّا شهود النَّكاح، فإنهم على العدالة، قال: وإنه تحكُّم، انتهى. وفيه نظرٌ فليتأمل.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ ╡) بالجرِّ عطفًا على قوله: الشهداء العدول (1) ({وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]) الآية في سورة الطلاق. قال القاضي: على الرجعة أو الفرقة تبريًا عن الريبة، وقطعًا للتنازع وهو ندب؛ كقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة:282]، وعن الشَّافعي وجوبه في الرجعة، انتهى.
          وقوله: تبريًا عن الرِّيبة، تعليل للإشهاد على الرَّجعة، فإنه إذا راجعها بلا إشهاد، فلربما يتهم بإمساك المطلَّقة. وفي «الهداية»: إذا انقضت العدة، فقال: قد كنت راجعتك في العدة فكذبته فالقول قولها؛ لأنَّه أخبر عمَّا لا يملك إنشاءه في الحال فكان متهمًا، ولا يمين عليها عند أبي حنيفة.
          (وَ{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]) الواو فيه عاطفة لا من القرآن، واحتج بقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] على أنَّ العدالة / في الشهود شرط وبقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ} على أنَّ الشهود إذا لم يرض بهم لمانع عن الشهادة لا تقبل شهادتهم.


[1] ذكر هناك أن باب بالتنوين فلا يصلح عطف الجر عليه إلا إن كان بالإضافة بلا تنوين.