نجاح القاري لصحيح البخاري

باب من أمر بإنجاز الوعد

          ░28▒ (باب مَنْ أَمَرَ بِإِنْجَازِ الْوَعْدِ) أي: الوفاء به، يقال: أنجزَ وعدَه إنجازًا، أوفى به، ونجزَ الوعد وهو ناجزٌ، إذا حصل وتمَّ.
          وقال الكرمانيُّ: وجه تعلُّقِ هذا الباب بأبواب الشهادات هو أنَّ وعد البرِّ كالشَّهادة على نفسه.
          وقال المهلَّب: إنجاز الوعد مأمورٌ به مندوبٌ إليه عند الجميع، وليس بفرضٍ؛ لاتفاقهم على أنَّ الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء، انتهى.
          وتعقَّبه العسقلانيُّ / بأنَّ نقل الإجماع في ذلك مردودٌ فإنَّ الخلاف فيه مشهورٌ، لكنَّ القائل به قليل. وقال ابنُ عبد البرِّ وابن العربي: أجلُّ من قال به عمر بن عبد العزيز. وعن بعض المالكيَّة: إن ارتبطَ الوعد بسببٍ وجبَ الوفاء به وإلَّا فلا، كمن قال لآخر: تزوَّج ولك كذا، فتزوَّج لذلك وجب الوفاء به، وخرَّج بعضُهم الخلاف على أنَّ الهبة هل تملك بالقبض أو قبله.
          قال الحافظ العسقلانيُّ: وقرأت بخط أبي ☼ في إشكالاتٍ على «الأذكار» للنوويِّ لم يذكر جوابًا عن الآية، والحديث يعني قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:3] وحديث آية المنافق قال: والدَّلالة للوجوب منهما قويَّة، فكيف حملوه على كراهةِ التَّنزيه مع الوعيد الشَّديد؟ وينظر هل يمكن أن يقال: يحرمُ الإخلاف ولا يجب الوفاء؛ أي: يأثم بالإخلاف ولا يلزمه الوفاء.
          هذا وقال العينيُّ: ولا خلاف أنَّه مستحسنٌ مندوبٌ إليه، وقد أثنى الله تعالى على من صدق وعده ووفى بنذره، وذلك من مكارم الأخلاق، ولمَّا كان الشَّارع صلعم أولى النَّاس بها وندبهم إليها أدَّى ذلك عنه خليفته الصِّدِّيق وقام فيه مقامه، ولم يسأل جابرًا البيِّنة على ما ادَّعاه على رسول الله صلعم من العدَّة؛ لأنَّه لم يكن شيئًا ادَّعاه جابر في ذمَّة رسول الله صلعم ، وإنما ادَّعى شيئًا في بيت المال والفيء، وذلك موكولٌ إلى رأي الإمام.
          (وَفَعَلَهُ الْحَسَنُ) أي: الأمر بإنجازِ الوعد، قاله الحافظ العسقلانيُّ.
          وقال الكرمانيُّ: الفعل بلفظ المصدر، والحسن صفة مشبَّهة صفة للفعل، وفي بعضها فعله بلفظ الماضي والحسن هو البصريُّ، وقال العينيُّ: الوجه الأول أحسنُ وأوجه على ما لا يخفى، ومعناه: فعل إنجاز الوعد الحسنِ فارتفاع الحسن في هذا الوجه على الوصفيَّة، وعلى الوجه الثاني بالفاعلية، انتهى.
          وأنت خبيرٌ بأنَّ الأمر بالعكس وعلى الأوَّل الظَّاهر أنَّ فعله مبتدأ والحسن خبره، أو أنَّه مجرورٌ عطف على إنجاز الوعدِ، وكذا الحسن مجرورٌ أيضًا، فافهم. /
          (وَذَكَرَ إِسْمَاعِيلَ) أي: ذكر الله إسماعيل ◙ في كتابه الكريم بقوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ} [مريم:54]، {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} وهذا الذي في المتن رواية النَّسفيِّ، وفي رواية غيره: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ} إلى آخره.
          وروى ابنُ أبي حاتم من طريق الثوريِّ أنَّه بلغه أنَّ إسماعيل ◙ دخل قريةً هو ورجل فأرسله في حاجةٍ، وقال له: إنَّه ينتظره فأقامَ حولًا في انتظارهِ، ومن طريقِ ابن شوذب أنَّه اتَّخذ ذلك الموضع مسكنًا فسمِّي من يومئذٍ صادقَ الوعد.
          وقال صاحب «الكشاف»: وناهيك أنَّه وعد من نفسه الصبر على الذَّبح فوفى حيث قال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
          هذا وأغرب الكرمانيُّ حيث قال: ولفظ ذكر مصدر، وكأنَّه عطفه على قوله: ((وفعله)) على أنَّه مصدرٌ أيضًا فتدبَّر.
          (وَقَضَى ابْنُ الأَشْوَعِ بِالْوَعْدِ) أي: بإنجاز الوعدِ، وابن الأَشْوَع _بفتح الهمزة وسكون الشين المعجمة وفتح الواو وآخره عين مهملة_ هو سعيد بن عمرو بن الأشوع الهمدانيُّ قاضي الكوفة في زمان إمارة خالد القسري على العراق، وذلك بعد المائة، مات في ولاية خالد، وذكره ابن حبَّان في «الثقات». وقال يحيى بنُ معين: مشهورٌ يعرفه النَّاس، وقد مرَّ في الزكاة.
          (وَذَكَرَ) أي: ابن الأشوع (ذَلِكَ) أي: القضاء بإنجاز الوعد (عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُب) وقع ذلك في «تفسير إسحاق بن راهويه» (وَقَالَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ) بكسر ميم المِسور، وفتح ميمي مَخرمَة ☺ (سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم ، وَذَكَرَ) أي: والحال أنَّه قد ذكر النَّبي صلعم (صِهْرًا لَهُ) يعني: أبا العاص بن الربيع زوج زينب بنت النَّبي صلعم ، وقيل: يعني: أبا بكرٍ ☺.
          واعلم أنَّ الأَخْتَان من قبل المرأة، والأحماء من قبل الرَّجل، والصِّهر يجمعهما، وكان صلعم صهر أبي بكرٍ ☺؛ لأنَّه كان زوج بنته عائشة الصِّدِّيقة ☻ .
          (قَالَ: وَعَدَنِي) أي: قال صلعم : ((صهري وعدني)) (فَوَفَى لِي) ويروى: <فوفاني>، ويروى: <فأوفاني> (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هو البخاريُّ نفسه: (وَرَأَيْتُ / إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ) أي: ابن راهويه (يَحْتَجُّ بِحَدِيثِ ابْنِ أَشْوَعَ) هو الحديث الذي ذكره عن سمُرة بن جندب، وأراد به أنَّه كان يحتجُّ به في القول بوجوب إنجازِ الوعد.
          ووقع في كثيرٍ من النُّسخ: ذكر إسماعيل بين التَّعليق عن ابن أشوع، وبين نقل البخاريِّ عن إسحاق، والذي وقع في نسختنا أولى وأوجه كما لا يخفى.