نجاح القاري لصحيح البخاري

باب ما قيل في شهادة الزور

          ░10▒ (باب مَا قِيلَ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ) من التَّغليظ والوعيد، والزُّور: وصف الشَّيء بخلافِ صفته / فهو تمويه الباطل بما يوهم أنَّه حقٌّ، والمراد به هنا: الكذب.
          (لِقَوْلِ اللَّهِ ╡: {وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ}) أي: لا يشهدون شهادة الزُّور، فحذف المضاف وأُقيم المضاف إليه مقامه؛ أي: لا يقيمون الشَّهادة الباطلة، قاله ابن طلحة، أو لا يحضرون محاضر الكذب ومجالس الخطَّائين، ولا يقربونها تنزهًا عن مخالطة الشَّر وأهله، وصيانة لدينهم عمَّا يثلِمه؛ لأنَّ مشاهدَة الباطل شركة فيه، ولذلك قيل في النَّظارة إلى كلِّ ما لم تسوِّغه الشَّريعة: هم شركاء فاعليه في الإثم؛ لأنَّ حضورهم ونظرهم دليل الرِّضا به وسبب وجوده والزِّيادة فيه؛ لأنَّ الذي سلَّط على فعله هو استحسان النَّظارة، ورغبتهم في النَّظر إليه.
          وفي مواعظ عيسى بن مريم ♂: إيَّاكم ومجالسة الخطَّائين، وعن قتادة: مجالسُ الباطل، وعن ابن الحنفيَّة: مجالس اللَّهو والغناء، وعن مجاهد: أعيادُ المشركين. وقيل: مجلسًا كان يشتم فيه صلعم ، وقيل: مجلسًا تعقد فيه العقود على المعاصي، وأكثر المفسِّرين فسَّروا الزُّور بالشِّرك.
          {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72] اللَّغو: كلُّ ما ينبغي أن يُلغى ويُطرح، والمعنى: وإذا مرُّوا بأهل اللَّغو والمشتغلين به مرُّوا مُعْرضين عنه مُكْرِمين أنفسهم عن الوقوف عليه والخوض فيه، كقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}(1) [القصص:55] . وعن الحسن: لم تسفِّههم المعاصي، وقيل: إذا سمعوا من الكفار الشَّتم والأذى أعرضوا وصفحوا، وقيل: إذا ذكروا النِّكاح كَنوا عنه.
          وقال العينيُّ: ذكره هذه القطعة من الآية في معرض التَّعليل لما قيل في شهادة الزُّور من الوعيد والتَّهديد لا وجه له؛ لأنَّ الآية سيقتْ في مدح الذين لا يشهدون الزُّور، وما قبلها أيضًا في مدح التَّائبين العاملين الأعمال الصَّالحة، وتمام الآية أيضًا: في مدح الذين إذا سمعُوا اللَّغو مرُّوا كرامًا، وكذا ما بعدها من الآيات.
          وقال الحافظ العسقلاني: أشار إلى أنَّ الآية سيقت في ذمِّ متعاطي شهادة الزُّور وهو / اختيارٌ منه لأحد ما قيل في تفسيرها.
          وتعقَّبه العينيُّ: بأنَّه لم يقل به أحد من المفسِّرين، وإنَّما اختلفوا في تفسير الزُّور، فقال أكثرهم: الزُّور: الشِّرك، وقيل: شهادة الزُّور، قاله ابنُ طلحة، وقيل غير ذلك.
          هذا وأنت خبيرٌ بأنَّه غدرٌ كلِّي، فإنَّه إذا فسَّر الزُّور بشهادة الزُّور فقد سيقت الآية لذم مُتعاطيها، فكيف يقول: لم يقل به أحدٌ من المفسِّرين؟.
          هذا وقال الطَّبري: أصل الزُّور: تحسين الشَّيء ووصفه بخلاف صفته حتَّى يخيَّل لمن سمعَه أنَّه بخلاف ما هو به.
          قال: وأولى الأقوال عندنا: أنَّ المراد به مدح من لا يشهد شيئًا من الباطل، والله أعلم.
          (وَكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ) بالجرِّ عطفًا على شهادة الزُّور؛ أي: وما قيل في كتمان الشَّهادة بالحقِّ من الوعيد والتَّهديد (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة:283]) أي: لا تخفوها إذا دُعيتم إلى إقامتها، ومن كتمانها ترك التَّحمل عند الحاجة إليه ({وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}) أي: فاجرٌ قلبه وخصَّه بالقلب؛ لأنَّ الكتمان يتعلَّق به؛ لأنَّه يضمره فيه فأسنده إليه.
          ونظيرهُ العين زانية والأذن زانية، أو للمبالغة فإنَّه رئيس الأعضاء فإذا صلح صلحت، وإذا فسد فسدت فأفعاله أعظم الأفعال، وكأنَّه قيل: تمكن الإثم في نفسه وأخذ أشرف أجزائه وفاق سائر ذنوبه.
          ({وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة:283]) أي: يجازي على أداء الشَّهادة وكتمانها (تَلْوُوا أَلْسِنَتَكُمْ بِالشَّهَادَةِ) أشار بقوله: {تَلْوُوا} إلى ما في قوله تعالى: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:135] ؛ أي: وإن تلووا ألسنتكم بالشَّهادة، هذا تفسير ابن عبَّاس ☻ .
          أخرجه الطَّبري من طريق عليِّ بن أبي طلحة عنه في قوله تعالى: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} ؛ أي: تلووا ألسنتكم بالشَّهادة أو تعرضوا عنها.
          ومن طريق العوفي عن ابن عبَّاس ☻ في هذه الآية قال: تلوي لسانك بغير الحقِّ، وهي اللَّجلجة، فلا تقيم الشَّهادة على وجهها، والإعراض عنها التَّرك، وتلووا من اللي، وأصله: اللوي.
          قال الجوهريُّ: لوى / رأسه وألوى برأسه أمال وأعرض، وقوله تعالى: {وَإِنْ تَلْوُوا} بواوين، وروي عن ابن عبَّاس ☻ أيضًا أنَّه قال: هو القاضي يكون ليه وإعراضه لأحدِ الخصمين على الآخر، وقد قرئ: بواو واحدة مضمومة اللام، من وليت.
          وقال مجاهدٌ: أي: إن تلوا الشَّهادة فتقيموها، أو تعرضوا عنها فتتركوها، فإنَّ الله يجازيكم عليه، وعن مجاهدٍ أيضًا من طرق حاصلها: أنَّه فسَّر اللي بالتَّحريف، والإعراض بالتَّرك.
          وقال الكرماني: ولو فصل البخاري بين لفظ تلووا، ولفظ ألسنتكم بمثل؛ أي: أو، يعني: ليتميَّز القرآن عن كلامه؛ لكان أولى.
          وقال العينيُّ: بل كان التَّمييز بين القرآن وكلامه واجبًا؛ لأنَّ من لا يحفظ القرآن، أو لا يحسن القراءة يظنُّ أنَّ قوله: ألسنتكم، من القرآن، وكان الذي ينبغي أن يقول: وقوله تعالى: {وَإِنْ تَلْوُوا} [النساء:135] يعني: ألسنتكم بالشَّهادة، وإتيان كلمة منفردة من القرآن في معرض الاحتجاج لا يفيد ولا هو بطائل أيضًا.
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: وكأنَّ المصنف أشار بنظم كتمان الشَّهادة في قرن شهادة الزُّور إلى أنَّ كتمان الشَّهادة حرام كشهادة الزُّور؛ لكونهما سببًا لإبطال الحقِّ.
          وإلى الحديث الذي أخرجه أحمدُ وابن ماجه من حديث ابن مسعودٍ ☺ مرفوعًا: ((إنَّ بين يدي السَّاعة)) فذكر أشياء، ثمَّ قال: ((وظهور شهادة الزُّور، وكتمان شهادة الحقِّ)).


[1] في هامش الأصل: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} تكرمًا {وَقَالُوا} للاغين {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} مباركة لهم وتوديعًا ودعاء بالسلامة عما هم فيه {لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} لا نطلب صحبتهم ولا نريدها. قاضي.