نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت القديم

          ░7▒ (باب الشَّهَادَةِ عَلَى الأَنْسَابِ، وَالرَّضَاعِ الْمُسْتَفِيضِ) أي: الشَّائع الذائع (وَالْمَوْتِ الْقَدِيمِ) أي: العتيق الذي تطاول عليه الزمان، وحدَّه بعضُ المالكية: بخمسين سنة، وقيل: بأربعين.
          والحاصل: أنَّ هذه التَّرجمة معقودةٌ لشهادة الاستفاضة، وذكر منها النَّسب والرَّضاع والموت القديم. فأمَّا النَّسب: فيُستفاد من أحاديث الرَّضاع فإنَّه من لازمه، وقد نقل فيه الإجماع. وأمَّا الرَّضاع: فيُستفاد ثبوتها بالاستفاضة من أحاديث الباب، فإنَّها كانت في الجاهليَّة، وكان ذلك مستفيضًا عند من وقع له. وأمَّا الموت القديم: فيُستفاد حكمه بالإلحاق، قاله ابن المنيَّر، واحترز بالقديم عن الحادث.
          ومعنى الباب: أنَّ ما صحَّ من الأنساب والرَّضاع والموت بالاستفاضةِ، وثبتَ علمه في النفوس، وارتفعتْ فيه الريب والشَّك لا يحتاج فيه إلى معرفة عدد الَّذين بهم ثبت علم ذلك، ولا يحتاجُ إلى معرفة الشُّهود، ويجوز عند مالك والشَّافعي والكوفيين الشَّهادة بالسَّماع المستفيض في النَّسب والموت القديم والنِّكاح.
          وقال الطَّحاوي: أجمعوا على أن شهادة السماع تجوز في النكاح دون الطلاق، ويجوز عند مالك والشَّافعي: الشَّهادة على ملك الدار بالسَّماع، زاد الشَّافعي: والثوب أيضًا، ولا يجوز ذلك عند الكوفيين. وقال مالك: لا تجوز الشَّهادة على ملك الدَّار بالسَّماع على خمس سنين ونحوها، إلَّا ممَّا يكثر من السنين، وهو بمنزلة سماع الولاء. وقال ابن القاسم: وشهادة السَّماع إنما هي ممَّن أتت عليه أربعون سنة أو خمسون. وقال مالك: وليس أحد يشهد على أَحْبَاس الصَّحابة إلا على السماع. وقال عبد الملك: أقل ما يجوز في الشهادة على السماع أربعة شهداء من أهل العدل أنهم لم يزالوا يسمعون أن هذه الدار صدقة على بني فلان محبسة عليهم ممَّا تصدق به فلان، ولم يزالوا يسمعون أنَّ فلانًا مولى فلان قد تواطأ ذلك / عندهم، وفشا من كثرة ما سمعوه من العُدول ومن غيرهم، ومن النساء والخدام والعبيد.
          واختلف فيما يجوز من شهادة النساء في هذا الباب: فقال مالك: لا يجوز في الأنساب والولاء شهادة النساء مع الرجال، وهو قول الشَّافعي، وإنما تجوز مع الرجال في الأموال. وأجاز الكوفيون شهادة رجل وامرأتين في الأنساب.
          وأما الرَّضاع: فقال أصحابنا: يثبت الرَّضاع بما يثبت به المال، وهو شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، ولا تقبل شهادة النساء المنفردات. وعند الشَّافعي: تثبت بشهادة أربع نسوة. وعند مالك: بامرأتين، وعند أحمد: بمرضعة فقط.
          ثم اعلم أنه قد اختلف العلماء في ضابط ما يقبل فيه الشهادة بالاستفاضة، فيصح عند الشَّافعية في النَّسب قطعًا، والولادة والموت والعتق والولاء والوقف والولاية والعزل والنكاح وتوابعه، والتعديل والترجيح والوصية والرُّشد والسَّفَه، والملك على الراجح في جميع ذلك، وبلَّغها بعض المتأخرين من الشَّافعية بضعة وعشرين موضعًا، وهي مستوفاة في «قواعد العلائي». وعن أبي حنيفة: يجوز في النَّسب والموت والنِّكاح والدُّخول، وكونه قاضيًا. زاد أبو يوسف: والولاء، زاد محمَّد: والوقف.
          قال صاحب «الهداية»: وإنما أجيز استحسانًا، وإلَّا فالأصل أنَّ الشَّهادة لا بدَّ فيها من المشاهدة، وشرط قبولها: أن يسمعَها من جمعٍ يُؤمن تواطؤهم على الكذب، وقيل: أقل ذلك أربعة أنفس، وقيل: يكفي من عدلين، وقيل: يكفي من عدلٍ واحدٍ، إذا سكنَ القلب إليه، والله أعلم.
          (وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم : أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ) بفتح اللام، هو: ابنُ عبد الأسد المخزومي، أسلم وهاجر إلى الحبشة مع زوجته أم سلمة، ومات سنة أربع، فتزوجها رسول الله صلعم . وقال الذهبي: أبو سلمة بن عبد الأسد، توفي سنة اثنتين.
          (ثُوَيْبَةُ) بضم المثلثة وبالباء الموحدة على صيغة التَّصغير، مولاة أبي لهب أرضعت أولًا حمزة ☺، وثانيًا رسول الله صلعم ، / وثالثًا أبا سلمة ☺.
          قال الكرمانيُّ: واختلف في إسلامها. وقال الذَّهبي: يقال: إنها أسلمتْ.
          (وَالتَّثَبُّتِ فِيهِ) هذا من بقية التَّرجمة؛ أي: في أمر الرَّضاع، فإنَّه صلعم أمر فيه بالتَّثبت احتياطًا. وسيجيء في آخر حديث من أحاديث هذا الباب [خ¦2647] قال: ((يا عائشةُ انْظُرن من إخوانكنَّ، فإنما الرَّضاعة من المجاعة)).
          والمراد بالنظر هنا: التَّفكُّر والتَّأمل على ما يجيء إن شاء الله تعالى.