نجاح القاري لصحيح البخاري

باب شهادة المختبي

          ░3▒ (باب شَهَادَةِ الْمُخْتَبِي) بالخاء المعجمة؛ أي: المختفي عند التحمُّل هل يجوز ذلك أم لا؟ (وَأَجَازَهُ) أي: الاختباء عند تحمل الشَّهادة (عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ) بضم الحاء المهملة وبالمثلثة، هو: ابن عمرو بن عثمان بن عبد الله بن عَمرو بن مخزوم المخزومي من صغار الصَّحابة ♥ ، مات رسول الله صلعم وهو ابن ثنتي عشرة سنة، وهو أوَّل قرشي اتَّخذ بالكوفة دارًا، وكان له فيها قدر وشرف، مات بها سنة خمس وثمانين، ولأبيه صحبة، وليس له في هذا «الصَّحيح» ذكر إلا في هذا الموضع.
          وهذا التَّعليق رواه البيهقيُّ من حديث سعيد بن منصور: حَدَّثَنَا هُشيم: أنبأنا الشَّيباني، عن محمَّد بن عبد الله الثَّقفي: أنَّ عمرو بن حريث كان يجيزُ شهادته _يعني المختبي_ ويقول: كذلك يفعل بالخائن والفاجر.
          (قَالَ) أي: عمرو بن حريث (وَكَذَلِكَ) أي: بالاختباء عند تحمُّل الشَّهادة (يُفْعَلُ بِالْكَاذِبِ الْفَاجِرِ) كأنَّه أشار إلى السَّبب في قول شهادته، وأراد به المديون الذي لا يعترف بالدين ظاهرًا، ويقول في خلوته: أنا أقرُّ لك خاليًا، ولا أقرُّ لك عند البيِّنة، ثم يختلي به الدَّائن في موضع، وقد كان أخفى منه من يسمع إقراره بالدَّين، فإذا شهد بذلك بعد ذلك يسمع عند عَمرو بن حريث، وبه قال الشَّافعي في الجديد، وابن أبي ليلى ومالك وأحمد وإسحاق.
          وروي عن شريح والشَّعبي والنَّخعي: أنَّهم كانوا لا يجيزون شهادة المختبي، وقالوا: إنه ليس بعدل حين اختفى ممَّن يشهد عليه، وهو قول أبي حنيفة والشَّافعي في القديم. وقد روى ابن أبي شيبة من طريق الشَّعبي عن شريح: أنَّه كان لا يجيز شهادة المختبي.
          (وَقَالَ الشَّعْبِيُّ) عامر بن شراحيل (وَابْنُ سِيرِينَ) محمَّد عالم الرُّؤيا (وَعَطَاءٌ) هو: ابنُ أبي رباح (وَقَتَادَةُ) هو: ابنُ دعامة (السَّمْعُ شَهَادَةٌ) أي: السَّمع مطلقًا تحمل للشَّهادة.
          قال ابنُ المنذر: قال الشَّعبي: السَّمع شهادة، لكن أبى أن يجيز شهادة المختبي؛ لأنه ليس بعدل حين اختبى ممَّن يشهد عليه.
          ثم / قول الشَّعبي وصله ابن أبي شيبة عن هُشيم، عن مطرف، عنه، به.
          وروي عن الشَّعبي أنَّه قال: تجوز شهادة السَّمع إذا قال: سمعتُه يقول، وإن لم يشهده، وكذا روي عن عبيدة وإبراهيم قالا: شهادة السَّمع جائزة.
          قال الطَّحاوي في «مختصره»: يجوز للرَّجل أن يشهد بما سمعَ إذا كان معاينًا لمن سمعه منه، وإن لم يشهده على ذلك. فإن قيل: قد مرَّ أنَّ الشَّعبي لا يجوِّز شهادة المختبي، وقوله: السَّمع شهادة تعارضه.
          فالجواب: أنَّه يحتمل أن يفرِّق بأنَّه إنَّما ردَّ شهادة المختبي؛ لما فيها من المخادعة، ولا يلزم من ذلك رد شهادة السَّمع من غير قصد، وهو قولُ أحمد وإسحاق. وعن مالك أيضًا أنَّه قال: الحرص على تحمُّل الشَّهادة قادح، فإذا اختفى ليشهد فهو حرص، وأمَّا قول ابن سيرين وقتادة، فسيأتي في باب شهادة الأعمى، وكذلك قول عطاء.
          (وَكَانَ الْحَسَنُ) أي: البصري (يَقُولُ: لَمْ يُشْهِدُونِي عَلَى شَيْءٍ، وَإِنِّي سَمِعْتُ كَذَا وَكَذَا) وهذا التَّعليق وصله ابنُ أبي شيبة عن حاتم بن وردان، عن يونس بن عبيد، عن الحسن أنَّه قال: لو أنَّ رجلًا سمع من قوم شيئًا فإنَّه يأتي القاضي فيقول: لم يشهدوني، ولكن سمعتُ كذا وكذا، وهذا التَّفضيل حسنٌ؛ لأنَّ الله تعالى قال: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة:283] ولم يقل: الإشهاد، فيفترق الحال عند الأداء فإن قال: أشهدني لم يقبل، وإن قال: أشهد أنَّه قال كذا وكذا، قُبل.