نجاح القاري لصحيح البخاري

باب رمي المحصنات

          ░44▒ (باب: رَمْيِ الْمُحْصَنَاتِ) أي: حكم قَذْفِ الحرائِرِ العفيفات، ولا يختصُّ بالمزوَّجات، بل حكم البكر كذلك بالإجماع، وقول الله ╡: ({وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:4]) أي: يقذفون بالزِّنا الحرائر العفيفات المسلمات المكلَّفات، والقذفُ يكون بالزِّنا وبغيره.
          والمراد هنا: قَذْفُهنَّ بالزِّنا بأن يقول يا زانية؛ لذكر المُحْصَنات عقيب الزَّواني، ولاشتراط أربعة شهداء، وناب فيها ذِكْرُ رَمْيِ النِّساء عن ذِكْرِ رَمْيِ الرِّجال؛ لأنَّ حكمَ المحصن في القذفِ، كحُكْمِ المُحْصَناتِ قياسًا واستدلالًا، وأنَّ من قذفَ حرًّا عفيفًا عليه الحدُّ ثمانون، كمن قذفَ حرَّةً محصنةً، واختُلِفَ في حكم قذف الأرقَّاء، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى [خ¦6858].
          (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) على زناهنَّ برؤيتهم (فَاجْلِدُوهُمْ) أي: كلَّ واحدٍ منهم (ثَمَانِينَ جَلْدَةً) إن كان القاذف حرًّا ونصف ثمانين إن كان رقيقًا (وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً) أي: في شيءٍ (أَبَدًا) ما لم يتب، وعند أبي حنيفة: إلى آخر عمره (وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) لإتيانهم كبيرة (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا) عن القذف (مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا) أعمالهم (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ) لهم قذفهم (رَحِيمٌ) بإلهامهم التَّوبة؛ فَبِها ينتهي فِسْقُهم، وتُقْبَلُ شهادَتُهم / عند الشَّافعي.
          واعلم أنَّ الآيةَ الأُولى ساقها أبو ذرٍّ والنَّسفيُّ: إلى قوله: <{فَاجْلِدُوهُمْ}> فقال: <الآية>، وساقها غيرهما: إلى: <{غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:4-5]>، وساق الآية الثَّانية أبو ذرٍّ إلى قوله: <{لُعِنُوا} [النور:23]> وقال: <الآية>، وساق غيره إلى: <{عَذَابٍ عَظِيمٍ} [النور:23]>.
          هكذا: ({إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ} [النور:23]) السَّليمات الصُّدور، النَّقيَّات القلوب، اللَّاتي ليس فيهنَّ دهاءٌ ولا مكرٌ؛ لأنهنَّ لم يُجَرِّبن الأمور ({الْمُؤْمِنَاتِ}) بما يجب الإيمان به ({لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23]) جعل القَذَفَةَ ملعونين في الدُّنيا، وتوعَّدهم بالعذاب العظيم الأليم في الآخرة إن لم يتوبوا، وقيل: مخصوصٌ بمن قَذَفَ أزواجَه صلعم ذكر هاتين الآيتين؛ لأنَّ الأُولى تدلُّ على بيان حُكْمِ القَذْفِ، والثَّانية تدلُّ على أنَّه من الكبائر.
          وفي بعض الأصول وكذا في «فتح الباري»: <وقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور:4] بالزنا {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} الآية> كذا في رواية أبي ذرٍّ وَحْدَه. قال أبو ذرٍّ: كذا وقع في البخاريِّ: {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} والتِّلاوة: {وَلَمْ يَكُنْ} ونبَّه على أنَّه وقع فيه وهمٌ؛ لأنَّ التِّلاوةَ: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ} [النور:4] وهو كذلك، ولكن في إيرادها هنا تكرارًا؛ لأنَّها تتعلَّق باللِّعان، وقد تقدَّم قريبًا في باب من رمى امرأته [خ¦6842].