نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: البكران يجلدان وينفيان

          ░32▒ (بابٌ: الْبِكْرَانِ يُجْلَدَانِ وَيُنْفَيَانِ) هذه التَّرجمة لفظ خبر أخرجه ابنُ أبي شيبة من طريق الشَّعبي، عن مسروقٍ، عن أبي بن كعب ☺ مثله. والبِكْران: تثنية بِكر، بكسر الموحدة، من الرِّجال والنِّساء: وهو من لم يجامع في نكاحٍ صحيحٍ، وإنما ثنَّاه ليشمل الرَّجل والمرأة ويجلدان وينفيان كلاهما على البناء للمفعول؛ أي: إذا زنيا يجلدان وينفيان.
          وزاد الشَّيباني: والثَّيِّبان يُجْلَدَان ويُرْجَمَان. وأخرج ابن المنذر الزِّيادة بلفظ: والثَّيِّبان يُرْجَمان واللَّذان بلغا يجلدان وينفيان. ونقل محمد بن نصر في كتاب «الإجماع» الاتِّفاقَ على نفي الزَّاني إلَّا عن الكوفيين. ووافق الجمهور منهم ابن أبي ليلى واختلفَ القائلون بالتَّغريب فقال الشَّافعي والثوري وأبو داود والطَّبري بالتَّعميم. وفي قولٍ للشَّافعي: لا يُنْفَى الرَّقيق، وخصَّ الأوزاعيُّ النَّفيَ بالذكورية، وبه قال مالك وقيَّده بالحرِّ وبه قال إسحاق. وعن أحمد روايتان، واحتجَّ من شرط الحريَّة بأنَّ في نفي العبد عقوبةً لمالكه؛ لمنعه منفعته مدَّة نفيه وتصرُّف الشَّرع يقتضي أن لا يعاقب غير الجاني. ومن ثمَّة سقطَ فرض الحجِّ والجهاد على العبد.
          وقال ابنُ المنذر: أقسم النَّبي صلعم في قصَّة العسيف: ((أنَّه يُقْضَى فيه بكتابِ الله))، ثمَّ قال: ((إنَّ عليه جلدَ مائةٍ وتغريبَ عامٍ وهو المبيَّن في كتاب الله)). وخطب عمر ☺ بذلك على رؤوس الأشهاد، وعمل به الخلفاء الرَّاشدون فلم ينكرْه أحدٌ فكان إجماعًا.
          واختُلِفَ في المسافة التي يُنْفَى إليها؟ فقيل: هو إلى رأي الإمام، وقيل: يشترط مسافة القصر، وقيل: ثلاثة أيَّامٍ، وقيل: إلى يومين، وقيل: يوم وليلة، / وقيل: من عمل إلى عملٍ (1)، وقيل: إلى ميلٍ، وقيل: إلى ما ينطلق عليه اسم نفي. وشرط المالكيَّةُ الحبسَ في المكان الَّذي ينفى إليه.
          ({الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2]) مرفوعان على الابتداءِ، والخبرُ محذوف؛ أي: فيما فرض؛ أي: جلدهما، أو الخبر قوله: ({فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]) ودخلت الفاء في فاجلدوا لتضمنها معنى الشرط؛ لأنَّ اللامَ بمعنى الَّذي، وتقديره: الَّتي زنت والَّذي زنى فاجلدوهما والخطاب للأئمَّة؛ لأنَّ إقامةَ الحدِّ من الدِّين وهو على الكلِّ وقدم الزَّانية؛ لأنَّ الزنى في الأغلب يكون بتَعْرِيضِها للرَّجل، وعَرْضِ نفسها عليه، والجلد حُكْمٌ يختصُّ به من ليس بمحصنٍ لما دلَّ عليه أنَّ حدَّ المحصن هو الرَّجم، وزاد الشَّافعي عليه تغريبَ الحرِّ سنةً للحديث، وليس في الآية ما يدلُّ فيه لينسخَ أحدُهما الآخرَ.
          (وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا) أي: بسببهما (رَأْفَةٌ) أي: رحمةٌ، والمعنى: لا تخفِّفوا العذاب ولكن أوجعوهما (فِي دِينِ اللَّهِ) أي: في طاعته وإقامة حدوده فتعطِّلوه، أو تسامحوا فيه (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) أي: إن كنتم تصدِّقون بتوحيد الله ويوم البعث الَّذي فيه جزاء الأعمال، فإنَّ الإيمانَ يقتضي الجدَّ في طاعة الله والاجتهاد في إقامة أحكامه (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) اختلفوا في مبلغ عددها؛ فعن النَّخعي ومجاهد: أقلُّه رجلٌ واحدٌ فما فوقه، وعن عطاءٍ وعكرمة رجلان فصاعدًا، وعن الزُّهري: ثلاثة فصاعدًا، وعن ابن زيد: أربعة بعدد من يقبل شهادته على الزِّنى، وكذا عن مالك والشَّافعي وعن ربيعة: ما زاد عليها، وعن قتادة: نفرٌ من المسلمين، وعن الحسن: عشرة.
          وقال الزَّجاج: لا يجوز أن تكون الطَّائفةُ واحدًا؛ لأنَّ معناها معنى الجماعة، والجماعةُ لا تكون أقلَّ من اثنين.
          وقال غيرُه: لا يمنع ذلك على قول أهل اللُّغة؛ لأنَّ معنى طائفة قطعة، يقال: أكلتُ طائفةً من الشَّاة؛ أي: قطعةً منها، وذلك الشُّهود زيادة في التَّنكيل، فإنَّ التَّفضيح قد يُنَكِّلُ أكثرَ ممَّا يُنَكِّلُ التَّعذيب.
          ({الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور:3]) أي: لا يرغب الزَّاني في نكاح الصَّوالح من النِّساء، وكذلك / الزَّانية لا ترغب في نكاح الصُّلحاء من الرِّجال؛ لأنَّه لا مشاكلة عرفًا بين الجنسين؛ أي: جنس الزَّاني والزَّانية وجنس العفيف والعفيفة، وذَكَرَ هذه الآية لتعلُّقها بما قبلها. وسبب نزول هذه الآية ما قاله مجاهدٌ: إنَّه كان في الجاهليَّة نساءٌ يزنين فأراد ناسٌ من المسلمين نكاحهنَّ فنزلت.
          ({وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3]) الأخيار، وذلك في ضَعَفَةِ المهاجرين، أرادوا أن يتزوَّجوا بغايا يكرين أنفسهنَّ لينفقن عليهم من اكتسابهنَّ على عادة الجاهليَّة، فقيل: التَّحريم خاصٌّ بهم، وبه قال الزهري وقتادة، وقيل: عامٌّ، ونسخ بقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور:32] وروي ذلك عن سعيد بن المسيَّب والآية الأولى ناسخةٌ لقوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء:15] الآية، ولقوله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا} [النساء:16] فكلُّ من زنا منهما أوذي إلى الموت، قاله مجاهد. قال النَّحَّاس: لا خلاف في ذلك بين المفسِّرين. وسقط لأبي ذرٍّ من قوله: <{إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ} [النور:2]> إلى آخره، وقال بعد قوله: {فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2]: <الآية>.
          ثمَّ المراد بهذه الآية أنَّ الجَلْدَ ثابتٌ بكتاب الله ╡، وقام الإجماع ممَّن يُعْتَدُّ به على اختصاصه بالبِكْرِ وهو غيرُ المحصن.
          واختلفوا في كيفيَّة الجلد:
          فقال مالكٌ: يختصُّ بالظَّهْرِ لقولِه في حَديثِ اللِّعَان: ((البيِّنة، أو جلدٌ في ظهرك)). وقال غيره: تفرَّق على الأعضاء ويتقى الوجه والرَّأس، ويجلد في الزِّنى والشُّرب والتَّعزير قائمًا مُجَرَّدًا، والمرأة قاعدةٌ، وفي القذف وعليه ثيابه. وقال أحمدُ وإسحاق وأبو ثور: لا يجرَّد أحدٌ في الحدِّ، وليس في الآية للنَّفي ذكرٌ فتمسَّك به الحنفيَّة، وقالوا: لا يزاد على القرآن بخبر الواحد.
          والجواب: أنَّه مشهورٌ؛ لكثرة طُرقه وكثرة من عمل به من الصَّحابة، وقد عملوا بمثله، بل دونه كنقض الوضوء بالقهقهة في الصَّلاة وجواز الوضوء بالنَّبيذ وغير ذلك ممَّا ليس في القرآن. وقد أخرج مسلم من حديث عُبادة بن الصَّامت ☺: ((البكرُ بالبكرِ جلد مائةٍ وتغريب عامٍ، والثَّيِّب بالثَّيِّب جلد مائةٍ والرَّجم)).
          وأخرج الطَّبراني من حديث ابن عبَّاس ☻ / قال: كن يُحْبَسْنَ في البيوت إن ماتت ماتت، وإن عاشت عاشت؛ لمَّا نزلت: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15] حتَّى نزلت: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2].
          (قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ) أي: قال سفيان بن عيينة في تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} [النور:2] (رأفةٌ في إِقَامَةِ الْحُدُودِ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <في إقامة الحدود> كذا في رواية الأكثر، وسقط في رواية بعضهم، وفي رواية ابن عُلَيَّة: بلام وتحتية ثقيلة، وعليه جرى ابن بطَّال، واسم ابن عُلَيَّة: إسماعيل بن إبراهيم الأسدي البصري، وعُلَيَّة اسم أمِّه مولاة لبني أسد، والمعتمدُ هو الأول.
          وقد ذكر مُغلطاي في «شرحه» أنَّه رآه في «تفسير ابن عُيينة»، وقد وقع نظيره عند ابنِ أبي شيبة عن مجاهدٍ بسندٍ صحيحٍ إليه، وزاد بعد قوله: في إقامة الحدِّ، يقام ولا يعطل، والمراد بتعطيل الحدِّ تركه أصلًا، أو نقصه عددًا أو معنًى.


[1] في هامش الأصل: أي: من دولة إلى دولة.