نجاح القاري لصحيح البخاري

باب رجم المحصن

          ░21▒ (بابُ رَجْمِ الْمُحْصَنِ) إذا زنى، ووقع هنا قبل ذكر الباب عند ابن بطال: <كتاب الرجم> ثمَّ قال: <باب الرجم>، ولم يقع ذلك في الرِّوايات المعتمدة.
          والمحصَن، بفتح الصاد المهملة، على وزن اسم المفعول من الإحصان، وهو في اللُّغة المنع، وجاء فيه كسر الصاد، فمعنى الفتح أحصن نفسه بالتزوج عن عمل الفاحشة، ومعنى الكسر على القياس، وهو ظاهرٌ، والفتح على غير القياس.
          قال الحافظ العسقلاني: يمكن تخريجه على القياس، وهو أنَّ المراد هنا: من له زوجةٌ عقد عليها، ودخل بها وأصابها، فكأنَّ الَّذي زوجها له، وحمله على التَّزويج بها حصَّنه؛ أي: جعله في حصن من العقد، أو منعه عن عمل الفاحشة.
          وقال الرَّاغب: يقال للزَّوجة مُحْصَنةٌ؛ لأنَّ زوجَها أحصنها من نفسها. وقال ابنُ الأثير: وهو أحد الثَّلاثة التي جِئْنَ نَوادر، يقال: أَحْصَنَ فهو مُحْصَنٌ، وأَسْهَبَ فهو مُسْهبٌ، وألفجَ فهو مُلْقَحٌ.
          وقال ابن فارس، والجوهري: هذا أحد ما جاء على أفعل فهو مَفْعل _بالفتح؛ يعني: فتح الصاد_. وقال ثعلب: كلُّ امرئٍ عفيفٌ محصنٌ، وكلُّ امرأةٍ متزوِّجة، فبالفتح لا غير.
          وقالت الحنفيَّة: شروط الإحصان سبعة: الحريَّة، والعقل، والبلوغ، والإسلام، والوطء، والسَّادس الوطء بنكاحٍ صحيحٍ، والسَّابع كونهما مُحْصَنَين حالة الدُّخول بنكاحٍ صحيح.
          وقال أبو يوسف والشَّافعي وأحمد: الإسلام ليس بشرطٍ؛ لأنَّه صلعم ر|َجَمَ يهودِيَّين، وإنَّما كان ذلك بحكم التَّوراة قبل نزول آية الجلد في أوَّل ما دخل صلعم المدينة، وصار منسوخًا بها.
          وقال ابن المنذر: أجمعوا على أنَّه لا يكون / الإحصان بالنِّكاح الفاسد، ولا الشُّبهة. وخالفهم أبو ثور فقال: يكون محصنًا، واحتجَّ بأنَّ النِّكاح الفاسد يعطى أحكام الصَّحيح في تقريرِ المهر ووجوب العدَّة ولحوق الولد وتحريم الرِّبيبة. وأجيب: بعموم: ((ادرؤوا الحدود)).
          قال: وأجمعوا على أنَّه لا يكون بمجرد العقد محصنًا، واختلفوا إذا دخل بها، وادَّعى أنَّه لم يُصِبْهَا قال: حتَّى تقومَ البيِّنةُ، أو يُؤْخَذَ منه إقرارٌ، أو يُعْلَم له منها ولدٌ، وعن بعض المالكيَّة: إذا زنى أحد الزَّوجين، واختلفا في الوطء لم يصدَّق الزَّاني، ولو لم يَمْضِ لهما إلَّا ليلةٌ واحدةٌ، وأمَّا قبل الزِّنى فلا يكون إلَّا مُحْصَنًا ولو أقام معها ما أقام.
          واختلفوا إذا تزوَّج الحر أمةً هل تحصِّنه؟ فقال الأكثرون: نعم، وعن عطاء والحسن وقتادة والثَّوري والكوفيُّون وأحمد وإسحاق: لا.
          واختلفوا إذا تزوَّج كتابيَّة، فقال إبراهيم وطاوس والشَّعبي: لا تحصِّنه. وعن الحسن: لا تحصِّنه حتَّى يطأها في الإسلام، أخرجه ابن أبي شيبة. وعن جابر بن زيد وابن المُسَيَّب: تحصِّنه، وبه قال عطاء وسعيد بن جبير.
          وقال ابنُ بطال: أجْمَعَ الصَّحابةُ وأئمةُ الأمصار على أنَّ المُحْصَن إذا زنى عامدًا عالمًا مختارًا فعليه الرجم، ودفعَ ذلك الخوارج وبعض المعتزلة، واعتلوا: بأنَّ الرجمَ لم يُذْكَرْ في القرآن، وحكاه ابنُ العربي عن طائفة من أهل المغرب، ولعلَّهم من بقايا الخوارج.
          واحتجَّ الجمهور: بأن النَّبي صلعم رجم، وكذلك الأئمة بعده، وإلى ذلك أشار علي ☺ بقوله في أول أحاديث الباب: «رجمْتُها بسنةِ رسول الله صلعم ».
          وثبت في «صحيح مسلم»: عن عبادة بن الصَّامت ☺: أنَّ النَّبي صلعم قال: ((خذوا عنِّي قد جعل الله لهنَّ سبيلًا الثَّيِّب بالثَّيِّب الرَّجم)).
          وسيأتي في «باب رجم الحبلى من الزنى» [خ¦6830] من حديث عمر ☺: «أنَّه خطب فقال: إنَّ الله بعث محمَّدًا بالحق، وأنزل عليه القرآن، فكان ممَّا أنزل آية الرَّجم، ويأتي الكلام هناك إن شاء الله تعالى».
          (وَقَالَ الْحَسَنُ) أي: البصري، كذا في رواية الأكثرين، وعن الكُشْمِيْهَني وحده: / <وقال منصور> بدل: ((الحسن)) وزَيَّفُوه (مَنْ زَنَى بِأُخْتِهِ حَدُّهُ حَدُّ الزَّانِي) أي: كحدِّ الزَّاني وهو الجلد، وفي رواية الكُشْمِيْهَني: <حدُّه حَدُّ الزنى>. وصله ابن أبي شيبة عن حفص بن غياث قال: سألت عَمْرًا ما كان الحسن يقول فيمن تزوَّج ذات محرمٍ وهو يعلم؟ قال: عليه الحدُّ.
          وأخرج أيضًا ابن أبي شيبة من طريق جابر بن زيد، وهو أبو الشَّعثاء التَّابعي: فيمن أتى ذات محرمٍ منه قال: تُضْرَبُ عُنُقُه. ووجه الدَّلالة من حديث عليٍّ ☺ أنَّه قال: «رجمتها بسنَّة رسول الله صلعم »، فإنَّه لم يفرق بين ما إذا كان الزِّنى بمحرمٍ أو بغير محرمٍ.
          وأشار البخاري إلى ضَعْفِ الخبر الَّذي ورد في قتل من زنى بذات محرمٍ، وهو ما رواه صالح بن راشد، قال: أُتِيَ الحجَّاجُ برجلٍ قد اغتصبَ أخته على نفسها، فقال: اسألوا من هنا من أصحاب رسول الله صلعم ، فقال عبد الله بن أبي المطرف: سمعت رسول الله صلعم يقول: ((من تخطَّى الحرمتين فخطُّوا وسطه بالسيف)) قال: فكتبوا إلى ابن عبَّاس ☻ ، فكتب إليهم مثله، ذكره ابن أبي حاتم في «العلل».
          ونقل عن أبيه أنَّه روى عن مطرف بن عبد الله بن الشَّخير من قوله، قال: ولا أدري أهو هذا أم لا؛ يشير إلَّا أنَّه يجوز أن يكون الرَّاوي غلط فيه في قوله عبد الله بن أبي مطرف، وفي قوله: سمعت، وإنَّما هو مطرف بن عبد الله بن الشَّخير وأبو بردة فقال أحدهما: اضرب عنقه.
          قال الحافظ العسقلاني: وصالح بن راشد ضعيف، والرَّاوي عنه وهو رِفْدة، بكسر الراء وسكون الفاء: ضعيفٌ أيضًا، ويوضح ضعفه قوله فيه: فكتبوا إلى ابن عبَّاس، وابنُ عبَّاس ☻ مات قبل أن يلي الحجَّاجُ الإمارة بأكثر من خمس سنين، ولكن له طريقٌ أخرى إلى ابن عبَّاس أخرجها الطَّحَّاوي وضعَّف راويها.
          وأشهر حديث في الباب حديث البراء ☺: «لقيت خالي ومعه الرَّاية فقال: بعثني رسول الله صلعم إلى رجلٍ تزوَّج بامرأة أبيه أن أضرب عنقه»، / أخرجه أحمد، وأصحاب «السنن»، وفي سنده اختلافٌ كثير.
          وله شاهدٌ من طريق معاوية بن قرَّة، عن أبيه، أخرجه ابن ماجه والدَّارقطني، وقد قال بظاهره: أحمد، وحَمَلَه الجمهورُ على من استحلَّ ذلك بعد العلم بتحريمه بقرينة الأمر بأخذ ماله وقسمته.