نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولًا أن ينكح المحصنات}

          ░35▒ (بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} [النساء:25]) أي: غنًى واعتلاء وأصله الفضل والسَّعة، وهو مفعولٌ يستطيع ({أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ}) في موضع نصب بـ{طولًا}؛ أي: ومن لم يستطع أن يعتليَ نكاحَ المحصنات، أو بفعلٍ مقدَّر صفة له؛ أي: ومن لم يستطع غنًى يبلغُ به نكاحَ المحصنات؛ أي: الحرائر العفائف المؤمنات.
          ({فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}) أي: من إمائكم المؤمنات والفتيات، جمع: فتاة وهي الأمةُ، وفي ظاهره حجَّةٌ للشَّافعي حيث حرَّم نكاح الأمةِ على من ملك صداق حرَّةٍ، ومَنَعَ نِكاحَ الأمة الكتابيَّة مطلقًا، وهو المعروفُ من مذهب مالكٍ، وجوَّزه أبو حنيفة، وأوَّلَ التَّقييدَ بالاستحباب، واستدلَّ بأنَّ الإيمان ليس بشرطٍ في الحرائر اتِّفاقًا مع التَّقييد به.
          ({وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ}) يعني: هو العالمُ بحقائق الأمور فاكتفوا بظاهر الإيمان، فإنَّه العالم بالسَّرائر وبتفاضل ما بينكم في الإيمان فرُبَّ أَمَةٍ تفضل الحرَّة فيه، فمن حقِّكم أن تعتبروا فضل الإيمان لا فضل النَّسب، والمراد منعهم عن الاستنكافِ عن نكاحِ الإماء.
          ({بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}) فيه قولان: أحدهما: إنَّكم مؤمنون وأنتم أخوةٌ في الإسلام. والثَّاني: إنَّكم وإنَّهم بنو آدم. وإنَّما قيل لهم هذا فيما روي؛ لأنَّهم كانوا في الجاهليَّة يُعَيَّرُوْن بالهُجْنَةِ ويُسَمُّون ابنَ الأمة: هَجينًا، فقال تعالى: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}.
          ({فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ}) يدلُّ على أنَّ السَّيِّد هو وليُّ أمته لا تزوج إلَّا بإذنه، وكذلك هو وليُّ عبده ولا يُزَوَّجُ إلَّا بإذنه، كما في الحديث: ((أيُّما عبدٍ تزوَّج بغير إذن مواليه فهو مجاهر)) أي: زانٍ، وإن كان مالكُ الأَمَةِ امرأةٌ زوَّجها من يُزَوِّجُ المرأةَ بإذنها لِمَا جاء في الحديث: ((لا تزوِّج المرأُة المرأة، ولا تُزَوِّجُ المرأةَ نفسها، فإنَّ الزَّانية هي التي تزوج نفسها)). وهذا مذهب الشَّافعي. وعند الحنفيَّة: أنَّ لهنَّ أن يباشرنَ العقدَ بأنفسهنَّ على ما فصِّل في الفروع.
          ({وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}) أي: وأدُّوا إليهنَّ مهورهنَّ من غير مطلٍ وضرارٍ، ومُلَّاكُ مهورهنَّ مواليهنَّ، فكان أداؤها / إليهنَّ أداءٌ إلى مواليهنَّ؛ لأنَّهنَّ وما في أيديهنَّ مال الموالي أو التَّقدير: فآتوا مواليهنَّ فحذف المضاف.
          وقوله: {بِالْمَعْرُوفِ} أي: عن طيب نفسٍ منكم ولا تبخسوهنَّ منه شيئًا استهانةً بهنَّ؛ لكونهنَّ إماء مملوكات.
          ({مُحْصَنَاتٍ}) عفائف عن الزِّنى، ولهذا قال: ({غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ}) أي: غير زواني لا يمنعنَ أنفسهنَّ عن أحدٍ ({وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ}) أي: أخلاء، وهو جمع: خِدن، بكسر الخاء، وهو الصَّديق في السِّرِّ، وكذلك الخَدين، والمراد الزَّواني سرًّا ({فَإِذَا أُحْصِنَّ}) فيه قراءتان: إحداهما ضم الهمزة وكسر الصاد، والأخرى فتح الهمزة والصاد، فقيل: معنى القراءتين واحد.
          واختلفوا فيه على قولين: أحدُهما: أنَّ المرادَ بالإحصان الإسلامُ، روي ذلك عن ابن مسعودٍ وابن عمر وأنسٍ ♥ ، وعن الأسودِ بن يزيد وزِرِّ بن حُبيش وسعيد بن جُبير وعطاء وإبراهيم النَّخعي والشَّعبي والسُّدِّي، وبه قال مالكٌ واللَّيث والأوزاعي والكوفيُّون والشَّافعي، والآخرُ: أنَّ المرادَ التَّزويجُ وهو قول ابن عبَّاسٍ ومجاهد وعكرمة وطاوس والحسن وقتادة.
          ({فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ}) أي: بزنى ({فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ}) الحرائر ({مِنَ الْعَذَابِ}) أي: الحدِّ، وهو يدلُّ على أنَّ حدَّ العبدِ نصف حدِّ الحرِّ، وأنَّه لا يُرْجَمُ؛ لأنَّ الرَّجْمَ لا يتنصَّف وهو خمسون جلدةً وتغريب نصف سنة ({ذَلِكَ}) أي: نكاح الإماء عند عدم الطَّول ({لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ}) أي: لمن خاف الإثم الذي يؤدِّي إليه غلبة الشَّهوة، هكذا فسَّره الثَّعلبي، ويقال: العنت الزِّنى وهو في الأصل المشقَّة.
          ({وَأَنْ تَصْبِرُوا}) أي: وصبركُم عن نكاح الإماء متعففين ({خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ}) لمن يصبر ({رَحِيمٌ} [النساء:25]) بأن رخَّص له في ذلك. وسقط في رواية أبي ذرٍّ قوله: <{الْمُؤْمِنَاتِ}...> إلى آخره، وقال بعد {الْمُحْصَنَاتِ}: <الآية>، وسقط أيضًا في رواية الأَصيلي من قوله: <{وَاللَّهُ أَعْلَمُ}...> إلى آخره، وقال بعد قوله: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}: <إلى قوله: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}>، وزاد أبو ذرٍّ عن المُسْتَملي: <{غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} زواني {وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء:25] أَخِلَّاء> بفتح الهمزة وكسر المعجمة وتشديد اللام، جمع: خليل.
          قال الرَّاغب: وأكثر ما يستعملُ الخِدن فيمن يصاحب غيره لشهوةٍ. وأمَّا قول الشَّاعر: /
خَدِيْنُ الْمَعَالِي
          فهو استعارةٌ، والنُّكتة فيه: أن جعلَه يشتهي معالي الأمور، كما يشتهي غيره الصُّورة الجميلة فجعله خدينًا لها.