إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها

          1362- وبالسَّند قال: (حَدَّثَنَا) بالجمع، ولأبي ذَرٍّ: ”حدَّثني“ بالإفراد(1) (عُثْمَانُ) بن محمَّد بن أبي شيبة(2) الكوفيُّ، أحد الحفَّاظ الكبار، وثَّقه يحيى(3) بن معينٍ وغيره، وذكر الدَّارقُطنيُّ في «كتاب التَّصحيف» أشياء كثيرةً صحَّفها من القرآن في تفسيره؛ لأنَّه(4) ما كان يحفظ القرآن (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد، ولأبي ذَرٍّ: ”حدَّثنا“ بالجمع(5) (جَرِيرٌ) هو ابن عبد الحميد الضَّبِّيُّ (عَنْ مَنْصُورٍ) هو ابن المعتمر (عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ) بسكون العين في الأوَّل، وضمِّ الثانية(6) وفتح الموحَّدة، آخره هاءُ تأنيثٍ مصغَّرًا(7) في الثَّاني (عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) عبد الله بن حَبيبٍ؛ بفتح الحاء المهملة، السُّلَمِيُّ (عَنْ عَلِيٍّ) هو ابن أبي طالبٍ ( ☺ ، قَالَ: كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الغَرْقَدِ) بفتح الموحَّدة وكسر القاف، والغرقد؛ بفتح الغين المعجمة والقاف، بينهما راءٌ ساكنةٌ آخره دالٌ مهملةٌ: ما عَظُم من شجر العوسج، كان ينبت فيه، فذهب الشَّجر وبقي الاسم لازمًا للمكان، وهو مدفن أهل المدينة / (فَأَتَانَا النَّبِيُّ صلعم فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ) هذا موضع التَّرجمة مع ما بعده (وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ) بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وبالصَّاد المهملة، قال في «القاموس»: ما يتوكَّأ عليه كالعصا ونحوه، وما يأخذه الملِكُ يشير به إذا خاطب، والخطيب إذا خطب، وسُمِّيت بذلك لأنَّها تُحمَل تحت الخصر غالبًا للاتِّكاء عليها (فَنَكَّسَ) بتشديد الكاف وتخفيفها، أي: خفض رأسه وطأطأ به إلى الأرض على هيئة المهموم المفكِّر؛ كما هي عادة من يتفكَّر في شيءٍ حتَّى يستحضر معانيه، فيحتمل أن يكون ذلك تفكُّرًا منه ╕ في أمر الآخرة لقرينة حضور الجنازة، أو فيما أبداه بعد ذلك لأصحابه، أو نكس المِخْصرة (فَجَعَلَ يَنْكُتُ(8)) بالمثنَّاة الفوقيَّة، أي: يضرب في الأرض (بِمِخْصَرَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ) أي: (مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ) مصنوعةٍ مخلوقةٍ، واقتصر في رواية أبي حمزة [خ¦6605] والثَّوريِّ [خ¦4945] على قوله: «ما منكم من أحدٍ» (إِلَّا كُتِبَ) بضمِّ الكاف مبنيًّا للمفعول (مَكَانُهَا) بالرَّفع: مفعولٌ ناب عن الفاعل، أي: كتب الله مكان تلك النَّفس المخلوقة (مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ) «مِنْ» بيانيَّةٌ، وفي رواية‼ سفيان [خ¦4945]: «إلَّا وقد كُتِبَ مقعده من الجنة ومقعده من النَّار»، وكأنَّه يشير إلى حديث ابن عمر عند المؤلِّف الدَّال على أنَّ لكلِّ أحدٍ مقعدين، لكن لفظه في «القَدَر»(9) [خ¦6605](10): «إلَّا وقد كُتِبَ مقعده من النَّار أو من الجنَّة»، فـ «أو» للتَّنويع، أو هي بمعنى الواو (وَإِلَّا قَدْ(11) كُتِبَتْ) بالتَّاء آخره، وفي «اليونينيَّة» بحذفها (شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً) بالنَّصب فيهما، كما في الفرع على الحال، أي: وإلَّا كتبت هي، أي: حالها شقيَّةً أو سعيدةً، ويجوز الرَّفع، أي: هي شقيَّةٌ أو سعيدةٌ، ولفظ «إلَّا» في المرَّة الثَّانية في بعضها بالواو وفي بعضها بدونها، وهذا نوعٌ من الكلام غريبٌ(12)، وإعادة «إلَّا» يُحتَمَل أن يكون(13) «ما من نفسٍ» بدلًا(14) من: «ما منكم»، و«إلا» الثانية بدلًا من الأولى، وأن يكون من باب اللَّفِّ والنشر، فيكون فيه تعميم بعد تخصيص، إذ الثَّاني في كلٍّ منهما أعمُّ من الأوَّل، أشار إليه الكِرمانيُّ(15) (فَقَالَ رَجُلٌ) هو عليُّ بن أبي طالبٍ، ذكره المصنِّف في «التَّفسير» [خ¦4947] لكن بلفظ: «قلنا»، أو هو سراقة بن مالك بن جعشم كما في «مسلمٍ»، أو هو عمر بن الخطَّاب كما في التِّرمذيِّ، أو من حديث أبي(16) بكرٍ الصِّدِّيق(17) كما عند أحمد والبزَّار والطَّبرانيِّ، أو هو رجلٌ من الأنصار، وجُمِعَ بتعدُّد السَّائلين عن ذلك، ففي حديث عبد الله بن عمر فقال أصحابه: (يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا نَتَّكِلُ) نعتمد (عَلَى كِتَابِنَا) أي: ما كُتِبَ علينا وقُدِّر، والفاء في «أفلا» معقِّبةٌ لشيءٍ محذوفٍ، أي: فإذا(18) كان كذلك ألا(19) نتَّكل على كتابنا (وَنَدَعُ العَمَلَ؟) أي: نتركه (فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ) فسيجرُّ به(20) القضاء (إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ) قهرًا، ويكون مآل حاله ذلك بدون اختياره (وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ) فسيجرُّ به القضاء (إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ) قهرًا (قَالَ) ╕ : (أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ) أهل (السَّعَادَةِ) وفي نسخةٍ: ”فسييسَّرون“ (21) جُمِعَ الضَّمير في «فييسَّرون»(22) باعتبار معنى الأهل (وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ) أهل (الشَّقَاوَةِ) وحاصل السُّؤال: ألا نترك مشقَّة(23) العمل، فإنَّا سنصير إلى ما قُدِّر علينا، فلا فائدة في السَّعي؛ فإنَّه لا يردُّ قضاء الله وقدره، وحاصل الجواب: لا مشقَّة؛ لأنَّ كلَّ أحدٍ ميسَّرٌ لما خُلِقَ له، وهو يسيرٌ على من يسَّره الله عليه، قال في «شرح المشكاة»: الجواب من الأسلوب الحكيم منعهم عن الاتِّكال وترك العمل، وأمرَهُم بالتزام ما يجب على العبد من العبوديَّة، يعني: أنتم عبيدٌ، ولا بدَّ لكم من العبوديَّة، فعليكم بما أمرتكم، وإيَّاكم والتَّصرُّف في أمور الرُّبوبيَّة؛ لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56] فلا تجعلوا العبادة وتركها سببًا مستقلًّا لدخول الجنَّة والنَّار، بل هي علاماتٌ فقط. انتهى. (ثُمَّ قَرَأَ) ╕ : ({فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى} الاية[الليل:5]) وزاد أبوا ذرٍّ والوقت: ”{وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}“[الليل:6] وساق في رواية سفيان [خ¦4945] إلى قوله: {لِلْعُسْرَى}[الليل:10] فقوله: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى} أي(24): أعطى الطَّاعة، واتَّقى المعصية، وصدَّق بالكلمة الحسنى، وهي التي(25) دلَّت على حقٍّ؛ ككلمة التَّوحيد، وقوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}[الليل:7] فسنهيِّئه(26) للخلَّة التي تؤدِّي‼ إلى يسرٍ / وراحةٍ لدخول(27) الجنَّة {وَأَمَّا مَن بَخِلَ} بما أُمِرَ به {وَاسْتَغْنَى}[الليل:8] بشهوات الدُّنيا عن نعيم العقبى {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}[الليل:10] للخَلَّة الموجبة إلى العسر والشِّدَّة كدخول النَّار، وهذا الحديث أصلٌ لأهل السُّنَّة في أنَّ السَّعادة والشَّقاوة بتقدير الله القديم. واستُدِلَ به على إمكان معرفة الشَّقيِّ من السَّعيد(28) في الدُّنيا، كمن اشتُهِر له لسان صدقٍ وعكسه؛ لأنَّ العمل أمارةٌ على الجزاء على ظاهر هذا الخبر(29)، والحقُّ: أنَّ العمل علامةٌ وأمارةٌ، فيُحكم بظاهر الأمر، وأمرُ(30) الباطن إلى الله تعالى، وقال بعضهم: إنَّ الله أمرنا بالعمل، فوجب علينا الامتثال، وغيَّب عنَّا(31) المقادير لقيام الحجة، ونصب الأعمال علامة(32) على ما سبق في مشيئته، فمَن عدل عنه ضلَّ؛ لأنَّ القدر سرٌّ(33) من أسراره لا يطَّلع عليه إلَّا هو، فإذا دخلوا الجنَّة كُشِفَ لهم.
          ورواة هذا الحديث كوفيُّون إِلَّا جريرًا فرازيٌّ، وأصله كوفيٌّ، وفيه رواية تابعيٍّ عن تابعيٍّ عن صحابيٍّ، وفيه(34) التَّحديث، والعنعنة، والقول، وأخرجه أيضًا في «التَّفسير» [خ¦4947] و«القدر» [خ¦6605] و«الأدب» [خ¦6217]، ومسلمٌ في «القدر»، وأبو داود في «السُّنَّة»، والتِّرمذيُّ في «القدر»(35) و«التَّفسير»، وابن ماجه في «السُّنَّة».


[1] «بالإفراد»: مثبتٌ من (ب) و(س).
[2] «بن أبي شيبة»: سقط من (د).
[3] زيد في غير (د) و(س): «يحيى بن معين»، وهو تكرارٌ.
[4] في (م): «كأنَّه».
[5] «بالجمع»: مثبتٌ من (ب) و(س).
[6] في (ب) و(س) و(ص): «وضمِّها»، و(م): «ضمِّ العين».
[7] في (د): «تصغيرٌ».
[8] في (م): «ينكته».
[9] «في القدر»: سقط من (م).
[10] وهو من رواية علي بن أبي طالب ☺.
[11] في (د): «إلَّا وقد».
[12] قوله: «ولفظ إلَّا في المرَّة الثَّانية في بعضها بالواو وفي بعضها بدونها، وهذا نوعٌ من الكلام غريبٌ»، سقط من (د) و(ص) و(م).
[13] في (ص) و(م): «تكون».
[14] في (د): «بدلٌّ».
[15] «أشار إليه الكِرماني» سقط من (د) و(ص) و(م) و(ج)، وكتب على هامش (ج): بلا تصحيح.
[16] في (ص): «وهو أبو».
[17] «الصِّدِّيق»: ليس في (م).
[18] في (م): «إذا»، وفي (ب) و(س) و(ص): «أفإذا».
[19] في (ب) و(س): «لا».
[20] في (ب) و(س): «فسيجرُّه»، وفي (د): «فيستجيرُّ به»، وكذا في الموضع اللَّاحق.
[21] «وفي نسخة: فسييسرون»: مثبتٌ من (ب) و(س)، وزيد في (ب): «في الموضعين».
[22] «جمع الضمير في فييسرون»: سقط من (س).
[23] زيد في (د): «مِن».
[24] زيد(ص) و(م): «من».
[25] في (ص) و(م): «ما».
[26] في (د): «فنيسره».
[27] في غير (د): «دخول».
[28] في (د): «والسعيد».
[29] في (د): «الجزاء من على ظاهر هذا الحديث».
[30] في (د): «وأمَّا».
[31] في (د): «علينا».
[32] «علامة»: مثبتٌ من (د) و(س).
[33] «سرٌّ»: مثبتٌ من (د) و(س).
[34] «وفيه»: مثبتٌ من (ب) و(س).
[35] في غير (د): «المقدر»، وهو تحريفٌ.