شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب غسل ما يصيب من فرج المرأة

          ░29▒ بَابُ: غَسْلِ مَا يُصِيْبُ مِنْ فَرْجِ المَرْأَةِ.
          فيهِ: زَيْدُ بنُ خَالِدٍ: (أَنَّهُ سَأَلَ عُثْمَانَ بنَ عَفَّانَ: أَرَأَيْتَ إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَلَمْ يُمْنِ؟ قَالَ عُثْمَانُ: يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاةِ، وَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ، وَقَالَ عُثْمَانُ: سَمِعْتُ(1) مِنْ رَسُولِ اللهِ صلعم، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ عَلِيَّ بنَ أبي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرَ بنَ الْعَوَّامِ وَطَلْحَةَ بنَ عُبَيْدِ اللهِ وَأُبَيَّ بنَ كَعْبٍ، فَأَمَرُوْهُ بِذَلِكَ).
          وفيهِ: أَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ رَسُول اللهِ صلعم. [خ¦292]
          ورواه أَبُو أَيُّوبَ مَرَّةً عَنْ أُبيِّ بنُ كَعْبٍ، عَنِ النَّبيِّ صلعم، وَقَالَ(2): (يَغْسِلُ مَا مَسَّ المَرْأَةَ مِنْهُ وَ(3) يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي). [خ¦293]
          قَالَ البخاريُّ(4): الغَسْلُ(5) أَحْوَطُ، وذَلكَ الآخرُ إِنَّمَا(6) بَيَّنَّاهُ لاخْتِلَافِهِمْ.
          قال المُؤَلِّفُ(7): قال الأَثْرَمُ: سألت أحمدَ بن حَنْبَلٍ عن حديث عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ عن زيدِ بن خالدٍ قال: سألْتُ خمسةً مِن أصحابِ النَّبيِّ صلعم: عُثْمَانَ وعليًّا(8) وطلحةَ والزُّبِيْرَ وأُبَيَّ بنَ كَعْبٍ، فقالوا: الماءُ من الماءِ، فيه عِلَّةٌ؟ قال: نعم، ما يُروى مِن خلافه عنهم.
          وقال يَعْقُوْبُ بنُ شَيْبَةَ: سمعت عليَّ بنَ المَدِيْنِيَّ وسُئِلَ عن هذا الحديث، فقال: إسنادٌ حسنٌ، ولكنه(9) شاذٌ، قال(10) عليُّ بن زيدٍ:(11) قد(12) رُوِيَ عن عُثْمَانَ وعليٍّ وأُبَيٍّ بأسانيد حسان أنَّهم أفتوا بخلافه. قال يَعْقُوْبُ: وهو حديثٌ منسوخٌ، كانتْ هذه الفتيا في أوَّل الإسلام ثمَّ جاءت السُّنَّة بعد ذلك مِن رَسُولِ اللهِ صلعم: ((إِذَا جَاوَزَ الخَتَاُنُ الخَتَانَ، فَقَدْ وَجَبَ الغُسْلُ)). وروى(13) ابن وَهْبٍ عن عَمْرِو بنِ الحارثِ عن ابنِ شِهَابٍ قال: حدَّثني بعض مَن أرضى عن سَهْلِ بنِ سَعْدٍ، أنَّ(14) أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ أخبره: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم جَعَلَ المَاءَ مِنَ المَاءِ رُخْصَةً في أوَّلِ الإسلام، ثمَّ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ وأُمِرَ بالغُسْلِ بَعْدَ ذَلِكَ)). وقال(15) مُوسَى بنُ هَارُونَ: رواه أبو حازمٍ(16) عن سَهْلِ بنِ سَعْدٍ، وأظنُّ ابنَ شِهَابٍ سمعه منه، فهذا أُبَيٌّ يُخبر أنَّ هذا مِن(17) النَّاسخ لقوله: ((المَاءُ مِنَ المَاءِ)). وروى يحيى بن سَعِيدٍ عن عبدِ اللهِ بن كَعْبٍ عن محمودِ بن لَبِيْدٍ أنَّه سأل زيدُ بنُ ثابتٍ عن الرَّجُلِ يُصِيْبُ أَهْلَهُ ثمَّ يَكْسَلُ وَلَا يُنْزِلُ؟ فقال زيدٌ: يغتسلُ، فقلْتُ: إِنَّ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ كان لا يرى الغُسْل، قال: إنَّ أُبَيًّا نزع عن ذلك قبل أن يموت. فهذا أبيٌّ قد قال هذا، وقد روى عن النَّبيِّ صلعم خلافَهُ، فلا يجوز أن يقول هذا إلَّا وقد ثَبَتَ عنده نسخ ذلك، وأمَّا رُجُوع عُثْمَانَ، فرواه مالكٌ عن ابنِ شِهَابٍ عن سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ أنَّ عُمَرَ وعُثْمَانَ وعَائِشَةَ كانوا يقولون: إذا مسَّ الخِتانُ الخِتانَ فقد وجب الغُسْلُ، فلا يجوز أن يقول هذا عُثْمَانُ إلَّا وقد ثَبَتَ عنده النَّسخ. وأمَّا رُجُوع عليٍّ فرواه مَعْمَرٌ عن عبدِ(18) اللهِ بنِ محمَّدِ بنِ عَقِيْلٍ عن عليٍّ قال: كما يجب الحدُّ كذا(19) يجب الغُسْلُ، ورواه الثَّوْرِيُّ عن أبي جعفرٍ عن عليٍّ، ثمَّ قد كشف عن ذلك عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ ☺ بحضرة أصحاب رَسُولِ اللهِ صلعم مِن المهاجرين والأنصار فلم يثبت عنده إلَّا الغُسْل، فحمل النَّاس عليه، فسلَّموا لأمره، فدلَّ ذلك على رُجُوعهم إلى قوله. وروى اللَّيْثُ عن يَزِيْدَ بنِ أبي حَبِيْبٍ عن مَعْمَرِ بنِ أبي حُيَيَّةَ، عن عبدِ(20) اللهِ بن عَدِيِ بن الخِيَارِ قال: تَذَاكَرَ أصحابُ رَسُولِ اللهِ صلعم عندَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ الغُسْلَ منَ الجنابةِ، فقالَ بعضُهم: إذا جاوزَ الخِتانُ الخِتانَ فقدْ وَجَبَ الغُسْلُ، وقالَ بعضُهم: الماءُ مِنَ الماءِ. فقالَ عُمَرُ: قد اختلفتم وأنتم أهلُ بدرٍ الأخيار، فكيف بالنَّاس بعدكم؟! فقالَ عليٌّ: يا أمير المؤمنين، إن أردت أن تعلم ذلك فأرسل إلى أزواج النَّبيِّ صلعم فسلهنَّ(21) عن ذلك، فأرسلَ إلى عَائِشَةَ، فقالت: إذا جاوزَ الخِتانُ الخِتانَ فقد وَجَبَ الغُسْلُ، فقال عُمَرُ عند ذلك: لا أسمع أحدًا يقول: الماءُ مِن الماءِ إلَّا جعلته نكالًا، فحمل النَّاس عليه ولم ينكره عليه منكرٌ. قال الطَّحَاوِيُّ: فهذا وجه هذا الباب مِن طريق الآثار، وأمَّا من طريق النَّظر فإنَّا رأيناهم لم يختلفوا أنَّ الجماع في الفَرج الَّذي لا إنزال معه حدثٌ، فقال قومٌ: هذا(22) أغلظ الأحداث، فأوجبوا فيه أغلظ الطَّهارات وهو الغُسْلُ، وقال قومٌ: هو كأخفِّ الأحداث فأوجبوا فيه الوضوء، فأردنا أن ننظر في ذلك لنعلم / الصَّواب فيه فوجدنا أشياء يوجبها الجماع وهو فساد الصِّيام والحجِّ، فكان ذلك بالتقاء الختانين وإن لم يكن معه إنزالٌ فيوجب ذلك في الحجِّ: الدَّم وقضاء الحجِّ، ويوجب في الصِّيام: القضاء والكفَّارة، ولو جامعَ فيما دون الفرج لوجب عليه في الحجِّ الدَّم فقط، ولم يجب عليه في الصِّيام شيءٌ إلَّا أنْ يُنزل(23)، وكذلك مَن(24) زنا بامرأةٍ وإن لم يُنزل فعليه الحدُّ، ولو فعل ذلك على وجه شبهةٍ لسقط عنه الحدُّ ووجب عليه المهر، وكان لو جامعها فيما دون الفرج لم يجب عليه حدٌ ولا مهرٌ ولكنَّه يُعَزَّرُ إن لم يكن هناك شبهةٌ(25)، وكذلك مَن تزوَّج امرأةً فجامعها في الفرج ثمَّ طلَّقها كان عليه المهر أنزل أو لم يُنزل ووجبت عليها العِدَّة وأحلَّها ذلك لزوجها الأوَّل، فإنْ(26) جامعها فيما دون الفرج لم يجب عليه(27) شيءٌ وكان عليه في الطَّلاق نصف المهر إن كان سمَّى لها مهرًا، أو المتعة إن لم يكن سمَّى لها مهرًا، فلمَّا وجب في هذه الأشياء التي لا إنزال معها ما يجب في الجِماع الَّذي معه الإنزال مِن الحدِّ والمهر(28) وغير ذلك، فالنَّظر على ذلك(29) أن يكون فيه أغلظ مَا(30) يجب في الأحداث وهو الغُسْل. وحجَّةٌ أخرى: وهو أنَّا رأينا هذه الأشياء التي وجبت بالْتقاء الختانين إذا كان بعدها الإنزال لم يجب للإنزال حكمٌ ثانٍ، وإنَّما الحكم لالتقاء الختانين، ألَا ترى(31) لو أنَّ رجلًا زنا بامرأةٍ والتقى(32) ختاناهما وجب عليهما الحدُّ بذلك، ولو أقام عليها حتَّى أنزل لم تجب عليه عقوبةٌ غير الحدِّ الَّذي وجب عليه لالتقاء الختانين، فكان الحكم في ذلك هو لالتقاء الختانين لا للإنزال الَّذي بعده، فالنَّظر في ذلك أن يكون الغُسْلُ(33) لالتقاء الختانين لا للإنزال الَّذي بعده، قاله الطَّحَاوِيُّ.


[1] في (م) والمطبوع و(ص): ((سمعته)).
[2] في (ص): ((أنه قال)).
[3] في (م): ((ثمَّ)).
[4] في (م): ((قال أبو عبد الله)).
[5] في (ص): ((والغسل)).
[6] في (م): ((وهذا الأخير إنَّما))، وفي المطبوع: ((وإنَّما)).
[7] قوله: ((قال المُؤَلِّفُ)) ليس في (م).
[8] في (م): ((عثمان بن عفَّان وعليُّ بن أبي طالب))، وفي المطبوع و(ص): ((وعليٌّ)).
[9] زاد في (م) والمطبوع و(ص): ((حديث)).
[10] في المطبوع: ((فإنَّ)).
[11] قوله: ((بن زيد)) ليس في (م).
[12] في (ص): ((وقد)).
[13] في (م): ((روى)).
[14] في (ص): ((عن)).
[15] في (م): ((قال)).
[16] في (ص): ((رواه ابن وهب)).
[17] في (م): ((هو)).
[18] في (ص) تحتمل: ((عبيد)).
[19] قوله: ((كذا)) ليس في المطبوع، وفي (م): ((كذلك)).
[20] في المطبوع: ((عبيد)).
[21] في المطبوع: ((فاسألهنَّ)).
[22] في (م): ((هو)).
[23] قوله: ((فيوجب ذلك في الحجِّ: الدَّم وقضاء الحجِّ، ويوجب في الصِّيام: القضاء والكفَّارة، ولو جامع فيما دون الفرج لوجب عليه في الحجِّ الدَّم فقط، ولم يجب عليه في الصِّيام شيءٌ إلَّا أن يُنزل)) ليس في (م).
[24] في المطبوع: ((لو)).
[25] قوله: ((ولو فعل ذلك على وجه شبهةٍ لسقط عنه الحدُّ ووجب عليه المهر، وكان لو جامعها فيما دون الفرج لم يجب عليه حدٌّ ولا مهرٌ ولكنَّه يُعَزِّر إن لم يكن هناك شبهةٌ)) ليس في (م).
[26] في (م): ((ولو)).
[27] زاد في (م): ((من ذلك)).
[28] في (م): ((من الحدود والمهور)).
[29] في (م): ((هذا)).
[30] في المطبوع و(ص): ((ممَّا)).
[31] قوله: ((وحجَّةٌ أخرى: وهو أنَّا رأينا هذه الأشياء التي وجبت بالتقاء الختانين إذا كان بعدها الإنزال لم يجب للإنزال حكمٌ ثانٍ، وإنَّما الحكم لالتقاء الختانين، ألا ترى)) ليس في (م)، وبعدها في (م): ((ولو)).
[32] في (م): ((فالتقى)).
[33] زاد في (م): ((هو)).