شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الغسل بالصاع ونحوه

          ░3▒ بَابُ: الغُسْلِ بِالصَّاعِ وَنَحْوِهِ.
          فيهِ: أَبُو سَلَمَةَ: (أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ مَعَ أَخِيهَا، فَسَأَلَهَا أَخُوهَا(1) عَنْ غُسْلِ رَسُولِ اللهِ صلعم، فَدَعَتْ بِإِنَاءٍ نَحْوٍ مِنْ صَاعٍ(2)، فَاغْتَسَلَتْ، وَأَفَاضَتْ على رَأْسِهَا، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهَا حِجَابٌ). [خ¦251]
          وفيهِ: جَابِرٌ: (أَنَّه سُئِلَ عَنِ الغُسْلِ، فَقَالَ: يَكْفِيكَ صَاعٌ. فَقَالَ رَجُلٌ(3): مَا يَكْفِينِي، قَالَ(4) جَابِرٌ: قَدْ(5) كَانَ يَكْفِي مَنْ هُوَ أَوفى(6) مِنْكَ شَعَرًا، وَخَيْرٌ مِنْكَ، ثمَّ أَمَّنَا في ثَوْبٍ(7)). [خ¦252]
          وفيهِ: ابنُ عَبَّاسٍ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم وَمَيْمُونَةَ كَانَا يَغْتَسِلانِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ). [خ¦253]
          اختلف(8) أهل الحجاز وأهل العراق في مقدار الصَّاع الَّذي كان يغتسل به النَّبيُّ صلعم، فذهب أهل الحجاز إلى أنَّه(9) خمسة أرطالٍ وثُلُثٌ، وذهب أهل العراق إلى أنَّ وزنه ثمانية أرطالٍ، واحتَجُّوا بما رواه موسى بن الجَهْمِ الجَهْمِيُّ(10) عن مجاهدٍ قال: دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ فَاستَسقَى(11) بَعْضُنا، فأُتي بِعُسٍّ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: ((كَانَ النَّبيُّ صلعم يَغْتَسِلُ بِمِثْلِ(12) هَذَا)). قال مجاهدٌ: فحزرته ثمانية أرطالٍ، تسعة أرطالٍ، عشرة أرطالٍ. واحتَجَّ أهل المدينة بحديث عَائِشَةَ المتقدِّم في الباب قبل هذا قالت(13): ((كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنِّبِيُّ صلعم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ قَدَحٍ يُقَالُ لَهُ: الفَرَقُ)) [خ¦250]. وقد ذكرنا هناك أقوال العلماء أنَّ الفَرَق ثلاثة أَصْوُعٍ، وهو(14) ستَّة عشر رطلًا. وإذا صحَّ ذلك فنصف الفَرَق صاعٌ ونصفٌ، وذلك(15) ثمانية أرطالٍ، ثبت(16) أنَّ الصَّاع ثُلُثاها(17)، وذلك خمسة أرطالٍ وثُلُثٌ على ما قاله أهل المدينة. / وقد رَجَعَ أبو يُوسُفَ القاضي إلى قول مالكٍ في ذلك حين قدم إلى(18) المدينة فأخرج إليه مالكٌ صاعًا وقال له: هذا صاع النَّبيِّ صلعم، قال أبو يُوسُفَ: فقدَّرته فوجدته خمسة أرطالٍ وثُلُثٌ، وأهل المدينة أعلم بمكيالهم، ولا يجوز أن يخفى عليهم قدره ويعلمه أهل العراق، وإنَّما توارث أهل المدينة مقداره خلفًا عن السَّلف(19)، نقل ذلك عالمهم وجاهلهم، إذْ كانت الضَّرورة بهم إليه فيما خصَّهم مِن أمر دينهم في زكواتهم وكفَّاراتهم وبيوعهم، ولا يجوز أن يترك مثل نقل هؤلاء الَّذين لا يجوز عليهم التَّواطؤ والتَّشاعر إلى رواية واحدٍ تحتمل روايته التَّأويل، وذلك أنَّ قول مجاهدٍ: فحزرته فوجدته ثمانية أرطالٍ إلى تسعة أرطالٍ إلى عشرة أرطالٍ. لم يقطع حزره على حقيقة في ذلك، إذ الحازر(20) لا يُعْصَمُ مِن الغلط وتُعْصَمُ منه الكافَّة الَّتي نقلت مقداره بالوزن لا بالحزر، وأيضًا فإن ذلك العُسَّ لو صَحَّ(21) أنَّ مقداره(22) عشرة أرطالٍ، أو تسعة(23)، لم يكن لهم في ذلك حجَّةٌ، إذ ليس في الخبر مقدار الماء الَّذي كان يكون فيه، هل هو ملؤه أو أقلُّ مِن ذلك؟ فقد يجوز أن يغتسل هو(24) ◙ وحدَه بدون ملئه، وقد يجوز أن يغتسل هو وهي بملئه، فيكون بينهما عشرة أرطالٍ أو أقلُّ، فيوافق ما قاله(25) أهل المدينة. فلمَّا احتمل هذا ولم يكن في الخبر بيانٌ يُقطع به لا يجوز خلافه، كان المصير إلى ما نقل أهل المدينة _خلَفهم عن سلفهم_ أنَّ الصاَّع وزنه خمسة أرطالٍ وثُلُثٍ، مع ما ثبت عنْ عَائِشَةَ: أنَّها كانت تغتسل هي وهو صلعم مِن قدحٍ يُقال له: الفَرَق(26). وقد رُوِيَ عن النَّخَعِيِّ وهو إمامُ أهل الكوفة ما يُخالف قول الكوفيين ويوافق قول أهل المدينة. وذكر ابن أبي شَيْبَةَ عن حُسَيْنِ بن عليٍّ(27) عن زائدةَ عن منصورٍ عن إبراهيمَ قال: كان يُقال: يكفي الرَّجُلَ(28) لغسله ربعُ الفَرَق، قال غيره: وإنَّما احتيج إلى مقدار(29) الماء الَّذي كان يغتسل به صلعم ليردَّ به قول الإباضيَّة في الإكثار مِن الماء، وهو مذهبٌ قديمٌ، وجملة الآثار المنقولة في ذلك عن النَّبيِّ صلعم يدلُّ على(30) أنَّه لا توقيت فيما يكفي من الغُسْلِ والطَّهارة؛ ولذلك(31) استحبَّ السَّلف ذكر المقدار من غير كيلٍ. وروى(32) عبدُ الرزَّاق عن ابن جُرَيْجٍ، قال: قلت لعَطَاءٍ: كم بلغك أنَّه يكفي الجُنُب؟ قال: صاعٌ للغُسْلِ مِن غير أن يُكال، قال ابن جُرَيْجٍ: وسمعت عُبَيْدَ بنَ عُمَيْرٍ يقول مثله. روى(33) القَعْنَبِيُّ عن سُلَيْمَان بنِ بلالٍ عن عبدِ الرَّحمن بنِ عَطَاءٍ، قال: إنَّه سمع سَعِيدَ بنَ المُسَيَّبِ وسأله رجلٌ مِن أهل العراق عمَّا يكفي الإنسان في غُسْلِ الجنابة، فقال سَعِيدٌ: إنَّ لي تَوْرًا يسعُ مُدَّي(34) ماءً أو نحوهما، أغتسل به فيكفيني ويفضل منه فضلٌ، فقال الرَّجل: والله إنِّي لأستنثر بمدَّين من ماءٍ، فقال سعيد: فما تأمرني(35) إن كان الشَّيطان يلعب بك، فقال له سَعِيدٌ(36): ثلاثة أمدادٍ، فقال الرَّجل(37): هو قليلٌ، فقال سَعِيدٌ: فصاعٌ. قال عبدُ الرَّحمن: فذكرته لسُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ فقال مثله، وذكرته لأبي عُبَيْدَةَ بنِ محمَّدِ بنِ عمَّارِ بن ياسرٍ فقال: هكذا سمعنا أصحاب رَسُولِ الله صلعم يقولون.


[1] قوله: ((أخوها)) ليس في (م).
[2] في المطبوع و(ص): ((الصَّاع)).
[3] قوله: ((رجل)) ليس في (م).
[4] في (ص): ((فقال)).
[5] قوله: ((قد)) ليس في (م).
[6] في (م): ((أوفر)).
[7] قوله: ((ثمَّ أمَّنا في ثوبٍ)) ليس في (م).
[8] زاد في (م): ((العلماء)).
[9] في (م): ((إلى أنَّ وزنه)).
[10] في (م): ((موسى الجهيني)). في (ص): ((الجهني)).
[11] في المطبوع و(ص): ((واستسقى)).
[12] في المطبوع: ((مثل)).
[13] في (ص): ((قال)).
[14] في المطبوع و(ص): ((وهي)).
[15] في (م): ((وزنه)).
[16] في (م): ((وثبت)).
[17] في المطبوع و(م) و(ص): ((ثلثها)).
[18] قوله: ((إلى)) ليس في (م).
[19] في (م) و(ص): ((سلف)).
[20] في المطبوع و(م) و(ص): ((الحزر)).
[21] كتب في حاشية (ص): ((فلو صح)).
[22] في (م): ((وأيضًا فلو صحَّ أنَّ ذلك العُسَّ مقداره)).
[23] زاد في المطبوع: ((أرطال)).
[24] قوله: ((هو)) ليس في (م).
[25] في (م): ((قال)).
[26] زاد في (م): ((وهو ثلاثة آصاع)).
[27] قوله: ((ابن علي)) ليس في (ص).
[28] في (ص): ((للرجل)).
[29] في (م): ((إلى تحقيق لمقدار)).
[30] قوله: ((على)) ليس في (م).
[31] في المطبوع و(ص): ((لذلك)).
[32] في (م): ((روى)) تحتمل في (ص).
[33] في (ص): ((وروى)).
[34] في المطبوع و(ص): ((مدَّين)).
[35] في المطبوع: ((فما تأمن)).
[36] في (م): ((فقال سعيد له)).
[37] في المطبوع: ((فقال: آلله)).