شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب تفريق الغسل والوضوء

          ░10▒ بَابُ: تَفْرِيقِ الغُسْلِ وَالوُضُوءِ.
          وَيُذْكَرُ عَنِ ابنِ عُمَرَ أَنَّهُ غَسَلَ قَدَمَيْهِ(1) بَعْدَمَا جَفَّ وَضُوءُهُ.
          فيهِ: مَيْمُونَةُ قَالَتْ: (وَضَعْتُ للنَّبيِّ صلعم مَاءً يَغْتَسِلُ بِهِ) وذكر الحديث إلى قوله: (ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى جَسَدِهِ، ثمَّ تَنَحَّى مِنْ مُغْتَسَلِهِ(2) فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ). [خ¦265]
          اختلف العلماء في تفريق الوضوء والغُسْل(3)، فممَّن(4) أجاز ذلك: ابنُ عُمَرَ وابنُ المُسَيَّبِ وعَطَاءٌ وطَاوُس والنَّخَعِيُّ والحَسَنُ والثَّوْرِيُّ وأبو حنيفةَ والشَّافعيُّ ومحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ الحَكَمِ. وممَّن لم يُجز تفرقته(5): عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، وهو قول قَتَادَةَ ورَبِيْعَةَ والأوزاعيِّ واللَّيثِ إذا فرَّقه حتَّى جفَّ، وهو ظاهر مذهب مالكٍ إذا فرَّقه حتَّى جفَّ، فإنْ(6) فرَّقه يسيرًا جاز، وإن فرَّقه على وجه النِّسيان يُجزئه وإن طال، وأمَّا إن تَعَمِّدَ ذلك فلا يُجزئه. هذا قول ابنِ القَصَّارِ. قال(7): ومِن أصحاب مالكٍ من قال: الموالاة مستحبَّة، وروى(8) ابن وَهْبٍ عن مالكٍ قال: ولو نَزَعَ خُفَّيه وأقام طويلًا لم يغسل رجليه فأحبُّ(9) إليَّ أن يَأْتَنِفَ الوضوء، وإن غسل رجليه وصلَّى أجزأه. وحجَّة مَن أجاز تفرقته(10)، حديث مَيْمُونَةَ: ((أَنَّ النَّبيِّ صلعم تَنَحَّى عَنْ(11) مَقَامِهِ، فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ))، وفِعْلُ ابن عُمَرَ، ولو كان لا يُجزئه(12) لبيَّنه ◙، واحتَجُّوا أيضًا بأنَّ الله تبارك و(13) تعالى أمر المُتَوَضِّئ بغسل الأعضاء، / فمن أتى بغسل ما أُمر به مُتَفَرِّقًا فقد أدَّى ما أُمر به، والواو في الآية لا تُعطي الفور. وقال الطَّحَاوِيُّ: جفوف(14) الوضوء ليس بحدثٍ فلا ينقض، كما أن جفوف سائر الأعضاء لا يبطل الطَّهارة.
          واحتَجَّ من لم يُجِزِ التَّفرقة بأنَّ التَّنحِّي في حديث مَيْمُوْنَةَ مِن موضع الغُسْلِ يقرب ويبعد، واسم التَّنحِّي بالقرب أولى، وأمَّا(15) جفوف الوضوء في فعل ابن عُمَرَ فلا يكون إلَّا بالبعد، لكن الَّذي مضى عليه عمل النَّبيِّ صلعم الموالاة، وتواطأ على ذلك فعل السَّلف، واحتَجَّ أهل المقالة الأولى أيضًا أنَّه(16) لما جاز التَّفريق اليسير جاز الكثير، أصله الحجُّ، وعكسه الصَّلاة(17)؛ لأنَّه لو وقف بعرفة وطاف يوم النَّحر أجزأه، وهذا تفريقٌ يسيرٌ، ولو وقف وطاف بعد شهرٍ أجزأه، ولو طاف خمسة أشواطٍ(18) وطاف شوطين في وقت آخر أجزأه.
          فعارضهم أهل المقالة الثَّانية، فقالوا: أمَّا قياسكم على التَّفريق اليسير فغلطٌ؛ لأنَّ الأصول قد جوَّزت العمل اليسير في الصَّلاة ومنعت مِن الكثير، ولو تعمَّد قتل عقربٍ، أو دبَّ ليسدَّ الصَّفَّ جاز، ولو اشتغل بإخراج غريقٍ وهو في الصَّلاة بَطَلَتِ الصَّلاة، والقياس على الصَّلاة أولى من القياس على الحجِّ؛ لأنَّ الطَّهارة تُرَادُ للصَّلاة.


[1] في (ص): ((قدمه)).
[2] في (م): ((مقامه)).
[3] في (م): ((الغسل والوضوء)).
[4] في (ص): ((فمن)).
[5] في (م) و(ص): ((تفريقه)).
[6] في المطبوع: ((وإن)).
[7] قوله: ((قال)) ليس في (م).
[8] في (م): ((روى)).
[9] في المطبوع: ((وأحبُّ)).
[10] في (م): ((تفريقه)).
[11] في (م): ((من)).
[12] في (م): ((لا يجزئ)).
[13] قوله: ((تبارك و)) ليس في المطبوع و(م).
[14] في (م): ((جفاف)) وكذا ما بعدها في موضعين.
[15] في (ص): ((فأما)).
[16] في (م): ((بأنَّه)).
[17] قوله: ((وعكسه الصَّلاة)) ليس في (م).
[18] قوله: ((وطاف يوم النحر أجزأه، وهذا تفريق يسير، ولو وقف وطاف بعد شهر أجزأه، ولو طاف خمسة أشواط)) ليس في (م).