شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من توضأ في الجنابة ثم غسل سائر جسده

          ░16▒ بَابُ: مَنْ تَوَضَّأَ في غُسْلِ(1) الجَنَابَةِ ثمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ وَلَمْ يُعِدْ غَسْلَ مَوَاضِعِ الوُضُوءِ منه مَرَّةً أُخْرَى.
          فيهِ: مَيْمُونَةُ: (أَنَّها وَضَعَتْ للنَّبيِّ صلعم وَضُوء الجَنَابَة، فَأَكْفَأَ بِيَمِينِهِ عَلَى يَسَارِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا، ثمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ، ثمَّ أَفَاضَ(2) عَلَى رَأْسِهِ المَاءَ، ثمَّ غَسَلَ جَسَدَهُ)، الحديث. [خ¦274]
          أجمع العلماء على أنَّ الوضوء ليس بواجبٍ في غُسْلِ الجنابة، ولذلك قال ابنُ عُمَرَ: وأيُّ وضوءٍ أعمُّ مِن الغُسْلِ؟ فلمَّا ناب غسل مواضع الوضوء وهي سُنَّةٌ في الجنابة عن غسلها في الجنابة، وغُسْلُ الجنابة فريضةٌ، صحَّ بذلك قول مُطَرِّفٍ وابنِ المَاجِشُونِ وابنِ كنانةَ وابنِ وَهْبٍ وابنِ نافعٍ(3) وأَشْهَبَ: أنَّ غُسْلَ الجمعة يُجزئ عن غُسْلِ الجنابة، ورووه كلُّهم عن مالكٍ، وهو(4) خلاف رواية ابن القَاسِمِ. قال أبو القَاسِمِ(5) المُهَلَّبُ: ووجه ذلك أنَّ النَّبيَّ صلعم لما اجتزأ بغسل أعضاء الوضوء عن أن يغسلها مرَّةً أخرى للجنابة دلَّ أنَّ الطَّهارة إذا نوى بها رفع الحدث أجزأت عن كلِّ معنًى يُرَادُ به استباحة الصَّلاة، وهَذا(6) الحديث _والله أعلم_ قال عَطَاءٌ: إذا غَسَلْتُ كَفَّيَّ قبلَ إدخالهما الإناء لم أغسلهما مع الذِّراعين في الوضوء. وفي هذا الحديث أيضًا حجَّةٌ لأحدِ قولي مالكٍ في رَجُلٍ توضَّأ للظُّهر ثمَّ صلَّى، ثمَّ أراد أن يُجَدِّدَ الوضوء للعصر للفضل، فلمَّا صلَّى العصر ذكر أنَّ الوضوء الأوَّل قد(7) انتقض، فقال مرَّة: تُجزئه صلاته، وقال مرَّة: إنَّها لا تُجزئه، والصَّواب أنَّها تجزئه؛ لأنَّ الوضوء عنده للسُّنن تُجزئ به صلوات الفرائض، ومثل / هذه المسألة اختلاف ابن القَاسِمِ و(8) ابن المَاجِشُونِ فيمن صلَّى في بيته ثمَّ صلَّى تلك الصَّلاة في المسجد، فذكر أنَّه كان صلَّى في بيته على غير وضوء، فقال ابنُ القَاسِمِ: تُجزئه. وقال ابنُ المَاجِشُونِ: لا تُجزئه. وقول ابنِ القَاسِمِ الصَّواب بدليل هذا الحديث، لأنَّه(9) وإن كان صلَّاها على طريقة الفضيلة، فإنَّه نوى بها تلك الصَّلاة بعينها والقربة إلى الله ╡ بتأديتها كما نوى بغسل يديه وغسل مواضع الوضوء القربة إلى الله ╡ ولم يحتجْ إلى إعادتها في الغُسْلِ من الجنابة، وقد قال ابنُ عُمَرَ للَّذي سأله عن الَّذي يُصَلِّي في بيته ثمَّ يُصَلِّي تلك الصَّلاة في المسجد: ((أَيَّهَمَا أَجْعَلُ صَلَاِتي؟ قَاَل(10): أَوَذَلِكَ إِلَيْكَ؟ هِيَ(11) إِلَى اللهِ ╡ يَجْعَلُ أَيَّتُهُمَا شَاءَ)).
          وقوله في الحديث في الباب قبل هذا: ((ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ)) كان أولى بهذه التَّرجمة، وهو مبيِّنٌ(12) لرواية مَن روى فيه: ((ثمَّ أَفَاضَ عَلَى جَسَدِهِ المَاءَ، وَصَبَّ أَوْ أَفْرَغَ عَلَى جَسَدِهْ))، أنَّ المراد(13) بذلك: الغُسْل لما بقي مِن الجسد دون أعضاء الوضوء، بدليل قوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيْلٍ حَتَّيَ تَغْتَسِلُوا}[النِّساء:43]، وقد تقدَّم مِن الحجَّة في هذه المسألة في أوَّل كتاب الغُسْلِ ما فيه كفايةٌ [خ¦249].


[1] قوله: ((غسل)) ليس في المطبوع و(م) و(ص).
[2] في (م): ((وضوء الجنابة فغسل يديه ثمَّ توضَّأ وضوء الصَّلاة ثمَّ أفاض)).
[3] في (م): ((وابن نافعٍ وابن وهبٍ)).
[4] في المطبوع و(م) و(ص): ((وهي)).
[5] قوله: ((أبو القاسم)) ليس في المطبوع و(م).
[6] في المطبوع و(م) و(ص): ((ولهذا)).
[7] زاد في (م): ((كان)).
[8] زاد في (م): ((اختلاف)).
[9] في المطبوع و(ص): ((فإنَّه)).
[10] في المطبوع و(ص): ((فقال)).
[11] في (ص): ((هن)).
[12] في المطبوع و(ص): ((تبيين)).
[13] في المطبوع و(ص): ((على جسده، والمراد)).